مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

على خُطى الباحثين عن الكريستال في جبال الألب السويسرية

أربعة أشخاص يعملون في حفائر أثرية في أعالي الجبال
لقد مَرَّت آلاف السنين منذ أن جَلَس الصيادون وجامعُو الثِمار في هذا الموقع بجبال الألب السويسرية لِتَشكيل الكريستال الجَبَلي وتَحويلِه إلى أدوات للاستخدام اليَومي. في الصورة، يتَّبع عُلماء الآثار هؤلاء خُطى أسلافهم. swissinfo.ch/Susan Misicka

يَستَكشِف عُلماء الآثار في جبال الألب السويسرية مَنجماً فريداً من نوعِهِ يعود تاريخه إلى ثمانية آلاف عام قبل الميلاد. هنا، تُوَفِّر شظايا الكريستال الجَبلي التي تَمَّ العثور عليها أدِلة قَيّمة حول كَيفية استخدام الصيادين وَجامعي الِثمار لِموقِع تعدين البلّورات الوَحيد المَعروف في المنطقة في عصور ما قبل التاريخ. مُراسلة SWI swissinfo.ch تابعت عَمَل فريق الآثار خلال فترة المَشروع التي تَستمر ثلاث سنوات، وستنتهي في ديسمبر 2022.

يَتَرَدَّدُ صَدى المسامير الحَديدية المُثَبتة على أحذيتنا الثلجية وهي تَسحَق ما تبقى من نهر “برونّيفيرن” الجليدي وسَط سويسرا. ومع كل استراحة قصيرة، يُمكننا سَماع قطرات الجليد التي تذوب تحت أقدامنا. أما المَنظَر الطبيعي لِمُدَرَّج الثلوج القديمة المُتَصدِّعة المحيطة بسلسلة من القِمَم الوَعِرة والقاحلة فيبدو قادما من عالمٍ آخر.

كان الصيادون وجامعو الثمار القُدماء يَجوبون كلَّ رُكنٍ من أركان جبال الألب خلال العَصر الحَجري بَحثاً عن البلّورات. قد يَتَبادَر إلى الأذهان أن أولئك الأشخاص هُم من جماعة العَهد الجديد [الروحانية]، لكنّ مُهمتَهُم البَحثية في الواقع لم تكن مُرتبطة بأي شكل من المُمارسات الروحانية أو الصوفية. وبكل بساطة، كان هؤلاء الحِرَفيين من عصور ما قبل التاريخ يبحثون عن الكريستالات اللامِعة لتحويلها إلى رؤوس أسهُمٍ، وشفرات، ومَثاقب، وأدوات أخرى.

عالم الآثار مارسيل كورنيليسَّن الذي يعمل لحسابه الخاص، والذي يعشق رياضة تسلق الجبال، يُتابِع عمل هؤلاء المُعَدِّنين القُدامى منذ سنوات، وهو يُحاول مُلاءَمة أبحاثة المَيدانية السَنَوية هذه في النوافذ الزمنية القصيرة التي تُحددها له المواسم والغطاء الثلجي والطَقس. ولم تؤتِ هذه الرحلة الاستكشافية التي بدأت في سبتمبر 2020 ثمارها إلّا بِفَضل الانحسار التدريجي لنهرٍ جليدي، وتقرير هام أعَدَّه أحد الباحثين عن الكريستال الجَبَلي في العصر الحديث، ذَكَر فيه عثوره على كومة من شظايا الكريستال، وقطعتين من قرن وَعل، وقِطع من الخشب أثناء بَحثه الدؤوب عن المعادن.

محتويات خارجية

لكن ما الذي جاءَ بالخَشب والماعز الجَبَلي إلى هذه البيئة القاسية التي يصل ارتفاعها إلى 2831 متراً، والتي لا تُلائم مَعيشة مُعظم النباتات والحيوانات؟ يَعتمد عُلماء الآثار مثل كورنيليسَّن باستمرار على المعلومات الواردة من الجمهور، لا سيما في المناطق النائية. كانت قطعة من قرن الوَعل قد تفككت بعد فترة وجيزة من ذوبان الجليد، لكن المُتَخَصِّصين في هذا المجال استطاعوا تحديد تاريخ القِطعة الثانية بواسطة الكربون المشع إلى عام 6000 قبل الميلاد، ما يجعلها أقدم اكتشاف من نوعه تم العثور عليه في جليد جبال الألب. وهي أقدم بكثير حتى من مومياء ‘أوتزي’ (Ötzi) التي تعود لِرٍجل توفي في جبال الألب الإيطالية الشمالية في حوالي عام 3200 قبل الميلاد، والتي عُثِرَ عليها في عام 1991.

