الفضاء يتحول إلى مجال جديد للاستثمار المُستدام
لم يعد الفضاء حكراً على الحكومات فقط. فبخلاف شركة "سبيس إكس SpaceX" و"بلو أوريجين Blue Origin" أو "فيرجين غالاجتيك Virgin Galactic" ـ وهي كبرى شركات علوم الفضاء الصناعية الخاصة ـ فإن آلاف الشركات دخلت مجال أعمال الفضاء، ومعها كذلك مستثمرون من القطاع الخاص.
تقدر قيمة شركة “سبيس إكس SpaceXرابط خارجي” بحوالي 46 مليار دولار، وهي تلك الشركة المتخصصة في مجال الفضاء والمملوكة لإلون ماسك، مؤسس شركة تيسلا للسيارات. وقد نقلت سفينته الفضائية القابلة للاستخدام مجدداً رواد فضاء لمحطة الفضاء الدولية مؤخراً. كما استثمرت الشركة بالفعل حوالي خمسة ونصف مليار دولار، والتي دَرَّت عليها رأس مال استثماري.
أما شركة “بلو أوريجين Blue Originرابط خارجي” فهي أكثر تكتماً: حيث تحصل هذه الشركة التي تعتبر ثاني شركة خاصة من حيث الحجم في مجال الفضاء، على مليار دولار سنوياً من مؤسّسها جيف بيزوس. وهو قادر على دفع هذا المبلغ: حيث يعتبر رئيس شركة أمازون أغنى رجل في العالم (حتى موفى 2020).
بدورها تَعِد شركة “فيرجين غالاكتيك Virgin Galacticرابط خارجي” التي أسسها ملياردير آخر هو ريتشارد برانسون، بإرسال رحلات سياحية في المستقبل القريب إلى منطقة ما دون المدار الفضائي، وقد حصلت هذه الشركة على تمويل هائل من صندوق حكومي يتخذ من دولة الإمارات العربية المتحدة مقراً له. وتعتبر هذه الشركة هي أول شركة كبرى في مجال الفضاء، يجري تداول أوراقها المالية في البورصات.
لكن اللاعبين الثلاثة الرئيسيين ليسوا وحيدين في الميدان. ففي السنوات العشر الماضية، نمت شركات الفضاء بصورة فجئية. فبينما بلغ حشد الموارد لمثل هذه الشركات عام 2009 أقل من مليار دولار، وصل هذا المبلغ عام 2019 إلى ستة مليارات دولار بالفعل، توزّع أكثر من نصفها على ثلاث مجالات تشمل الاتصالات باستخدام الأقمار الاصطناعية ومراقبة الأرض وصناعة الصواريخ.
من الإدارة المالية إلى الفضاء
يجدر بنا الإشارة هنا، إلى أننا استقينا هذه الأرقام من كتاب “إلى الأعلى خارجاً. الاقتصاد الفضائي الجديد”رابط خارجي، الذي صدر مؤخراً في دار نشر سبيس واتش.غلوبالرابط خارجي. أما الكاتب رافائيل روتغن فهو على دراية واسعة بالأرقام. ويمتلك هذا الألماني القاطن على ضفاف بحيرة زيورخ، ما يربو على عشرين عاماً من الخبرة في المجال المالي ـ وقد عمل في عدة مؤسسات هامة من بينها “جي بي مورغان JP Morgan” و”دويتشه بانك Deutsche Bank”.
وفي عام 2017 قرر روتغن التوجه كليةً إلى مجال الفضاء ـ وهو المجال الذي يعشقه طوال حياته. وقد حصل على شهادة من الجامعة الدولية لعلوم الفضاء بستراسبورغ (فرنسا)، وأسس في مطلع عام 2020 شركة “E2MC”، التي تقدم خدمات استشارية للمستثمرين في قطاع الرحلات الفضائية.
لكن المرء لا يحتاج لشهادة في الإدارة المالية، ليستمتع بقراءة الـ 236 صفحة. فالكاتب ينفرد باستعراض هائل لأبحاث الفضاء، يمتد من الصاروخ الأول وحتى الرؤية المستقبلية البعيدة لاستيطان القمر أو حتى المريخ من قِبل الإنسان. “لم أكن أرغب في كتابة مرجع للمستثمرين، كي يُوضع على رفوف الكتب المتخصصة بمحال بيع الكتب ويُترك ليغشاه الغبار”، على حد قول الكاتب.
