طريق سويسرا لِرَقمنة البيانات الطبية السريرية.. طويل وشاق!
وفقاً لأحد المُختصين في علم الأحياء الحاسوبي، لا تزال سويسرا بعيدة تماماً عن بلوغ هدف إنشاء نظام مُوحّد لتبادل البيانات السريرية الرقمية، من شأنه تمكين البلد من الانتقال إلى نظام رعاية صحية أكثر حَداثة.
“في بعض الحالات، تكون البيانات السريرية مُدَونة على الورق، وقد تكون رقمية في حالات أخرى. وفي أحيان كثيرة، لا يزال الأطباء يتواصلون مع بعضهم البعض عبر الفاكس. وهكذا، لا يوجد هناك إلى حَدّ الآن نظام على شاكلة ‘السجل الطبي الإلكتروني الخاص بك’، الذي تتدفق إليه جميع معلوماتك الطبية بطريقة مُتسقة ومنظمة”، كما يقول تورستون شفيدي، المُختص في علم الأحياء الحاسوبي، ونائب رئيس البحوث في جامعة بازل الذي يترأس مجموعة بحثية في المعهد السويسري للمعلوماتية الحيويةرابط خارجي (يُشار إليه اختصارا بـ SIB). وكما يوضح، يتم تخزين البيانات الصحية غالباً في مستودعات مُختلفة لا يمكن الوصول إليها، وبتنسيقات غير مقروءة بواسطة أدوات البرمجيات.
وعلى سبيل المثال، واجهت سويسرا صعوبة في تَتَبُّع عدد حالات الاصابة بفيروس كورونا المُستجد في بداية الوباء، بسبب قيام الكانتونات بالإبلاغ عن الحالات الجديدة للفيروس يدوياً وإرسالها إلى المكتب الفدرالي للصحة العامة في برن بالفاكس، بدلاً من القيام بذلك رقمياً.
يقول شفيدي إن السجلات الصحية الرقمية القابلة للتشغيل البيني ضرورية لدَعم الأبحاث المُبتَكَرة واستخدام التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي في المجال الطبي. ومن شأن نظام رعاية صحية أكثر تخصيصاً على سبيل المثال، أن يأخذ الاستعداد الوراثي الفردي للمريض بِنَظر الإعتبار ويعمل على تقديم التشخيص والرعاية المناسبة لكل حالة على حدة.
وفي حالة حدوث جائحة، يتيح توفر المزيد من البيانات إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي لتحديد المرضى المُعَرَّضين أكثر من غيرهم لمخاطر الإصابة بمضاعفات خطيرة بشكل أفضل، وتحسين حملات التطعيم. لكن البيانات السريرية في سويسرا لا تزال نادرة في الوقت الحاضر.
“في بعض الحالات، تكون البيانات السريرية مُدَونة على الورق، وقد تكون رقمية في حالات أخرى. وفي أحيان كثيرة، لا يزال الأطباء يتواصلون مع بعضهم البعض عبر الفاكس. وهكذا، لا يوجد هناك إلى حَدّ الآن نظام على شاكلة ‘السجل الطبي الإلكتروني الخاص بك’”
تورستون شفيدي
الرعاية الصحية في المستقبل
أثبت الذكاء الاصطناعي انه قادرٌ على تجاوز القُدرات البشرية في مجال التكنولوجيا الحيوية والتصويررابط خارجي. ورغم أن فكرة تفوق الذكاء الاصطناعي على البَشر قد تبدو مُخيفة، لكن الأطباء والعُلماء ينظرون إليه كحليف تزداد أهميته في عملهم اليومي.
يقول البروفيسور رافائيل سزنيتمان، مدير مركز ‘آرتورغ’ (ARTORG) لأبحاث الهندسة البيولوجية، ورئيس المركز الجديد للذكاء الاصطناعي في الطب في جامعة بَرن “إن الذكاء الاصطناعي آخذ في الظهور عالمياً كأداة جديدة قادرة على دَعم تشخيص وفَحْص الأمراض بشكل حاسم”. ويوضح سزنيتمان كيف استخدم الذكاء الاصطناعي الحديث البيانات السريرية المتاحة على نطاق واسع في التصوير الطبي في سياق جائحة كوفيد – 19، لا سيما لأغراض التشخيص، مما يدل على قدرته على التمييز بين الأمراض التي يسبّبها فيروس كورونا المستجد والأمراض التقليدية الأخرى بدقة تزيد عن 90%رابط خارجي. وهذه النسبة تتفوق على القدرات الطبيعية لمجموعة من خبراء الأشعة بشكل كبير.