تشير العلامات المَرئية على قرن الوَعل إلى احتمال استخدامِه لاستخراج بَلّورات الكوارتز. ووفقاً لمعهد ثقافات جبال الألبرابط خارجي – الذي كَلَّف بإجراء المشروع البحثيرابط خارجي الذي يقوده كورنيليسَّن – فإن هذا هو الموقع الوَحيد المعروف لاستخراج الكريستال الصخري في عصور ما قبل التاريخ في منطقة الغوتهارد. وقد تَمَّ تحديد مواقع إضافية على بُعد حوالي مائة كيلومتر إلى الجنوب الغربي في وديان سيمبلون بينّتال في كانتون فاليه.

التنقيب

في صباح هذا اليوم من شهر سبتمبر 2022، كان كورنيليسَّن البالغ من العمر 45 عاماً، هو المسؤول عن عمليات التَعدين. إنها المَرّة الثالثة التي يَزورُ فيها نهر “برونّيفيرن” الجليدي بَحثاً عن اكتشافات، وهو يأمل في العثور على المَزيد منها قبل نهاية المشروع في موفى ديسمبر 2022. وكما تشير النتائج التي تَوَصَّل إليها حتى الآن، قام الناس بالتعدين في هذا الموقع منذ عام 8000 قبل الميلاد.

“سيكون من الجيّد العثور على بَعض القطع الأخرى لكي نكون مُتأكدين حَقّاً”، كما يقول. ويضيف: “آمل أيضاً أن أكون قادراً على جَمْع ما يكفي من المواد في نهاية المَطاف، لكي يتكوَّن لدينا فهم أفضل حول كيفية استخراج الناس للبلورات هنا في ذلك الوقت”.

في الوقت نفسه، يَنشَغل ثلاثة من زملائِه بِحَفرِ بُقعة صغيرة في الجُزء العُلوي من سِنامٍ صخري يُطلّ على النهر الجليدي. البُقعة خالية من الثلوج، ولا تزيد مساحتها عن ستة أمتار مربعة تقريباً. ومع ضيق المساحة، أحاول البَقاء على الجانب من خلال جلوسي القرفصاء على صخرة كبيرة مُرَصَّعة بِبلورات الكوارتز الدخانية الصغيرة على جانبها السفلي. هذه البلّورات حادة لِدَرجة صبغها أصابعي بالدماء، لكنها ناعمة إلى درجة لا أشعر مَعها بأي ألم.

مع ذلك، فإن أعمال الحَفر الأولية أبعد ما تكون عن الدِقّة. وبغية إفساح المجال، تقوم أنينا كروتليرابط خارجي وبقية أعضاء الفريق بِرَمي الحِجارة والصُخور أسفَل التل. ويمكن سماع أصوات مجارفهم ومعاولهم اليدوية بوضوح وهي تضرب في الصخور.

تأخذ كروتلي استراحة لِشَرح الاستراتيجية التي يتبعها الفريق للعثور على اكتشافات أثرية قَيّمة. “نحن مُهتَمّون بالوصول إلى ما يُمكن تَسميته بالتُربة، لأننا حالياً نقوم بِفَرز الكثير من الصخور فقط. ربما يحتوي سطح التربة على اكتشافات مُثيرة للاهتمام، لذا سنقوم حَصراً بإزالة السنتمترات الخمسة العليا وَوَضعها في أكياس خاصة نأخذها معنا عند المُغادرة بغية تحليلها”.

عند الانتهاء من عملهم، سوف يتطلَّب الأمر طائرة مروحية لنِقَل أكثر من 60 كيساً مَملوءاً بالمُقتنيات إلى قرية ‘سيدرون’ حيث تُنقَل بَراً فيما بَعد إلى مكان آخر. هذه الأكياس البلاستيكية القوية ليست في الواقع سوى أكياس قمامة، تبدو للوهلة الأولى رَخيصة جداً لاحتواء اكتشافات أثرية قد تكون ثمينة للغاية. كورنيليسَّن من جانبه يقول إنها مثالية لهذا العمل: “نحن نأخُذ ما تركه الناس وراءَهم. إنها أشياء لم يعودوا يريدونها، ونحن نأخذها مَعَنا”.

