محاكاة الدماغ البشري مسعى مُتواصل رغم التحفظات
لا يزال مشروع إنشاء حاسوب يُحاكي قدرات العقل البشري في دائرة الأحداث. فبعد عام من فوزه بجائزة "المشاريع الرائدة FET Flagships"، التي تهدف إلى مُكافأة البحوث والمُبادرات الأوروبية الخاصة بالتكنولوجيات الناشئة والمستقبلية، يأتي الإعلان الرسمي عن أول دفعة من التمويل الأوروبي وعن قرار نقل المشروع من لوزان إلى جنيف، وسط هالة من الآمال والوعود، فضلا عن الإنتقادات والشكوك.
تبدو لوزان وجنيف كأنهما حيّان في مدينة واحدة بالنيبة للمُقيمين في وادي السليكون (بأمريكا الشمالية)، أو موسكو، أو شنغهاي. أما كونهما يتواجدان في كانتونيْن مختلفيْن، فلا يعني ذلك الكثير.
في يناير 2013، أعلنت المفوضية الأوروبية عن نتائج جائزة “المشاريع الرائدة FET Flagships” التي تبلغ قيمتها مليار يورو من التمويل الحكومي، وتختص بالمشاريع العلمية ذات التأثير الكبير.
وصلت ثلاثة مشاريع سويسرية إلى التصفيات النهاية، فحالف الحظ إحداها من دون الآخَرَيْن، وها هي swissinfo.ch تقيّم الوضع بعد مرور عام.
وفي سويسرا أيضا، بدأ الناس يستكينون لهذا الواقع، إذ لا مجال للتعصّب وضيق الأفق، طالما حالفَنا الحظ في أن يكون بلدنا مركزا لكذا مشروع علمي ذي بُعد قاري. وبالفعل، فإن الإعلان يوم 29 أكتوبر 2013 عن نقل مشروع الدِّماغ البشري إلى جنيف، لم يُحدث ردة فعل مستاءة لدى المسؤولين في المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان.
ومما يجدر ذكره، أن معطيات الواقع هي التي أملت هذا القرار، ذلك أن المقر السابق لشركة “ميرك سيرونو” في جنيف صالح للإستعمال الفوري، بينما يحتاج الأمر في لوزان لبناء مقر لـ “نوروبوليس Neuropolis”، تُقدّر قيمته بنحو 100 مليون يورو، وبتمويل مُشترك من القطاعين العام والخاص. وبما أنه من الضروري الإستعجال للتمكن من تقديم أول نموذج رقمي لدماغ الإنسان في عام 2023، سيتم اعتبارا من العام المقبل نقل 120 عالما ومشاركا في المشروع مسافة 50 كيلومترا.
نماذج سيليكونية لخلايا عصبية (تقديم تحت المشروع 9 من المشروع العقل البشري، باللغة الإنجليزية)
رحلة مثيرة ومليئة بالعقبات
وفي انتظار الإرتحال، تم رسميا في لوزان افتتاح المشروع الطموح، الذي يضم مئات العلماء من مختلف التخصّصات، وأكثر من 130 مؤسسة بحوث في أوروبا والعالم، بميزانية تبلغ 1,2 مليار فرنك سويسري.
وفي نفس السياق، أعرب هنري ماركرام، مدير المشروع، عن ثقته في أن تحقق مرحلة الإنطلاق التي تستغرق 30 شهرا، النتائج الأولية المرتقبة. وسيكون بالإمكان الإستفادة من التكنولوجيا الأساسية في إنشاء نموذج حاسوبي يحاكي قدرات العقل البشري ووضع قاعدة بيانات موحدة، تحوي عشرات الآلاف من الدراسات التي يتم نشرها سنويا في مجال علم الأعصاب.
ومن اللافت أن الدّعم المالي الذي يتمتع به مشروع العقل البشري، سيساهم في تقدّم انطلاقته على مبادرة أخرى مماثلة، تتمثّل في المشروع الأمريكي “برين BRAIN” اختصارا، وتعني “أبحاث الدماغ عبر تكنولوجيا الأعصاب المبتكرة”، الذي أعلن عنه الرئيس باراك أوباما في أبريل 2013 الماضي، والذي تبلغ قيمة تمويله 100 مليون دولار.
