نظرة علمية جديدة تسبر أغوار العلاقة التفاعلية بين العقل والدماغ
أفضى التعاون المتميِّـز بين اثنين من الأكاديميين السويسريين في موضوع العلاقة بين العقل والجسد، ومسعى التوفيق بين عِـلم الأعصاب وعِـلم النفس، إلى فتح طريق جديد في مُـعالجة مرضى الاضطرابات النفسية يكون أكثر تكاملا.
قادت البحوث التي يقوم بها فرانسوا آنسارميت، أخصائي التحليل النفسي في جامعة جنيف، وبيير ماجيستريتّي، أخصائي عِـلم الأعصاب في المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان، إلى تقديم رُؤىً جديدة تدلّـل على معرفة كيْـف نفكِّـر وكيف نتصرّف وكيف نقوم بالأفعال.
وقام الأستاذان خلال مؤتمر نيويورك لخبراء وأطباء وعلماء التحليل النفسي الذي عقد يوم الخميس 21 مايو 2011، بالتحدث عن تجربتهما، ملقيان الضوء على مفهوم التوفيق بين عِـلم الأعصاب والتحليل النفسي.
وصرّح ماجيستريتّي لـ swissinfo.ch قائلا: “يقف العِلْمان على طرفيْ نقيض في فهْـم كيفية عمل الدماغ”. ووصف الأستاذان جهودهما في الرّبط بين علم الأعصاب والتحليل النفسي، بأنها بمثابة “الجمع بين نقيضيْـن أو الجمع المُعضِل بين الدبّ القطبي والحوت”.
وخلص كل من آنسارميت وماجيستريتّي، إلى أن جهودهما تلتقي عند البحث الخاص بمفهوم اللدونة (المرونة) العصبية، الذي يُعبّـر في المضمون عن قُـدرة الدماغ على إعادة تنظيم نفسه بتشكيله، عبْـر مسيرة الحياة، لارتباطات عصبية جديدة، ما هي إلا أثر مادّي أو نقش لتجاربنا في الذاكرة.
ويمكن لنا أن نتصوّر الدّماغ كما لو كان كُـتلة مطاطية في حالة حركة، ما بين تمدّد وانكماش وتَطَوّي واعتدال، تُـتيح المجال طِـوال الحياة لتكوين ارتباطات عصبية جديدة، لها شكْـل بُـقع أو نكاتٍ صغيرة، هي آثار لتجاربنا الجسدية والعقلية.
وتفيد الأبحاث، بأن العصبونات، التي هي خلايا عصبية متخصِّـصة، لها مهمّـة نقل المعلومات، تتبدّل بفعل خِـبراتنا أو تجارِبنا الحياتية. فقد تنمو ارتباطات جديدة بين الخلايا العصبية، كما قد تتلاشى ارتباطات قديمة، إما بسبب ضُـعفها أو بسبب ما تتعرّض له من تجاذبات، هذه العملية هي التي يُـطلِـق عليها العلماء، المُـرونة العصبية، وهي مؤشّـر على قدرة الدِّماغ على القيام بنشاطه.
تشفير المعلومات وتخزينها
وجدير بالذِّكر، أن الآثار المادية التي تتحدّث عنها أبحاث المُـرونة العصبية، تتوافق مع مفهوم رئيسي لدى التحليل النفسي، يقوم على أساس أن أحداث الحياة تترك آثارا على الحالة النفسية.
وبحسب ماجيستريتّي: “الفِـكرة المِـحوّرية، هي أن عِـلم الأعصاب وعِـلم التحليل النفسي، كلاهما يعتبر بأن النكات أو الآثار تستنِـد إلى حقائق بيولوجية، أساسها المُـرونة العصبية، وهي تمثّـل الآلية التي بواسطتها يقوم الدِّماغ بتشفير التّـجارب الشخصية لكل شخص: كيف يتعلّـم؟ وكيف تعمل ذاكرته؟ وكيف تُنقَـش التجربة أو الحدث، ليُـصبح جزءً من الذاكرة؟”.