ربما كانت هذه الأشياء مُجرد “خردة” بالنسبة لهؤلاء المهندسين البدائيين، لكنها لا تزال تتمتع بجمال خاص. وهكذا مثلاُ، يريني كورنيليسَّن شظية كريستال مُثلثة غامضة تم كَشفَها للتو. وبالنسبة لعيَنَيْ الخبير، من الواضح أنها من صُنعِ يد بشرية.

“إنها ليست أداة أو شيئا من هذا القبيل. إنها مُجَرَّد نفايات مُتَبَقّية من عملية إنتاج”، كما يقول. ويتطابق شكل هذه القطعة مع اكتشافات مُماثلة من مواقع سويسرية أخرى يعود تاريخها إلى 8000 عام، وربما كانت هذه هي المرّة الأخيرة التي لَمَسَها شخصٌ بِيَدَيه.

“لم تكن هناك مزارع ولا كنائس ولا مَبانٍ ثابِتة من أي نوع في ذلك الوقت، لكن هؤلاء الناس جاءوا إلى هنا واستخلصوا هذه البلورات الصخرية. إن مُقارنة مخلَّفاتهم آنذاك مع القُمامة الحديثة مثل أغلفة الحلوى والزجاجات البلاستيكية، أمرٌ مثير للاعجاب حقاً”.

رجل يحمل بين أصابعة قطعة كريستال مثلثة
عالم الآثار مارسيل كورنيليسَّن يحمل قطعة كريستال مُتبقية من عملية إنتاج تعود إلى حوالي 8000 سنة. swissinfo.ch / Susan Misicka

يقوم كورنيليسَّن بِوَضع قطعة الكريستال في كيسٍ شَفّاف مع ورقة دوَّن عليها الموقع الدقيق لاكتشافها، ثم يُغلق الكيس باحكام. وهو سيُعيد نفس الإجراء مع جميع الاكتشافات الواعدة التي ستظهر له خلال اليومين التي سيقضيها هنا. أما التربة والمصنوعات اليدوية المُتبقية، فسوف ينتهي بها المطاف في أكياس القمامة السوداء، التي ستحمل بيانات دقيقة أيضاً.

حدود الزمان والمكان

الشمس تبدأ بالغروب ودرجات الحرارة تَنخَفِض تدريجياً. لقد حانَ الوَقت للمغادرة. علينا الآن أن نُثبت حزام التسلق ذو المسامير الحديدية على أحذيتنا الجليدية ونَربط أنفسنا مَعاً. المياه الجليدية الذائبة تتناثر تحت أقدامنا. إنه صوت مُمتِع، لكنه يُذَكِرُنا أيضاً بكيفية تَغَيّر المَشهد من حولنا؛ حيث فَقَدَ نهر “برونيفيرن” الجليدي رُبع كتلته تقريباً بين عامي 1973 و2010، وتَقَلَّصت مساحته من 3,02 كلم² إلى 2,31 كلم²رابط خارجي. على الجانب الآخر من النهر الجليدي، ينتظرنا طعام العشاء وأسِرّة من طابقين في كوخ “كافارديراس” (Cavardiras) الواقع على ارتفاع 2,649 متراً فوق مستوى سطح البحر.

رجل يثبت حذاءه بأشرطة متينة وفريق يعتمد على الحبال لعبور نهر جليدي
كورنيليسَّن يثبت حزام التسلق ذو المسامير الحديدية على حذاءه المُخصّص للمَشي في الجليد (إلى اليسار) قبل قيادته فريق العمل عَبر النهر الجليدي وقت الغروب. swissinfo.ch / Susan Misicka

السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هنا: هل نامَ الباحثون عن الكريستال والمُنَقِّبون القُدماء في هذا المَوقع أيضاً؟ كورنيليسَّن مُقتنع بأنهم فعلوا ذلك، بِسَبَب الأدوات التي عثَر عليها على مُقربة من هنا. ومن المُحتَمَل أن يكون هؤلاء الصيادين قد صنَعوا هذه الأدوات البَسيطة في عَين الموقع لاستخدامها خلال بضعة أيام. وحَسب قوله: “هؤلاء لم يتوقفوا هنا لبِضع ساعاتٍ لِجَمع بعض البلورات وأخذها معهم. كلا؛ لقد أقاموا مُعسكراً على الأرجَح، وربما أمضوا الليل هنا وأصلحوا بعض المعدات أو الملابس، وتناولوا وجبة خفيفة استعداداً للاستمرار في اليوم التالي”.