في المستقبل، سوف تكون هناك حاجة إلى المَزيد من بيانات المرضى الموثوق بها والعالية الجودة من جميع أنحاء العالم لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات طبية أخرى، وتدريبه على التَعَرُّف على أكبر عدد مُمكن من الحالات والأنماط المَرَضية. وعلى سبيل المثال، يرى سنيتزمان أن الفَرْز [أي تصنيف المُصابين أو المرضى وفقاً لحاجتهم إلى الرعاية الطبية الطارئة] هو أحد المجالات التي يمكن للتقنيات الذكية أن تؤثر فيها بشكل كبير. لكن إطلاق العنان لإمكانيات الذكاء الإصطناعي لن يكون مُمكناً بدون هذه البيانات، “مما يَجعل دَمجَ المعلومات الرقمية في نظام واحد أمرًا ضروريا”، كما قال.
حيثما توجد إرادة توجد طريقة
أحد أكبر التحديات التي تواجه علوم الصحة في المُستقبل هي إتاحة الوصول إلى المعلومات الصحية للمرضى – التي تخضع للموافقة والتدابير الصارمة لحماية الخصوصية – لأغراض البحوث. ومن المهم أن لا يكون ذلك بصيغة رقمية فحسب، ولكن أن تكون قابلة للتشغيل البيني في سويسرا وأرجاء العالم الأخرى أيضاً. بطبيعة الحال، يتطلب هذا الأمر التزاماً عالمياً. لكن الخبراء يرون أن سويسرا رغم تفوقها في مجال البحث عن التطبيقات المُحتملة للذكاء الاصطناعي في الطب، لا يزال أمامها الكثير من العمل في هذه المرحلة.
يقوم نظام الرعاية الصحية في سويسرا على هيكل فدرالي، تتمتع فيه الحكومة الفدرالية والكانتونات والبلديات المحلية بسلطات مختلفة. في الوقت نفسه، فإن الخدمات الصحية لا تُغَطّى من قبل الدولة لكن من قبل شركات التأمين الصحي الخاصة.
هذه الطبيعة المُجزأة للنظام، تجعل تبادل المعلومات مُعقداً حتى بين الأطباء والمستشفيات في نفس الكانتون. وبرأي تورستون شفيدي، يعود هذا الإخفاق قبل كل شيء إلى نَقص الإرادة في صفوف صُنّاع القرار. وكما يقول: “سوف يظل التحدي المُتَمَثل بإتاحة البيانات الصحية للبحوث عالقاً في قيود تقنية بَحْتة ما لم يوجد هناك تحَرُّك سياسي لجعل استخدام معايير التشغيل البيني إلزامياً”.
نحو رعاية صحية شخصية
مع ذلك، يوجد هناك تحرُّك ما على المستوى الفدرالي، حيث شهد عام 2017 ولادة شبكة الصحة الشخصية السويسرية (SPHN)، وهي مبادرة من طرف الحكومة السويسرية تهدف إلى إنشاء بُنى تحتية مُترابطة للبيانات لجعل المعلومات الصحية ذات الصلة في سويسرا قابلة للتشغيل البيني. وتقوم الأكاديمية السويسرية للعلوم الطبية بتنفيذ هذه المهمة بالتعاون مع المعهد السويسري للمعلوماتية الحيوية.
من جهته، يؤمن أورس فراي، مدير مستشفى الأطفال الجامعي في بازل ورئيس اللجنة التوجيهية الوطنية لـشبكة الصحة الشخصية السويسرية (SPHN)رابط خارجي، بأهمية إسناد البحوث واتخاذ القرارات السريرية على البيانات الصحية من العالم الحقيقي بغية الانتقال نحو نموذجٍ للطب الشخصي يأخذ الخصائص الفردية في الحُسبان بشكل متزايد. ورغم أن شبكة الصحة الشخصية السويسرية تريد القيام بذلك بالضبط، إلّا أنَّ تحقيق هذا الهدف يستدعي التغلب على تحديات تقنية كبيرة، وهذه تتطلب بدورها تعاون جميع مجموعات أصحاب المصالح في مجال الرعاية الصحية.