بهذه الكلمات توجه روتغن لهؤلاء الذين يسعون للعمل في مجال الفضاء، بل وكذلك للعامة الذين يريدون فقط المشاهدة، والفهم والانبهار، بما حققه الإنسان هناك بالخارج، وبالمخططات التي لا يزال يضعها.
بصفته كثير الارتحال ـ فشركته لديها مكاتب في كل من مدينة تسوغ، وولاية فلوريدا الأمريكية والبرازيل ـ يقول رافائيل أنه يُوَاجه كل مرة بنفس الانبهار. “إن الفضاء يجعلنا نحلم، حيث التوقعات مثيرة والإمكانات هائلة ـ إن الفضاء هو حدودنا الجديدة”، على حد قوله.
“وهؤلاء الذين ذهبوا إلى هناك، كثيراً ما أصبحوا مهووسين بأثر ‘المنظر الكوني’ هذا: فمن السماء تبدو الأرض بلا حدود. إنه درس لسياسيينا، الذين عليهم الذهاب إلى المدار الفضائي ليصلوا إلى ذلك المنظور. ربما نأتي بالسياحة الفضائية إلى هناك. ولكنني حقاً أرى أن الفضاء هو العامل المُوَحِّد للبشرية”.
إن وجهة نظر روتغن متفائلة للغاية. لكنه لا يستبعد حدوث تطورات سيئة. مثل التسليح العالمي في الفضاء. وتحديداً، ذلك اليوم الذي يحاول كل طرف فيه حماية طرق التجارة للقمر أو للكويكبات، التي يسيل لها لعاب البعض الآن بالفعل طمعاً في كنوزها الطبيعية.
كسر الاحتكار
حتى ذلك الحين، يمكن للمستثمرين حالياً اللجوء للتقنيات القائمة. ذلك لأن قطاع الرحلات الفضائية حاضر في حياتنا بقوة، وهذا منذ وقت بعيد بالفعل. سواء كان ذلك في الاتصالات اللاسلكية أو أجهزة الملاحة الإلكترونية، وغيرها من أنظمة التموضع أو مراقبة كوكبنا. فنحن جميعاً نعرف صور الأقمار الاصطناعية التي تُظهر العواصف الدوامية، والحرائق المنتشرة على مساحات واسعة وغيرها من الظواهر والكوارث من الفضاء.
وهناك قطاع آخر يزدهر، وهو تصنيع الصواريخ. فقبل أمد بعيد، تلقت السلطات المحلية المسئولة عن رحلات الفضاء شحنات حصرية من عمالقة ذلك المُجمّع العسكري الصناعي.
وقد كسرت شركات “أريان سبيس Arianespace”، ومن بعدها “سبيس إكس SpaceX” و”بلو أوريجين Blue Origin” هذا الاحتكار. ففي عام 2019، كادت إسرائيل أن تصبح الأمة الرابعة التي تحقق إنزالاً بسيطاً على سطح القمر. وبرغم من أن مسبار بيرشيت قد تحطم في نهاية المطاف فوق سطح القمر، إلا أنه يُعتبر برغم ذلك أول سفينة فضاء ذات تمويل خاص تصل إلى ذلك العالم الآخر.
إن التحدي في سوق الفضاء واضح إذ لا بد من أن تنخفض الأسعار لكل كيلومتر من الحمولة. فحتى الآن يتكلف كل كيلومتر يضطر لتخطي الجاذبية الأرضية عشرات الآلاف من الدولارات. أما اختراعات مثل صاروخ “فالكون 9” (Falcon 9) الذي أنتجته شركة “سبيس إكس SpaceX”، وهو ذلك الصاروخ القابل لإعادة استخدامه، فمن شأنها الإسهام في ذلك بصورة فعالة.
حب المغامرة
في سياق متصل، نُذَكِّر أن شركة “سبيس إكس Space X” المملوكة لإلون ماسك قد مُنيت بالعديد من الوقائع وحوادث التحطم، قبل أن يتسنى لها إنجاز هذه القطعة الفنية. ذلك لأن الحكمة القديمة تفيد بأن “انطلاق أي صاروخ ليس عملية روتينية”.
قياسا على ذلك، فإن الاستثمار في مجال الفضاء له كذلك مخاطره. فنحن في سويسرا لم ننسَ انهيار نظام “سويس سبيس سيستمز Swiss Space Systems “، تلك الشركة الناشئة بكانتون فو، والتي حاولت إنتاج أقمار اصطناعية صغيرة وأقل كلفة وإطلاقها إلى المدار الفضائي. وكما تبين لاحقاً، فقد كانت خطة العمل بأكملها قائمة على تفاؤل مُبالغ فيه، لكي لا نقول “خدعة كبيرة”.