إن فَهم الدورة الموسمية لاستخراج الكريستال يُمكن أن يُلقي الضوءَ على كيفية تَحرُّك السكّان في الطبيعية حينذاك. ربما كانت الرحلة إلى أعلى الجبل جُزءاً من رحلة صيد عَبر جميع أنحاء البلاد؛ وربما كان لِبَلّورات الكوارتز قيمة اجتماعية مُعيّنة، كما هو الحال اليوم بين جامعي المعادن الثمينة. لا أحد يستطيع أن يَعرف الاجابة على وَجه اليقين. مع ذلك، فإن المنطقة خالية تماماً من حجر الصوان، الذي كان يُستَخدَم على نطاق واسع في صُنع الأدوات الحَجَرية وإشعال النار في فترة ما قبل التاريخ.

في صباح اليوم التالي، يتعيّن عليّ العودة إلى المنزل، وكذلك كريستيان آوف دير ماور عالم الآثار والتاريخ القديم، رغم رغبته الكبيرة بِمُواصلة عمَلية الحَفر. وبِقامته الطويلة وخطواته الواثقة في الثلج، يَعرض مرافقتي على طول طريق جبال الألب الصَعب، الذي يتطلَّب مِنّا التَسَلُّق بِشَكل حادٍ بين الصخور والثلوج قَبل الوصول إلى القِمّة والنزول ثانية باتجاه المُروج الخضراء المَليئة بِزُهور جبال الألب المُلونة ونبات التوت الأزرق. الطريق يستغرق ساعات، ما يمنحنا مُتَّسَعاً من الوقت للحديث عن الحفريات.

خلال حوارنا، أسأله حول كيفية تعامله هو وزملاؤه مع قيود الزمان والمكان المفروضة على أبحاثهم؟ ففي نهاية المطاف، قد تَظَلّ هناك قِطع أثرية مُذهلة في انتظار الكَشف عنها بِضربات فأس قليلة.

“هذه هي حياة علماء الآثار؛ سوف يكون هناك شيء يتَعَيَنَّ عليك تَركَه وراءَك في مُعظم عمليات التَنقيب. عليك أن تتعايش مع هذه الحالة وتحقيق أقصى استفادة من الاكتشافات الموجودة لتقديمها إلى المختبر”، يجيب آوف دير ماور، الذي يعمل في قسم علم الآثار بكانتون أوري. ويأمل فريق الباحثين أن يكونوا قد عَثَروا على أهَمّ الاكتشافات خلال هذه الرحلة الميدانية. وقبل انتهاء المُدّة المُحدَّدة للمشروع في نهاية عام 2022، سوف تُتاح لَهُم المَزيد من الفُرَصٌ لِتَفتيش مواقع أخرى في المنطقة.

الغَسل والفَرز

بعد شهرين من هذه الرِحلة، يَستقبلني كورنيليسَّن خارج أحد المُستودعات في شرق سويسرا. إنه يرتدي الآن قفازاتٍ مطاطية ومِئزَراً مُقاوِماً للماء بَدَلاً من مُعدات تَسَلُّق الجبال، حيث سيقوم مع كروتّلي بغِربلة 976 كيلوغراماً من التُربة السَطحية، والصخور، والبلورات التي جمعوها في موقع نهر ‘برونيفيرن’ الجليدي. لقد حان الوقت الآن لغسل الغنيمة بشكلٍ جيّد.

مع تَدَفُّق المياه ودَفعِها للتُربة بَعيداً، لا تبدأ الأحجار والأشكال الواعِدة فقط باللمعان، ولكن عَينَي كورنيليسَّن أيضاً. الآن تبدأ المَرحلة الأكثر صعوبة، والمُتمثلة بِفَرز كل قطعة يدوياً، ما يَعني قَضاء ساعات طويلة من الانحناء فوق قماش مُشمَّع لالتقاط المعادن الرَطبة، وَوَضْع القطع “الجيّدة” المُحتملة في صواني خاصة، والتخلص من الدِلاء المليئة بالخُردة.