100 ألف مليار وصلة
من غير المُستغرب أن يتصور البعض وجود تشابه بين مشروع الدماغ البشري ومشروع “الجينوم”، الذي أنْجز في عام 2005 رَسْم خريطة جينية للإنسان، أتاحت تحديد تسلسل الحمض النووي بشكل كامل. وفي الواقع، أن هدفيهما مختلفان، باعتبار أن برنامج العقل البشري لا يرمي إلى رسم خريطة لمخ الإنسان بأكمله، فالأمر أكثر من معقّد.
ويقول هنري ماركرام: “لقياس كافة الوصلات في الدماغ – التي يصل عددها إلى نحو 100 ألف مليار – لا يمكننا تتبعها واحدة بواحدة تجريبيا، لكن يمكننا، باستخدام ما نعرفه عن طريقة اتصال الخلايا العصبية مع بعضها البعض، وضع نظم حسابية تتيح لنا نماذج تنبُّئيّة، تساعدنا في التحقق فيما بعد من نقاط الاتصال”.
منذ ثمان سنوات، والأستاذ وفريق بحثه في المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان يُخضِعون هذا النوع من أساليب “الهندسة العكسية”، للإختبار في إطار ما يُطلق عليه “مشروع الدّماغ الأزرق Blue Brain”، والمبدأ في ذلك بسيط، إذ بدلا من أن نضع تصميما للشيء قبل بنائه، نأتي بجسم موجود فعلا ونحاول رسم مخطط له، والجسم هنا هو في غاية التعقيد، حيث يحتوي الدماغ البشري على نحو 100 مليار خلية عصبية، كل منها قادر على عمل نحو 10 آلاف اتصال (أو نقاط تشابك عصبي) في المتوسط، مع الخلايا المجاورة.
لحد الآن، استطاع العلماء بواسطة جهاز الحاسوب العملاق “آي بي ام بلو جين” وباستخدام شرائح من دماغ الفئران كنموذج، محاكاة طريقة عمل بنية الدماغ، المعروفة باسم عمود القشرة الدماغية، وهي الوحدة الأساسية لدماغ القوارض والإنسان، ولكنها تتشكل فقط من 30 ألف خلية عصبية.
عندما أطلقت المفوضية الأوروبية المسابقة لجائزة “المشاريع الرائدة FET Flagships”، وعدت بتقديم مليار يورو على مدى عشر سنوات، ومع أن ميزانية مشروع الدماغ البشري هي 1,2 مليار يورو، إلا أن 500 مليون يورو فقط ستأتي مباشرة من بروكسل، كما أوضح دانيال بازيني، المسؤول عن المشروع في برنامج “المشاريع الرائدة FET Flagships”، وأضاف قائلا: “الفكرة أيضا، هي بناء أوروبا ذات أبحاث أكثر فعالية، وبحيث تكون للدول مشاركة في المشاريع الكبرى”.
في غرة أكتوبر 2013، تمّ تقسيم الدفعة الأولى من المبلغ وقدرها 54 مليون يورو بين المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان وأكثر من 110 أطراف أخرى مشاركة في مشروع العقل البشري، ومن المفروض لهذا المبلغ أن يغطّي احتياجات ما يسمى بالمرحلة التحضيرية، والتي تستمر 30 شهرا، وفي نهاية هذه الفترة، يقوم فريق من الخبراء بتقييم ما إذا كان المشروع يتقدّم بحسب المُتوقَّع.
يتم منح التمويل الأوروبي في نطاق البرنامج الإطاري السابع للأبحاث الأوروبية، والذي يخضع كل 30 شهرا للمناقشة والتقييم من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بيد أن سويسرا بلد شريك، فهي لا تشارك في اتخاذ القرارات، ولكنها تساهم في التمويل تبَعا لناتجها المحلي الإجمالي، كما هي تركيا وأيسلندا والنرويج.