“تهدف شبكة الصحة الشخصية السويسرية إلى تنسيق البيانات، سواء من منظور إنشاء نفس معيار المصطلحات للجميع أو من منظور كيفية تبادل المعلومات بين مختلف المؤسسات ومقدمي الرعاية الصحية”، كما يوضح فراي. للقيام بذلك، تقوم الشبكة بِجَمع الجهات الفاعلة المختلفة معاً في نهج أصحاب المصلحة المتعددين لمواءَمة المُحتوى والمعنى – أو ما يسمى بـ “قابلية التشغيل البيني الدلالي” – والتبادل الآمن والأخلاقي للبيانات على المستوى الوطني، مع احترام خصوصية المريض. وفي الوقت الراهن، يركز المشروع على المستشفيات الجامعية، لكن الهدف خلال السنوات الثلاث المقبلة هو دعم قابلية التشغيل البيني في مؤسّسات الكانتونات أيضاً.
“إن تطوير عملية التحول الرقمي لا تؤدي إلى عائدٍ على الاستثمار. وكل مستشفى في سويسرا هو عبارة عن مشروع بِحَدّ ذاته”
سانغ-إيل كيم
مشكلة سويسرية؟
من خلال ما تتمتع به من مشهد علمي ممتاز ونظام رعاية صحية جيّد، يمكن لسويسرا أن تحتل موقعاً متقدماً في مجال رقمنة الرعاية الصحية، سيما مع الجودة العالية لبياناتها مقارنة بالبيانات الواردة من بلدان أخرى. لكن تنسيق البيانات السريرية لم يُصبح بعدُ حقيقة واقعة على الرغم من هذه المقومات.
وبرأي أورس فراي، فإن النظام الفدرالي السويسري على الأخص هو الذي يجعل هذه العملية حافلة بالتحديات، على الرغم من أن المشكلة لا تنحصر بسويسرا فقط.
بحسب سانغ-إيل كيم، رئيس قسم التحول الرقمي في المكتب الفدرالي للصحة العامة، فإن القضية أكثر تعقيداً بكثير؛ فالمشكلة الرئيسية هي أن المستشفيات والمراكز الطبية في سويسرا هي مؤسسات خاصة لَنْ تقوم باستثمار الأموال بدون حافز. “إن تطوير عملية التحول الرقمي لا تؤدي إلى عائدٍ على الاستثمار، وكل مستشفى في سويسرا هو عبارة عن مشروع بِحَدّ ذاته”، كما قال. ولإعطاء مثال ملموس، أوضح كيم أن سويسرا جزءٌ من “سنوميد سي تي” Snowmed CTرابط خارجي، وهي منظمة دولية طوَّرَت معياراً عالمياً للغة في مجال الرعاية الصحية يمكن استخدامه لتفعيل إمكانية التشغيل البيني للبيانات الدلالية.
“مع ذلك، فإن الحقيقة هي أن أحداً في سويسرا لا يستفيد من هذا النظام لعدم وجود السوق، والافتقار إلى حافز الاستثمار بالتالي”، كما يقول. وبالنسبة لرئيس قسم التحول الرقمي في المكتب الفدرالي للصحة العامة، من الصعب أن يأتي هذا الحافز من البرلمان، لأنه يرى أن مثل هذه الاستثمارات هي من مسؤولية المرافق الطبية.
الاستمرار في إلقاء المسؤولية على الطرف الآخر قد يُكلف المواطنين غالياً في المستقبل. وبالفعل، أظهرت جائحة كوفيد-19 أن البلدان التي تتوفر على نظام رعاية صحية رقمي حديث وبُنى تحتية للصحة العامة – مثل إسرائيلرابط خارجي التي يقارب عدد سكانها سكان سويسرا – تُنَفِّذ حملة التطعيم بشكل أكثر كفاءة.
“أرى تقدماً مُحتملاً في رَقمنة البيانات الصحية ولكني أرى حدوده أيضاً. الطريق طويل، وسوف يستغرق بضع سنوات. لكن لا يزال يحدوني الأمل”، كما قال كيم مُختتماً حديثه. فهل سنكون مُستَعدّين للجائحة القادمة حينئذٍ؟
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.