عَقِب ذلك، تأخذ كروتّلي القِطع الأكثر قيمة إلى المستودع، وتَنشُرُها على رفوف التجفيف – مع الاحتفاظ بسِجِلِّ لكل ما تم العثور عليه ومكانه الدقيق. هنا يؤتي التوثيق الدقيق الذي أُنجِزَ في موقع التنقيب ثماره؛ فإذا تَبَيَّن أن الاكتشاف ذو أهمية، فسوف تتيح هذه الملاحظات العَودة إلى المكان المُحَدَّد الذي عُثِر عليه فيه، لِجَمع المزيد من الأدلة. وحتى لو لمْ تُسفر هذه الجولة عن اكتشافات مُمَيَّزة، تبقى القيمة الأثرية للمواد التي تم جمعها كبيرة جداً.

“دعونا نتخيَّل وجود 50,000 قطعة من هذه الشظايا الصغيرة لدينا وتحليلها جميعاً؛ هذا سيمنَحُنا إحصاءات مهمة”، توضح كروتلي، وهي تتحقق من وجود أية صواني جافة بما يكفي لحفظها في حاويات التخزين. “هذه هي الطريقة الوحيدة التي ستمكننا من استنتاج معلومات حول قطع فردية قد تبدو غير مُهِمّة”. إن توفر هؤلاء العلماء على بيانات كافية سوف يُمَكنهم من وَضع اكتشافاتهم في سياق أوسع، سواءَ كان ثقافياً أو تاريخياً أو بيئياً. فكل شظيّة هنا هي قطعة من اللغز الذي يربط الماضي بالحاضر.

هذه القناعة الراسِخة هي ما يَدفَع الباحثين للاستمرار في ساعات العَمَل اليدوي الشاق الضرورية لِوَضع كل قطعة في منظورها الصحيح. وفي نهاية هذا الاجراء – بعد ثلاثة أيام – سوف يتم نقل حولي 300 كيلوغرام من الاكتشافات التي تَمَّ الحصول عليها، إلى القَبو الشخصي لـ كورنيليسَّن في إحدى ضواحي برن.

فَحص ‘الغنيمة’

في أغسطس 2021، دعاني كورنيليسَّن إلى منزله، حيث يحتفظ بِقِطَع أثَرية من مشاريع بَحثية سابِقة. وخارج الباب الأمامي لمنزله، يُمكن مشاهدة زَوج من القباقيب الخشَبية التي تُذَكِّر بِجُذورِه الهولندية. في الداخل، تتراكم حاويات بلاستيكية قوية تضم صلاتٍ مُحتَمَلة مع أسلافنا المُشتركين الذين جابوا جبال الألب بين الأعوام 9500 و 5500 قبل الميلاد. وعلى طاولة المطبخ، يصب كورنيليسَّن حَفنة من الكوارتز، والكريستال، والغرانيت، ويقوم بفحص ‘غنيمته’ بِمُساعدة عدد من الملاقط، وضوء جيّد، وعَدَسة مُكبرة، وأداة قياس.

“هذه قطعة جَيّدة، سوف تَنْضَم إلى مجموعة القطع الأثرية. وما عن هذه؟ سوف أضعها مع مجموعة الـ “ربما”، كما يقول وهو يتنقل بين قطعة وأخرى”.

رجل يقوم بفرز شظايا صخور بواسطة ملاقط
جزءٌ صغيرٌ فقط من هذه الشظايا سيكون ذا أهمية أثرية فعلا. swissinfo.ch / Susan Misicka

مثل صائغٍ يُقَيِّم جوهرة ثمينة، يحدِّق كورنيليسَّن في شظية كوارتز بِحَجم سِن بشري. ومع تدويرها في الضوء بعناية، يُتَمتِم عالم الآثار مع نفسه بأنها قد تكون جُزءاً من شَفرةٍ أو أداةٍ لِحَفر الثقوب. وقبل أن يضع الاكتشاف في كيس بلاستيكي بِحَجمِ راحةِ اليَد ويُغلقه بإحكام، يقوم بقياس الشظية َوتصنيفها وإدخال البيانات في جهاز الحاسوب المحمول الخاص به. لقد أصبح الاكتشاف الجديد الآن واحداً من مئات القطع المُسَجَّلة في جدول بياناته، الذي تمتلئ أعمدته المُتعددة بالملاحظات التوضيحية حول مادة، وشكل، وخصائص كل قطعة. وفي خطوة لاحقة، سيقوم كورنيليسَّن بِوَضع الاكتشاف في صندوق بلاستيكي مُغلَق يُستَخدَم لتخزين طُعُم صيد الأسماك في العادة.