والفرق بين التمويل المقدّم من الاتحاد الأوروبي وميزانية المشروع، ينبغي تأمينه من طرف الشركاء في القطاعيْن، العام والخاص. ولغاية الآن، تمكن مشروع الدماغ البشري من الحصول على التزامات مالية بقيمة 415 مليون، بينما المطلوب هو 700 مليون يورو.
حاسوب المستقبل
هذا يعني، أن محاكاة دماغ الإنسان مهمة تتطلب جهاز كمبيوتر أقوى بكثير من تلك التي بين أيدينا اليوم. وفي الوقت الحاضر، بمقدور حاسوب “بلو جين” القيام بترليون (مليون مليار) عملية في الثانية، ولذلك سنحتاج إلى ما لا يقل عن ألف جهاز من نفس النوع لكي نقارب قدرة الدماغ البشري على أداء عدّة مهام معقدة في وقت واحد.
ومن جانب آخر، تمثل مشكلة الطاقة عائقا كبيرا، إذ يبلغ استهلاك دماغنا ما يعادل لمبة واحدة (أي حوالي عشرين واط)، بينما سيحتاج نموذجُه، وفقا لتكنولوجيا الكمبيوترات في الوقت الراهن، إلى محطة توليد كهرباء بكاملها.
رغم كل ذلك، فإن كل هذه العقبات لا تفت من عضد فريق عمل مشروع الدماغ البشري، وبالنظر إلى التطور السريع في المجال التقني وفي تكنولوجيا ما يسمى حواسيب عصبية البنية – تمتاز بقدرتها على التعلّم كالدماغ البشري – فإن هنري ماركرام ورفاقه يراهنون على إمكانية أن تكون النماذج الأولية جاهزة خلال أقل من عشر سنوات. وفي جامعتي مانشستر وهايدلبرغ، هناك مجموعتان تابعتان للمشروع بدأتا فعلا العمل في برامج متطورة لحوْسبة الدارات العصبية.
وثمة هدف آخر من هذا المشروع، وهو إعداد منصة طبية إلكترونية تجمع ما تقدّمه المستشفيات العامة وشركات الأدوية من بيانات خاصة بالأمراض النفسية، التي يمكن لتحليلها أن يتيح الفرصة للتعرف على جملة من اضطرابات الأعصاب، كما يمكن لهكذا تصنيف جديد مستند إلى “أساس بيولوجي”، أن يشجّع على تطوير أدوات واستراتيجيات جديدة للبحوث الدوائية والعلاجات الخاصة بأمراض عصبية، مثل الْزهايمر.
ارتياب وتحفظ
في الحقيقة، يبقى المشروع طموحا جدا، ومع ذلك استقبلته بعض الأوساط العلمية بشيء من التحفظ. وفي يناير 2012، عندما قدم هنري ماركرام رؤيته أمام الأكاديمية السويسرية للعلوم في برن، اصطدم بارتياب كبير وكانت أصابع اتهام المنتقدين تشير إلى التصوّر السيء، والتعقيد المفرط، وعدم وجود أهداف محدّدة وواضحة للمشروع.
وبعد شهر من الحدث، أعادت مجلة “Nature”، الحديث عن اجتماع برن، مشيرة بالخصوص، إلى انتقاد رودني دوغلاس، المدير الثاني لمركز المعلوماتية العصبية التابع لجامعة زيورخ، وللمعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ والأستاذ السابق لماركرام، الذي يدعو إلى “مزيد من التنوع في علم الأعصاب”.
وبعد عامين، ونفس الانتقادات لا زالت تُسمع. وقد قال ستيفن روز، أستاذ علم الأعصاب في الجامعة المفتوحة وجامعة لندن: “أعتقد أن معظم المجتمع العلمي، من غير المشاركين مباشرة في المشروع، يرون بأنه تغريد خارج السّرب. فمشروع العقل البشري غير مبنيّ على أصول نظرية علمية، وإنما تم إدراجه بطريقة تجريبية جزافية. والحقيقة، أننا لا زلنا لم نعرف القدر الكافي عن بُنية الدماغ ولا طريقة عمله، لنتمكّن من إنتاج نماذج عنه، وتقريبا انخدع الإتحاد الأوروبي به عندما وافق على تمويله”.