وما أن يقوم الواحد مِـنا بتعلّـم الأمر الجديد، حتى يتِـم نقشه بشكل ابتِـدائي على هيئة مجموعة من الارتباطات العصبية الدِّماغية الخاصة، وتَذَكُّـر تجربة من الماضي، يعني أن ارتباطاتها الدِّماغية نشطت من جديد، فولّـدت نمَـطا منها كان مُـخزّنا في الذاكرة.
وعلى سبيل المثال، لو تبسَّـمُـت أمّـك في وجهك وعانقتْـك، فسيتولّـد لديك شعور بالراحة والدِّفء، وعند ذلك، يُنسج نمط لذات النشاط الحاصل وينقش في ذاكرتك، كأثر لصورة وجْـه أمِّـك المُـبتسم ولعِـناقها الدّافِـئ وللراحة النفسية والجِـسمانية، التي أحْـسَـست بها، ثم يَـصير كلَّـما خَـطَـرت على بالك ابتِـسامة أمِّـك، يتحفَّـز عندك ذات النَّـمط المُخَزّن في ذاكرتك، فيتولّـد لديك شعور بالراحة والسعادة، حتى وإن كانت أمّـك غائبة عنْـك.
عمليات العقل الباطن
وفي حديث لها مع swissinfo.ch، قالت ماجي زيلنر، المديرة التنفيذية للجمعية الدولية للتحليل النفسي والعصبي، التي يوجد مقرها في نيويورك: “من المُـثير للاهتمام، أن مُـعظم تلك العمليات تَـحدُث بشكل لا شعوري، أي خارج الوعي، وما هو موجود في أدمغتنا من ذكريات، ومشاعِـر، وتوقّـعات مستقبلية، واحتياجات آنية، هو الذي يُـحدِّد ما تكون عليه مشاعِـرنا وتفكيرنا ونوايانا في كل لحظة من لحظات حال الوعي”.
وبالنسبة لزيلنر، فإن: “ما قام به آنسارميت وماجيستريتّي، شيئا متميّزا. فهُـما يعملان على ربط المرونة العصبية بما يُطلِـق عليه المحلِّـلون النفسيون، اللاوعي الديناميكي أو المؤثّـر، وهو النشاط العقلي الذي يَـحدُث في اللاّوعي، كالرّغبة والخوف، وهو بدوره، يؤثِّـر على أفكارنا ومشاعرنا وسلوكياتنا”.
لقد استطاع الثنائي آنسارميت وماجيستريتّي تقديم شرح لكيفية قيام الدِّماغ بدمْـج التصوّرات الخارجية مع التّـفاعلات الداخلية، والطريقة التي يتِـم بواسطتها تخزين هذه العمليات واستِـدعائها أو إعادة تنشيطها في أخرى مُـستجَـدّة.
كما على سبيل المثال، إذا انتابَـك دافعٌ لعمَـل شيء لا ترضى عنْـه أمّـك، فإن الدِّماغ يقوم بتوليد نمَـط من الاستجابة، ترتسِـم خلاله صورة وجْـهِـها الغاضب وشعورها المُـضطرب، وهي حالة سبَـق لك فيما مضى أن شاهدتها وأحسَـسْـت بها، فعندئذٍ تتوقِّـف إنفاذ هذا الدافع، دون أن تُـدرك تمامَ ما جرى خلْـف كواليس ذاكرتك.
معالجة المرضى
ورغم عدَم اتِّـضاح التطبيق العملي لمَـسلَـك آنسارميت وماجيستريتّي، إلا أن الخُـبراء في المجال، يرجِّـحون بأن تُـسهِـم أبحاثهم يوما ما في علاج المرضى.
وترى زيلنر أنه “بسبب ما يعتري الدِّماغ من تغيُّـرات مستمرّة، بفعل ما يمُـر على المرء من تجارب وأحداث يومية، تتكوّن لدى كل مِـنّـا القُـدرة على تغيير أنْـماط الاستِـجابة المُخِلّة أو تلك المُجانِبة للصَّـواب”.
وتضيف: “مع مرور الوقت، يصبح عند غالبية الناس مَـيْـلا دائما لأن تكون لديهم نفس المخاوف والرَّغبات وطُـرق اللَّـهو والتنفيس عن الذات وأساليب التواصل وبِـناء العلاقات والاعتِـناء بالذات”.