وَضَع عالم الآثار بَعضاً من أفضل عَيِّناته على ورقة من المُقوى الأسود، لِمُساعدته في تحديد الخطوط العريضة التي شكلتها الأيدي الماهرة منذ آلاف السنين. وبينما كنت أحاول استيعاب أهمية ما أراه، تذكرت شيئاً قالته لي كروتلي وهي تغسل الحجارة خارج المستودع.

“لا بُدَّ أن البلورات الأصلية كانت ضَخمة بالنسبة للصيادين وجامعي الثمار لكي يتمكنوا من صُنع ما يَكفي من الأدوات. ان تكوين البلورات يَستغرق وقتاً أطول بكثير من الفترة التي مَرَّت بين وجود هؤلاء الصيادين هناك ووصولنا إليها”. وأضافت: “هذا يجعلني أتخيّل هؤلاء الصيادين وهم يجلسون خَلف صخرة ويضحكون علينا بسبب تأخرنا بعض الشيء”.

من آلاف السنين إلى مُجَرَّد شهور وسنوات: قد لا ينتهي بَحث العُلماء في اقتفاء آثار صيادي الكريستال في عصور ما قبل التاريخ أبداً. مع ذلك، فإن جداولهم المُفَصَّلة وقطعهم الأثرية المُصنّفة بِعِناية، تُمَهّد الطريق لإجراء المَزيد من البحوث المُستقبلية لهذه الفترة الزمنية من تاريخ البشرية.

أدوات بسيطة مصنوعة من الكريستال الصخري
أدوات من الكريستال الصخري صُنِعَت في الموقع الكائن في منطقة المَمَر الجبلي Untere Stremlücke [بين كانتونيْ أوري وغراوبوندَن]: (A) أدوات للثقب أو الحَفر، (B) مكشطة، (C) قذيفة مُدَبَّبة [أشبه بالرمح أو السهم]، (D) رؤوس مقذوفات مُحتملة. / F. X. Brun

يَكشف ذوبان الأنهار والصفائح الجليدية السِتار عن عددٍ مُتنامٍ من الاكتشافات الأثرية الجديدة التي يعود تاريخها إلى مختلف العصور، من العصر الحَجَري إلى القرن العشرين، والتي تزودنا برؤى وأدلّة واضحة على ماضينا. ورغم أن الأشياء المصنوعة من مواد عضوية مثل الجلد، أو الفراء، أو المنسوجات، أو القرون، أو الخشب لا تحافظ على خصائصها إلّا نادِراً بسبب تحللها السريع بعد ذوبان الجليد، إلّا أنها يُمكن أن تنجو عندما تكون متواجدة داخل الجليد أو التربة الصقيعية.

في حال عثورك على مثل هذه القطع الأثرية في مناطق الجليد السويسري أو بالقرب منها، قُمْ بالتقاط صورٍ وابعثها إلى السلطات المحليةرابط خارجي، التي قد ترسل فريقاً من علماء الآثار لإنقاذها. لهذا الغَرَض، حَدِّد موقع الاكتشاف على خريطة، أو قُمْ بتدوين إحداثياته. لا تأخذ ما تكتشفه معك إلّا إذا كان مُعرّضاً لِخَطر التَلَف المُباشر، أو في حال تَعَذَّر عليك العثور على الموقع مَرّة أخرى.

لمزيد من المعلومات حول علم الآثار الجليدية والسلطات المحلية المسؤولة، تفضل بزيارة الرابط التاليرابط خارجي باللغات الألمانية، والفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية والروسية.

المزيد

الأرشيف

ما هو أغرب شيء عثرت عليه في الطبيعة؟

عندما نذهب إلى الفضاءات الخارجية الرائعة للاستجمام في الهواء الطلق، عادة ما تكون لدينا فكرة عما نتوقعه أو نأمل أن نراه. لكن في بعض الأحيان، تعترضنا مفاجآت.

12 تعليق
عرض المناقشة

تم التحرير من طرف نيريس آفري وصابرينا فايس

ترجمته من الانجليزية إلى العربية: ياسمين كنونة

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية