“مدينة مصدر”.. أحدث التكنولوجيا النظيفة لخدمة التنمية المستدامة
حجزت سويسرا في أبو ظبي أول حي بـ "مصدر"، أول مدينة تـُقام في العالم على أساس يحافظ على البيئة ويحترم أسس التنمية المستدامة. المشروع الذي كان مجرد حلم، سمح لوفد سويسري جمع 60 من السياسيين وممثلي الشركات السويسرية، بالوقوف على بداية الأشغال في المدينة ومعاينة مكان إقامة "القرية السويسرية" التي ستنجز لعام 2012.
لقد قيل الكثير عن مشروع “مدينة مصدر”، التي تسهر إمارة أبو ظبي على إنجازها كأول نموذج لمدينة محافظة على البيئة وخالية من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون والنفايات في العالم، ولكن ما قيل كان يُـنظر له على أنه مجرد حلم لخيال مُـبدع يتوق لرؤية المدينة الفاضلة لشدة التأثر بما يتداول عن أضرار التغيرات المناخية وشح الموارد الطبيعية وتأثيرات الإصدارات الغازية أو ما يُـعرف بغازات الدفيئة.
لكن الزيارة التي قام بها وفد سويسري لإمارتَـي رأس الخيمة وأبو ظبي ما بين 17 و20 أكتوبر 2009، سمحت لممثلي حوالي 60 شركة ومؤسسة سويسرية بالوقوف على بداية تحقيق هذا الحلم.
وهذا ما أكده الدكتور خالد عوض، مدير إدارة الترقية العقارية بمشروع مصدر في حديث مع swissinfo.ch، إذ قال: “نعم لقد أصبح مشروع مصدر واقعا ملموسا، لأنك لو قمتَ بزيارة الموقع، ستشاهد بناء أول وحدة في مشروع مدينة مصدر، أي الجامعة أو المعهد التكنولوجي لمصدر الذي يتم إنجازه بالتعاون مع معهد “ماساشوسيتس للعلوم والتكنولوجيا MIT” والذي سيستقبل الطلبة في الربع الثاني من عام 2010، ويكون بذلك أول معهد متخصص في تكوين الإطارات في مجال التنمية المستدامة”.
تكنولوجيا متطورة في تصميم معماري أصيل
يصِـر مصمِّـمو مدينة مصدر، كما جاء في تقديمهم لهذا المشروع، على أن تكون هذه المدينة الأولى من نوعها في العالم مستوحية تصاميمها من “التصميم المعماري للمدن التقليدية والأسواق والبراجيل التي يزخر بها العالم العربي”، ولكنها مدينة ستجمع في تصميمها وتشييدها وإدارتها، آخر ما توصلت إليه البشرية من تكنولوجيا وتقنية نظيفة ومحافظة على البيئة وعلى الموارد الطبيعية.
وإذا كانت الأشغال قد بدأت بالفعل في مبنى معهد مصدر للتكنولوجيا والعلوم، وهو يكاد يكون قد تم الانتهاء من بناء هيكله، فإن ذلك ما هو إلا مرحلة أولى من عدة مراحل سيعرفها المشروع، بحيث سيتم تشييد قسم المكاتب ثم المنازل السكنية لحوالي 50 ألف ساكن، تضاف الى ذلك الفنادق والمقاهي والساحات والشوارع الخالية من السيارات المستخدمة للوقود الأحفوري، أي مدينة بكل مقوِّمات المدينة.
ولكنها كما يوضح الدكتور خالد عوض، “قائمة على أساس المبدإ اللإيكولوجي المحافظ على البيئة، بهدف التوصل إلى تشييد مدينة تمثل فيها إصدارات غاز ثاني أكسيد الكربون 0%، كل الطاقة المستخدمة فيها تكون من مصادر متجددة أو نظيفة ولا تستخدم فيها سيارات مستعملة للوقود الأحفوري أو البترول، وبهذا نكون قد حددنا ظروف العيش وألزمنا سكانها بالتزامات خلقية محافظة على البيئة. وهؤلاء السكان هم الذين سيحدِّدون الطريقة التي ستكون عليها المدينة، وليس نحن. وكل ما سنقوم به هو تحضير الأرضية والبنية التحتية التي تسمح لهم بتحمل المسؤولية تجاه محيطهم وبيئتهم”.
وأثناء شرح هذا المبدإ الإيكولوجي، تدخّـل عدد من أعضاء الوفد السويسري للتساؤل حول كيفية التعامل مع شحّ المياه ومع التقليل من استهلاك الطاقة في بلد يعتمد كثيرا على المكيفات وغيرها. لكن بما أن النموذج هو الأول من نوعه في العالم وأنه في مرحلته التجريبية، يقول الدكتور خالد عوض: “لو كانت لدينا أجوبة وحلول لكل المشاكل المطروحة من أجل التوصل إلى تشييد مدينة خالية من الإصدارات الغازية مع استهلاك للطاقة في حدود ما تعرفه سويسرا، أي حوالي 2000 واط لكل مواطن، لكان من السهل على الجميع اتباع تلك التجربة، ولكن ليست لدينا خبرة ولا معرفة ولا تجربة في هذا المجال، لذلك سنعتمد على أول تجربة وعلى اختبار الحلول الممكنة، لأن كل ما نقوم به هنا في مدينة مصدر هو تجريبي واختبار على نطاق أوسع، يمكن أن يطبق فيما بعد في مناطق أخرى”.