ويُشار إلى أن ماجيستريتّي وآنسارميت، يقدِّمان علاج التحليل النفسي من خلال دراستهما، على أنه وسيلة أمام الناس تساعدهم في الوصول إلى مجموعة التداعيات التي تقود إلى أنماط عقلية غيْـر سليمة، من أجل تغييرها ونقْـشها في هيئة أنماط سليمة.
ومن جانبه، اعتبر فيليب لولوف، الطبيب النفسي والمدير المساعد في شُـعبة العلاج النفسي في مستشفى مونت سيناي، أن الجهود التي يقوم بها هذا الثنائي تبعَـث على الأمل، ووصفها في تصريح لـ swissinfo.ch قائلا: “إنها تُـعطي الأمل بإمكانية تحقيق تغييرات في الشخصية، باعتبار أن الدِّماغ مَـرِن ولـَدِن، وباعتبار أننا بواسطة التحريض من خلال التحليل النفسي، أي بمجرّد الكلام، يمكننا إحداث تعديلات في بنية الدِّماغ، بإمكانها تحسين أداء الأشخاص، ومن بينهم نحن، كما يُـمكن أن تقدم الأسلوب الناجع في معالجة وشِـفاء أصحاب الاضطرابات”.
فرانسوا آنسارميت، أستاذ وخبير في التحليل النفسي ورئيس قسم الأطفال الخاص بالطب النفسي للأطفال والمُـراهقين في مستشفى جامعة جنيف ورئيس قسم الطب النفسي في جامعة جنيف وعضو في الجمعية العالمية للتحليل النفسي.
بيير ماجيستريتّي، أستاذ عِـلم الأعصاب ومدير معهد الدماغ والعقل في المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان ومدير مركز العلوم العصبية والنفسية في مستشفى كلية الطب في جامعة لوزان، وقد شغل منصِـب رئيس الاتحاد الأوروبي لجمعيات العلوم العصبية.
تَـشارَك الأستاذان، آنسارميت وماجيستريتّي، في تأليف كتابيْـن، منهما كتاب “بيولوجيا الحرية”، و”اللدونة العصبية والتجارب واللاّوعي”.
تتوفّـر سويسرا على معهدين تقنيين فدراليين. الأول في زيورخ (EPFZ) والثاني في لوزان (EPFL). احتفل المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ في عام 2005 بمرور 150 عاما على تأسيسه. أما بدايات معهد لوزان، فتعود إلى عام 1853، إلا أن هذا الأخير لم يتحوّل إلى معهد تقني فدرالي عالٍ، إلا في عام 1969 بعد أن فُـصل عن جامعة لوزان.
يعتبر المعهدان، في الطليعة على المستوى الوطني والدولي في مجال العلوم والتكنولوجيا. على عكس الجامعات التي تخضع لإشراف الكانتونات، فإن المعهدين يخضعان مباشرة لإشراف الكنفدرالية.
تُركز المعاهد التقنية الفدرالية العليا في سويسرا أنشطتها في مجال التكنولوجيا الرفيعة. وقد أحرزت قصب السبق العالمي في مجال الأبحاث الأساسية والتطبيقية والتخصصية. وفي عام 2002، مُنحت جائزة نوبل في الكيمياء لثلاثة أساتذة، كان السويسري كورت فوتريخ، الأستاذ في المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ واحدا منهم.
يُـدرِّس المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان، الهندسة: (المعمارية والمدنية والبيئية والكيمياء والرياضيات والفيزياء والكهربائية والإلكترونية والميكانيكية والدقيقة وكيمياء المواد) وأنظمة الاتصالات وعلوم الكمبيوتر وعلوم الحياة والعلوم الإنسانية والاجتماعية وهندسة الاقتصاد.
أما المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ، يُدرّس الهندسة: (المعمارية والمدنية والبيئية والكهربائية والميكانيكية والدقيقة) والعلوم: (الزراعية والأغذية والبيئة والأرض والكمبيوتر والإنسانية والمواد والاجتماعية) والرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء والإنتاج الصناعي.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.