أما رافائيل روتغن فهو على دراية بمثل هذه المخاطر. “فالاستثمارات التي تصل إلى حدود التكنولوجيا تشكل دائماً خطورة. ولكن المخاطر تتضاءل باطراد في مجال الفضاء، ذلك لأن وكالات الفضاء الحكومية تضع ضمانات للمشروعات الجادة. فضلاً عن ذلك فإن عائد الاستثمار لا يكون بالضرورة بعيد المنال. إلا إذا كان الاستثمار في مجال استخدام المياه على القمر لأجل بناء مستوطنات مستقبلية، أو في بعثات إلى المريخ. لكن إذا ما اخترت على سبيل المثال إحدى الشركات التي تعالج بيانات الأقمار الاصطناعية، فإن الربح قد يأتي سريعاً”.
ولكن، ما مدى استدامة مثل هذه الاستثمارات؟ يجيب روتغن قائلا: “إذا ما نظرنا إلى مجالات مثل مراقبة الأرض، والتي تساعد على فهم التغير المناخي أو تحسين التخطيط الزراعي، أو إنتاج أدوية جديدة في حالة انعدام الجاذبية، فإنني قد أقول إن هذا يتماشى مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة”،
“إن الفضاء ينتظر ناشطة جديدة مثل غريتا تونبرغ”، على حد ما كتبه رافائيل روتغن في فصله حول الفضاء كمكب للنفايات، وهو الحال الذي آل إليه المدار الفضائي حول الأرض منذ عام 1957.
فمنذ أن دارت مركبة “سبوتنيك1” (Sputnik 1) السوفياتية آنذاك لأول مرة حول الأرض، أرسل الإنسان حوالي ثمانية آلاف جسم إلى الفضاء حتى الآن. ولا تزال خمسة آلاف منها تدور فوق رؤوسنا، ولكننا لا نتحكم سوى في ألفيْن منها فقط.
أما البقية الباقية فتشكل قطع حطام، تنفجر أو تتصادم في بعض الأحيان. أما النتيجة فهي أن حوالي مليون قطعة حطام يبلغ قطر أصغرها سنتيمتر واحد تسبح حاليا حول المدار الفضائي للأرض. وقد يبدو ذلك كحجم شديد الضآلة، إلا أن هذه الأجسام تدور حول الأرض بسرعة تبلغ 20 ضعف سرعة الصوت، لهذا فإن اصطدام ما يشبه حبة الأرز هناك بالأعلى يحدث انفجاراً يُعادل انفجار لغم يدوي.
وبالنسبة لرواد الفضاء وكذلك لمشغلي الأقمار الاصطناعية، فإن معرفة الكيفية التي يتحرك بها هذا الحطام تعتبر مسألة حياة أو موت. كما أنه كثيراً ما تطلب الأمر تصحيح المسار لمنع حدوث اصطدام. ويذكر أن التلسكوب الفضائي السويسري “خوفو ” (CHEOPS) اضطر في مطلع شهر أكتوبر 2020 إلى القيام بمثل هذا التعديل.
إنه نظام أشبه بكرة الثلج المتدحرجة، فكل اصطدام يُحدث حطاماً جديدة ويزيد من خطر وقوع اصطدامات أخرى مستقبلاً.
وقد تمكنت شركة “كلير سبيس Clearspace”، وهي شركة سويسرية ناشئة انبثقت عن المعهد التقني الفدرالي العالي بلوزان، من إقناع الوكالة الأوروبية للفضاء بأهمية مشروعها، لذا قررت الوكالة تمويل تطوير “القمر الاصطناعي المنظف” بمبلغ قدره 86 مليون يورو.
وسوف تتمثل مهمة هذا القمر الاصطناعي في الإمساك ببعض الحطام في الفضاء ومن ثم توجيهها حتى تحترق عند دخولها مرة أخرى إلى المجال الجوي للأرض.
وفي صورة نجاحها، فإن “كلير سبيس” Clearspace ستنضم إلى كوكبة الرواد في صناعة الفضاء السويسريةرابط خارجي، التي تضم بالفعل أكثر من 100 شركة، من جميع الأحجام.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
اكتب تعليقا