ومن جانبه، قال مارتن شواب، أستاذ علم الأعصاب في جامعة زيورخ وفي المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ: “كنت أفضّل أن تُعطى هذه الأموال إلى برامج المجلس الأوروبي للبحوث أو إلى مؤسسة العلوم الوطنية السويسرية، بوصفهما محايدين تماما ويهتمّان فقط بالأفكار المعقولة وبالباحثين الأذكياء”.
بيْد أن هنري ماركرام لا يبدو منزعِجا ممّا يُقال، وقد أوعز قائلا: “الكثير من الأشخاص ينتقدون المشروع ويتساءلون عما إذا كان قابلا للتحقيق”، ويؤكد المسؤول عن مشروع الدّماغ البشري مضيفا: “ولكننا متّفقون جميعا على أنه ليس بمقدورنا إدراك حقيقة الدماغ مرّة واحدة، ولذلك، نحن نقوم بتجميع كل المعلومات التي أنْتِجَت خلال عقود من الدراسة والبحث”.
خمس أفكار شائعة حول الدّماغ البشري ووظائفه.
نحن نستخدم 10٪ فقط من دماغنا – خطأ.
تستند هذه المقولة إلى معلومات صحيحة فُهِمَت بصورة خاطئة، منها على سبيل المثال، حقيقة كون الخلايا العصبية تمثل 10٪ فقط من خلايا المخ (والباقي عبارة عن خلايا دبقية)، وحقيقة أننا في أي وقت من الأوقات، لا نستخدم أدمغتنا 100٪، ولئن كان هذا صحيحا، إلا أن جميع مناطق المخ تبقى نشطة في كل أوقات النهار، سواء أكنا نفعل شيئا أم لا.
الشق الأيمن من الدماغ عاطفي، بينما الشق الأيسر عقلاني، صحيح وخطأ.
فالشق الأيمن، يتيح لنا تذوّق الفن والموسيقى وجمال الطبيعة، بينما يتحكم الشق الأيسر بوظائف مثل الكلام والكتابة والحساب. وفي الواقع، المهام التي تكون السيادة فيها لأحد الشقّين تعتمد كذلك على المناطق الموجودة في الشق الآخر، فدوما هنالك تبادل للمعلومات بين شقّي الدماغ.
يولد الإنسان بعدد معيّن من الخلايا العصبية، ثم يستمر في فقدانها شيئا فشيئا على طول خط الحياة – خطأ.
يولد الطفل ولديه 100 مليار خلية عصبية، ويستمر المخزون الرئيسي يرافقه طوال حياته، غير أن مرحلة البلوغ تمتاز بولادة خلايا عصبية جديدة، تعمل على فرز وتصنيف الذكريات والحدّ من التداخل بين بعضها البعض، ومع التقدم في العمر يكون هناك تناقُض في تجدّد الخلايا العصبية، تُساهم فيه أيضا وبشكل كبير، عوامل أخرى، مثل الاكتئاب والتوتّر وقلّة النوم.
كلما كان المخ أكبر، كان الذكاء أكثر – خطأ.
ألبرت أينشتاين، كان وزن دماغه 1,25 كغم، وهذا هو المتوسط تماما، فليست المسألة مسألة حجم أو وزن، بقدر ما هي تنظيم، والدوائر والوصلات بين الخلايا العصبية هي التي تؤثر في القدرات الفكرية والعقلية للأفراد، وهي معايير تحدِّدها الجينات والبيئة الاجتماعية.
التفكير عملية صعبة – صحيح .
يمثل الدماغ 2٪ فقط من وزن الشخص البالغ، مع ذلك، يتلقى 15٪ من الدم ويستهلك 20٪ من الأكسجين و25٪ من الغلوكوز، الذي يستهلكه الجسم كله، وعندما نقوم بنشاط عقلي، فإننا نستهلك مزيدا من الغلوكوز والأكسجين. وبخصوص الطاقة، يستهلك الدماغ ما يعادِل 10 إلى 25 واط، تبعا لمستوى النشاط والتركيز.
(المصدر : echosciences – grenoble.fr )
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.