عندما يُسهم الإبتكار في مجال الطاقة الشمسية في كتابة تاريخ الطيران
لا شك أن ما نشاهده اليوم من تحليق هذه الأعداد الكبيرة والمتنوعة من الطائرات في السماء هو إنتصار تقني كبير، ومُحصلة قرون عديدة من الأحلام وعقود من التجارب والمحاولات. واليوم، توظف الطائرة الشمسية ‘سولار إمبُلس’ تقنيات فائقة لتسخير شكل بسيط من أشكال الطاقة كان متوفراً منذ الأزل.
يمكن تلخيص القدرة على الطيران بالموازنة الحساسة والدقيقة جداً لثلاثة عوامل، هي التصميم والوزن والطاقة. وبدون التناغم التام بين هذه العوامل الثلاثة، سوف تكون الغَلَبة للجاذبية الأرضية في النهاية دائماً. وعند دراسة الطيور، نرى أنها مخلوقات ذات هياكل عظمية خفيفة ومعدل أيض مرتفع إلى درجة تجعلها تصفق جناحيها لتنطلق مُبتعدة عن الأرض ومحلِّقة بين تيارات الهواء. وقد ساهمت ملايين الأعوام من التطور في تشكيل التصميم الحالي لأجسام هذه الحيوانات.
ومتى ما استوعب الإنسان هذه المباديء وفَهِمَها تماماً، لم يتطلب وَضعَه في الهواء وتحقيقه لحلم الطيران سوى بضعة أعوام. ومنذ بدء تاريخ الطيران وحتى يومنا الحالي، ظلت المباديء الفيزيائية التي تُمكِّن أي مركبة جوية من الطيران دون أي تغيير: ما عليك إلّا أن تحقق التوازن الصحيح في التحكم بالتصميم والوزن الإجمالي والطاقة المُتاحة.
الطيران والوقود
المباديء الفيزيائية للطيران هي نفسها في جميع الطائرات، سواء كانت من نوع “رايت فلايَر” [وهي أول طائرة أثقل من الهواء تعمل بالطاقة صمّمها وصنعها الأخوان رايت]، أو “سوبويث كاميل” البريطانية المقاتلة ذات السطحين، أو “P-51 موستانج” الأمريكية المقاتلة، أو “غلوستر ميتيور” البريطانية المقاتلة، أو من طراز ميغ 29 الروسية المقاتلة، أو من نوع “بوينغ 747” – كلما زاد حجم الطائرة ووزنها، كلما ازدادت حاجتها للطاقة التي تمكنها من الإقلاع والإنطلاق بعيداً عن سطح الأرض.
وعندما تكون مُضطراً للإقلاع من مَدرج قصير مثلاً، فأنت بحاجة للمزيد من الطاقة. وعندما تود الطيران بسرعة كبيرة، عليك بالمزيد من الطاقة. وحينما يكون المطلوب أن تحوم كالطائر الطنان في آلة طيران تزن عدّة أطنان، فانت بحاجة إلى المزيد من الطاقة أيضاً. كما يكمن الجواب في طاقة تفوق هذه كثيراً عندما يتعيّن عليك الإنطلاق من الأرض والدخول في الفضاء الخارجي.
لقد كان توفر كميات هائلة من الطاقة التي أمكن الحصول عليها بأساليب كيميائية وميكانيكية، هو المفتاح الذي فتح أبواب السماء للإنسان، كما جاء تطور تصميم محركات هذه الآلات الطائرة بالتوازي مع وصول هذه الطائرات لمديات أبعد وأكثر إرتفاعاً. بَيد أنَّ المشكلة في هذه الأنواع من المكائن هي استهلاكها لبعض المواد بغية تحرير ما تحتاجه من طاقة.
وكما تحرق الطائرات الوقود، تفعل الطيور الشيء ذاته، محولة ما تتناوله من غذاء إلى سعرات من الطاقة. وكما يبدو جلياً من خلال التماثيل المُنتشرة في المدن، تطرح الطيور الفضلات نتيجة هذه العملية، وهذا ما تفعله المحركات الميكانيكية أيضاً. وبغض النظر عن مدى جودة تصميمها، تنتج هذه المحركات الحرارة والغاز العادم المُنبعث نتيجة إحتراق الوقود. وليس هذا فحسب، ولكن العمليات البتروكيمائية لإنتاج وقود الطيران غالباً ما تحتوي نواتج ثانوية سيئة تكون سامة أيضاً.
كما أن هناك عاملين يتعين أخذهما بعين الإعتبار عند استخدام الوقود لمحركات الطائرات. أولهما، هو أن كمية الوقود محدودة، ما يعني أن الطائرة تستطيع أن تأخذك إلى مسافة مُعينة فقط ولفترة زمنية محددة. أما العامل الثاني، فهو أن وزن الطائرة يتبدَّل مع استهلاك المحركات للوقود، مما يغير التوازن الدقيق لخصائص الرحلة بالتالي. وقد ظل هذان العاملان ثابتين دون أي تغيير أثناء تصميم الطائرات.
تسخير ضوء الشمس
ولكن، وعدا عن أنواع الوقود التقليدية، يبقى هناك مصدرٌ آخر للطاقة تجود به السماء دون انقطاع ومنذ الأزل، وهو عبارة عن فوتونات متوهجة مُنبعثة من الشمس. ولم يكن هذا المصدر بخافٍ عن مُصمّمي برنامج الفضاء الأمريكي في ستينيات القرن الماضي، حيث قاموا بتصميم وسائل كهروميكانيكية لتحويل ضوء الشمس إلى طاقة كهربائية مخزونة. وقد شهدت هذه العملية تطوراً متزايداً منذ ذلك الوقت.
وهكذا، وفي عام 2003، أنشأ رواد الطيران السويسريان برتران بيكاررابط خارجي وأندريه بورشبيرغرابط خارجي مشروع ‘سولار إمبولس’رابط خارجي. وقد أضحت طائرتهما التي تم بناؤها لاحقاً أول طائرة في التاريخ كان وزنها عند الإقلاع مطابقاً لوزنها عند الهبوط بالضبط.
وكانت ‘سولار إمبولس 2’ (التي يُشار إليها اختصارا بـ Si2) قد قضَّت فصل الشتاء في جزر هاواي، في إنتظار الأيام الطويلة لفصل الصيف التي ستسمح لها بمواصلة رحلتها حول الكرة الأرضية. وكانت الطائرة قد إضطرت لتعليق هذه الرحلة [التي بدأتها من أبو ظبي يوم 9 مارس 2015] في 15 يونيو 2015، إثر أضرار جسيمة أصابت بعض بطارياتها في رحلتها من اليابان إلى هاواي، والتي حلَّق خلالها الطيار أندريه بورشبيرغ قرابة 118 ساعة في الجو، مُسجلاً أطول رحلة طيران منفردة في التاريخ، ورقماً قياسياً عالمياً للطيران على مرحلة واحدة.
وفي الوقت الحالي، تقوم ‘سولار إمبولس 2’ برحلات تجريبية من مطار كالايلوا في هاواي. ومن المتوقع أن تنطلق الطائرة الشمسية مرة أخرى في شهر أبريل الجاري أو مايو القادم في رحلة العودة إلى أوروبا. وبالرغم من الحجم الهائل للطائرة المشابهة لليعسوب في شكلها، وباع جناحيها الذي يزيد عن 200 قدم، إلّا أنها – وبفضل التصميم المتطور للمواد المستخدمة في صناعتها – لا تزن أكثر من شاحنة كبيرة.
“لقد أثبتت الطائرة بأن عليك أن تتوفر على أسلوب التفكير الصحيح والمستوى الصحيح من الطاقة لكي تكون مبتكراً حقاً وتنجح بخلق إنجازات تقنية”، كما يقول بورشبيرغ، وهو يستذكر ما أخبرته شركات صناعة الطائرات باستحالة بناء مثل هذه الطائرة.
“كان ذلك يعني لي بوضوح ضرورة العثور على وسيلة مختلفة. إن ‘سولار إمبُلس’ لا تتعلَّق بتكنولوجيا ثورية واحدة فقط، لكنها مزيج من حلول متعددة، وحصيلة لكل الجهود المبذولة من قبل مهندسينا، والمختصين والشركاء، والتي مكنتنا من تحقيق المستحيل!”، بحسب بورشبيرغ.
وكما أضاف المهندس ومدير الأعمال والطيار السويسري :”لكن لا يذهب بك الظن إلى أن هذا بالأمر السهل. إذ يتعيّن عليك أن تكون مُستعداً لانتكاسات متعددة. ولكن عندما تُدرك أن العقبات والمشاكل قد تكون فرصاً أيضاً، فإنك سوف ترى العالم حينئذٍ بطريقة مختلفة، وسوف تكون أقل توجّساً عندما تتوجه إلى منطقة مجهولة”.
تحطيم الأرقام القياسية
عندما بدأت أول مركبة جوية بالطيران، كانت كل رحلة تقريباً تحطم رقماً قياسياً جديداً. وبدورها، تواصل ‘سولار إمبُلس 2’ اليوم هذا التقليد، كما أن أفراد طاقم الطائرة مُدركون لحجم المسؤولية المُلقاة على عاتقهم.
وحول ذلك، يقول برتران بيكار:”هذا يضع عبئاً إضافيا على كاهلنا، لأن هدفنا لا ينحصر بتحطيم الأرقام القياسية، ولكن أن نُثبت قبل كل شيء قُدرة التقنيات الحديثة والنظيفة على تحقيق المستحيل، مثل الطيران ليلاً ونهاراً حول العالم بدون استخدام قطرة واحدة من الوقود، وبالإعتماد على الطاقة الشمسية فقط. إن الاستكشاف لم يَعُد يدور حول غزو مجالات جديدة، لأن غزو الأرض والقمر قد تم بالفعل، ولكنه يتعلق بتحقيق أساليب جديدة لتحسين نوعية الحياة على الأرض”.
ويتذكر بيكار الذي عاش في ولاية فلوريدا عندما كان طفلا، مشاهدته عمليات إطلاق مركبات ‘أبولّو’ الفضائية، ويقول: “لقد تكوَّن لدي الإنطباع حينئذٍ بانتفاء الحدود بين الحلم والواقع، وبين الخيال والإنجاز طالما كنتَ مستعدّاً لمواجهة المجهول. وكانت هذه هي اللحظة التي قررتُ فيها أن أصبح مُستكشفاً”.
ولكن، وحتى مع تسليط أقصى ضغط على الدواسة، فإن ‘سولار إمبُولس’ لا تطير أسرع من أي سيارة عائلية تقطع الطريق السريع بكل تمهل. أفلا يكون الطيران بهذه السرعة البطيئة جداً مثير للأعصاب؟
“على العكس”! يجيب بورشبيرغ ضاحكاً. “عندما بدأت بقيادة ‘سولار إمبولس’ تعلمت أن أغيّر علاقتي مع الوقت. الأمر لا يتعلق بالسرعة التي نصل بها إلى وجهتنا، ولكن بالكيفية التي نطير بها، مُسَخرين الطبيعة لِدَفع الطائرة. إن ‘سولار إمبلس’ هي الطائرة الأولى والوحيدة التي تتوفر على قدرة تحمل لا حدود لها. إن بمقدورها أن تطير بدون توقف لعدة أيام، وأسابيع، بل وحتى لبضعة أشهر. إنها نموذج جديد تماماً”..
في شهر يوليو المنقضي، وعند وصول ‘سولار إمبلس’ فوق جزر هاواي بعد أن قضت قرابة خمسة أيام في الجو، كان بورشبيرغ ما يزال يشعر بمتعة كبيرة في القيادة، وإلى درجة جعلته يحلّق بتكاسل أثناء الليل في انتظار الفجر للترجل بالطائرة، والهبوط بها مع ملامسة أولى خيوط الشمس أجنحة الطائرة المعطاء.
(*) يعمل بورل بورلينغام كمؤرخ في متحف طيران المحيط الهادئ في بيرل هاربوررابط خارجي
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.