قرية سويسرية بتكنولوجيا سويسرية
من الدول التي سارعت لحجز حي كامل بمدينة مصدر، سويسرا التي ستطلق على هذا الحي اسم “القرية السويسرية” والتي ستضم، إلى جانب سفارة سويسرا لدى دولة الإمارات العربية المتحدة ومقر المركز التجاري السويسري SWISS HUB، مكاتب لشركات سويسرية وبنايات سكنية، إلى جانب مطاعم ومقاهي.
هذه الفكرة كان وراءها منذ أكثر من سنتين نيك بيغلينغر من شركة “ماكس ميكر”، الذي روّج لمشروع مصدر في مناسبات عديدة بسويسرا، ورأس مؤخرا جمعية القرية السويسرية التي تضم حاليا 110 من الأعضاء من بين الشركات والمؤسسات والخواص السويسريين المهتمين، إما بتأجير حيز في المشروع أو بتصدير منتجاتهم إلى مدينة مصدر.
وعن سير الأشغال لإنجاز مشروع القرية السويسرية ضمن مشروع مدينة مصدر، يقول نيك بيغلينغر “شرع المهندس المنتدب من قِـبل مؤسسة القرية السويسرية في العمل مع شركة البناء السويسرية “Implenia” التي ستقوم بفتح المنافسة أمام المهندسين المعماريين، بحيث ستوجّـه الدعوة للعديد من المهندسين المعماريين السويسريين للمشاركة في هذه المنافسة، وبعد الانتقاء والتصفية، يتم الاحتفاظ بعـدد من هؤلاء لكي يقوموا بتصميم المشاريع السويسرية التي ستشيّـد في القرية السويسرية لكي يصبح هذا المشروع مشروعا جذابا ضمن مشروع مدينة مصدر”.
وإذا كانت مدينة مصدر قد حدّدت المعايير التي يجب احترامها بصرامة في التصميم واختيار المواد والتشييد، فإن نيك بيغلينغر يرى أن هناك مجالا “لتوظيف التكنولوجيا وأساليب العمران السويسرية في تلك المعايير، لأننا بذلك نعمل على توسيع إمكانية تصدير المعرفة والتكنولوجيا والخبرة السويسرية، وخصوصا في مجال التكنولوجيا النظيفة”.
ولم يتردد رئيس جمعية القرية السويسرية في الأثناء في حُـسن اختيار موقع إقامة القرية السويسرية إذ يعتبر أن “القرية السويسرية ستحتل مكانة ممتازة ستعرف حركة مكثفة للمارة بين المركز الإداري لمدينة مصدر والمعهد الجامعي، وبين مركز المحاضرات إلى المركز العِـلمي، وكل ذلك يقود للمرور عبْـر القرية السويسرية”.
شركاء حسب المقاس
ويولي السويسريون اهتماما كبيرا بمشروع مدينة مصدر والقرية السويسرية، وهذا ما انعكس من خلال تنوع المشاركين في الزيارة التي قام بها الوفد الاقتصادي لعين المكان للوقوف على حقيقة المشروع، سواء من مؤسسات قد يكون لها نصيبها في تشييد بعض المشاريع أو تلك المتخصصة في التكنولوجيا النظيفة، والتي ترغب في لعب دور هام في هذه المدينة الواجهة التي قد تفتح آفاقا كبرى، لو يتم تكرار التجربة في مناطق أخرى.
كما أن الجامعات والمعاهد المتخصصة اهتمت بالموضوع لاعتباره تجربة رائدة واختبارا بمقاس أوسع لتجارب ظلت حتى اليوم على مستوى المخابر، وهذا ما يعكسه أيضا الالتزام الرسمي من خلال دعم مكتب الترويج الاقتصادي السويسري لمشروع بناء القرية السويسرية، وقبول السلطات نقل سفارة سويسرا إلى تلك القرية، إضافة إلى مساهمة مصرف “كريدي سويس” منذ البداية في مشروع مصدر.
الجانب الإماراتي يجد في الشريك السويسري شريكا مثاليا لا يحتاج إلى إقناع من أجل تصور معالم هذه المدينة، وذلك لعدة أسباب كما يشرح الدكتور خالد عوض، المسؤول عن قسم الترويج العقاري بمشروع مصدر، قائلا: “للحديث بدقة عن هذه المشاركة السويسرية، يمكن القول أن التكنولوجيا السويسرية هي الأقرب لما كنا نتصوّره. فتصور النموذج الذي ستكون عليه مدينة مصدر في المستقبل كان بالنسبة للعديد من الناس في العالم عِـبارة عن تصور نظري أو تصور غير قابل للتحقيق أو عبارة عن حلم وخيال، ولكن بالنسبة للسويسريين، كان ذلك تصورا جديا وهدفا لطالما طمحوا لتحقيقه، لذلك نجد أن هناك تقاطعا بين أهداف مدينة مصدر وطريقة تفكير السويسريين والشركات السويسرية، وهذا ما شجع على خلق هذا الجو الذي قاد إلى هذا التعاون مع الشركات السويسرية. وسنعمل على تعزيز هذا التعاون لأننا اكتشفنا بأن سويسرا هي البلد الأقرب لتصوّرنا عن مدينة مصدر”.
وإذا ما بقي البعض مشككا رغم هذا كله في إمكانية ظهور أول مدينة قائمة على أسس بيئية في إمارة ابو ظبي، فإن رئيس القرية السويسرية نيك بيغلينغر يستشهد بما كتبته صحيفة دولية مرموقة، لتلخيص ما يمكن قوله عن مشروع مصدر: “مشروع مدينة مصدر يعتبر المشروع الأول في العالم لمدينة محافظة على البيئة، وهذا التعبير لصحيفة فايننشال تايمز في عددها الصادر قبل أيام. ومصدر بالفعل، مشروع من هذا القبيل، بحيث أنها تعكس آخر ما توصلت إليه المعرفة في العالم في مجال تخطيط المدن وفي مجال الفن العمراني، وهي بذلك تُظهر للعالم أنه بالإمكان تحقيق نمط عيش مستدام، مع مراعاة لمشاكل التغيرات المناخية وقلة الموارد المائية وغيرها، وهي بمثابة نموذج يتم تحضيره ليُقدم للعالم كطريقة مثلى للعيش في ظروف تراعي التنمية المستدامة، ولحث دول أخرى على اتباع نفس النهج”.
محمد شريف – أبو ظبي ( الإمارات العربية المتحدة) – swissinfo.ch
أول مدينة خالية من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون والنفايات في العالم ومعتمدة على مصادر الطاقة المتجددة.
ستقام على مساحة ستة كيلومترات بالقرب من مطار أبو ظبي
تتسع لإيواء حوالي 40 ألف ساكن وحوالي 50 ألف زائر يوميا
وستأوي إلى جانب معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا، مباني سكنية ومحلات تجارية ومقرات حوالي 1500 شركة ومؤسسة.
تم الشروع في التخطيط لها قبل أربع سنوات، وستفتتح جزئيا في نهاية عام 2009، بعد الانتهاء من تشييد معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا، لكي تكون جاهزة في عام 2018.
عن الفائدة التي تجنيها إمارة أبو ظبي من تحقيق هذا المشروع، يقول الدكتور خالد عوض رئيس قسم الترويج العقاري بمشروع مصدر في حديثه لـ swissinfo.ch: “عندما تزور مدينة ابو ظبي، تلاحظ أنها مدينة تطوّرت منذ اكتشاف النفط في السبعينات، وأسست بنية تحتية عصرية شبيهة بباقي المدن الكبرى الأوروبية أو الأمريكية، وبها نسبة أمن عالية. فقد استطاعت بفضل النفط أن تحقق في غضون 30 عاما ما استغرقت مدن أخرى أكثر من 100 عام لتحقيقه، ولكن هذا التطور وهذا النمو، تم بثمن بيئي باهظ. فمدينة أبو ظبي بها اليوم إحدى أعلى نسب إصدارات غاز ثاني أكسيد الكربون في العالم، وبالنسبة لعدد المواطنين ونفس الشيء بالنسبة لاستهلاك الطاقة أو المياه.
وعندما نحاول معرفة ما ستكون عليه من هنا حتى الثلاثين عاما القادمة، فإننا نستنتج بأن الإستمرار في هذا النهج سوف لن يسمح بتنمية مستدامة، لذلك نعتبر بأن ابو ظبي، إذا ما سخرت إمكانياتها الحالية وأعطت أولوية لحماية البيئة مثلما تخطط له من خلال مشروع مدينة مصدر، فإنها ستتحول لمدينة ستكون بمثابة النموذج الذي يجب إتباعه في العالم، وهذا يعني بالنسبة لأبو ظبي الكثير من الدروس، أولا، تطوير مصادر الاقتصاد وعدم التركيز فقط على النفط، وتقديم حلول لمشاكل بيئية متمثلة في نسبة إصدارات غازية عالية بالنسبة لبلد صغير.
والأهم من هذا وذاك، هو تسخير هذه الطاقات البشرية وتوجيهها نحو الاتجاه الصحيح، ما يجعل من هذا المشروع مشروعا هاما من هنا حتى عام 2030، وليس فقط لعام 2010، لأن الهدف ليس فقط خلق جزيرة بيئية في وسط غير مبال للمشاكل البيئية، بل قيادة المنطقة إلى اهتمام بتلك المشاكل وإعطائها الأولوية في التخطيط وفي فتح الأسواق القادرة على تنويع الاقتصاد، ليس فقط في الإمارات، بل أيضا في منطقة الخليج، أي المملكة العربية السعودية وقطر وغيرها، بعد قيام أبو ظبي بالتجربة”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.