نوشاتيل تنفرد بتدريس فـنون اصطياد البيانات من الهواتف والحواسيب
أصبح بإمكان شرطة التحريات الجنائية في سويسرا الإعتماد منذ الآن على مركز جديد للتحقيق الجنائي الرّقمي والتشفير، لاسيما وأن مسألة استخراج المعلومات من مَـتاهات الكمبيوترات والأجهزة الإلكترونية الأخرى، أضحَـت من الفنون العصرية المُـلحَّـة.
اعتاد زعماء المافيا في صقليَّـة الإيطالية على التواصل بواسطة قصاصات ورقية، تحمل نصوصا وأرقاما قد تكون مفهومة أو غير مفهومة المعنى، ولكنها على كل حال لا تدُل على مُـرادها الظاهر، وفكّ ألغاز هذه الرسائل، هو الذي قاد الشرطة الإيطالية لإلقاء القبض على زعيم زعماء المافيا بيرناردو بروفينتزانو، بعد نحو 43 سنة من الفِـرار والتخفِّـي، ولعلّ هذا الأسلوب التقليدي هو ذاته، استخدمه أسامة بن لادن أو غيره، لكن طُـرق الإتصال الحديثة، ومنها تلك المتعلِّـقة بالجرائم والإرهاب، أصبحت تستَـخدِم وسائل الاتصال الإلكترونية وشبكة الإنترنت بالذات، وعليه، فإن المعلومات تُصاغ صياغة أخرى تتناسب مع هذا التقدّم التكنولوجي ووِفقا للتقنية الرقمية التي اكْـتَـسحت عالم اليوم.
وكان من الطبيعي أن يحظى هذا التحوّل باهتمام معهد مكافحة الجريمة الإقتصادية في نوشاتيل، فعمد في منتصف شهر مايو 2011 إلى افتتاح قِـسم تحت مسمَّـى “مركز التحقيق والتشفير الرّقمي الجنائي”، ليكون المركز الأول والوحيد الذي يُـتيح الفرصة للحصول على شهادة الدراسات العليا للمتخصِّـصين في مجال التحقيق الجنائي الرقمي. وفي تلك المناسبة، أكد رومان روباتي، رئيس المركز أنه “ثمّة تناقص ملحوظ في عدد القضايا الجنائية التي لا وجود فيها لمسائل تتعلَّـق بالتقنية الرقمية”.
ويُـشير روباتي بدوره، إلى التحقيق الجنائي الرقمي، بوصفه “فن استقاء البيانات”، وقد نال شُـهرته في السنوات الأخيرة من خلال التركيز عليه من قِـبل العديد من المسلسلات التلفزيونية، من بينها مسلسل “مشاهِـد إجرامية”، الذي أنتِـج في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2000 والذي “أشاع الكثير من الأفكار غير الصحيحة في غالبها”، حسب رأي روباتي.
البحث عن أدلة
في الواقع، أصبحت العديد من الأجهِـزة والأدوات الرقمية، ذات الاستخدام اليومي، كالحواسيب والهواتف النقالة وأقلام يو إس بي ونحوها، تكتسِـب أهمية كبرى لدى المحقِّـقين الجنائيين، وهو ما ألمح إليه رئيس مركز التحقيق الرقمي قائلا: “كل يوم، على سبيل المثال، تقوم الشرطة السويسرية بمُـصادرة أعداد مهُـولة من الهواتف المحمولة”، لكن من الممكن في بعض الأحيان، كما في الإصدارات الجديدة للهاتف المحمول الذكي “سمارت فون”، أن يتم مسح الذّاكرة عن بُعد، ولذلك، يَعمد العامِـلون في سلك التحقيق إلى وضعه مباشرة داخل جيْـبٍ من نوعٍ خاص يُـبقيه خارج تغطية شبكة الاتِّـصالات.
ويتسلّح المحقِّـقون بأجهزة وبرامج قادِرة على اصطياد المعلومات واستخراج البيانات، حتى تلك التي سبق حذْفها من القِـرص الصَّـلب لأي جهاز، مع تهيِـئة قراءتها دون مساس أو تحوير في مضمونها. ورغم سهولة هذه العملية، إلا أنها تستغرق وقتا طويلا ومُـضنيا، خاصة بعدما باتت الأقراص الصَّـلبة تتمتَّـع بذاكرة ضخمة قادِرة على تخزين كميات مهُـولة من البيانات. وفي المقابل، فإن لهذه البيانات قيمة قانونية حاسمة، كما أكَّـده روباتي حين صرح بأن “الأدلة الجنائية الرقمية هي الأقل جدلا أمام المحاكم بشكل عام”.
التشفير الرقمي
في بعض الأحيان، لا يتمكَّـن المحقِّـقون من الوصول إلى البيانات المخزّنة في ذاكرة الحاسوب ،إلا بعد الدخول إلى الحاسوب نفسه، ولذلك، كما يشرح روباتي، فإنه “إذا كان الحاسوب موصدا بكلمة سِـرّ ويرفض صاحبه التعاون، فيلزم عندئذ فكّ الشفرة، وهذا هو الذي يُسمَّـى علم التشفير”.
ونظرا لندرة المختصِّـين في هذا الفن، أوضح روباتي أن “سويسرا تتَّـجه نحو توفير عدد من رجال الشرطة تتكوّن لديهم خِـبرة كبيرة في هذا المجال، ولا يبدو الأمر عسيرا علينا في سويسرا، باعتبارنا نتمتع بمستوى تعليمي عالٍ، كما أننا بلد غني لديه تجهيزات ومُـعدّات تحقيق متطورة”.
ومن جهة أخرى، قد تتعدّى المسألة أصحاب الاختِـصاص من المحققين، لتَـطال رجال الشرطة العاديين، الذين ربما وجدوا أنفسهم أمام مواد أو بيانات رقمية، تقتضي منهم حِـكمة في التعامل معها، أي بمعنى آخر، الإلمام بمستوى معيَّـن من عِـلم أو مهارة التحقيق الرقمي، ولهذا السبب سيبدأ مركز التحقيق الجنائي الرقمي خلال الأشهر القادمة بتنظيم دورات لغيْـر المختصين.
مشكلة الحدود
من الطبيعي أن تُعقّـد الحدود مهمَّـة خُـبراء التحقيق الجنائي الرقمي وتعيق عملهم، لكن هنالك أيضا مشكلة اللاحدود في العالم الافتِـراضي، كما يصوِّرها روباتي قائلا: “كثيرا ما يحلو لي أن أصوّر الإنترنت في عالم اليوم بالغابات في العصور الوسطى، حيث كانت العِـصابات تختبِـئ وَراء الأشجار، لتنقضّ على المسافرين، بينما تختبِـئ اليوم في متاهات الشبكة العنكبوتية وتستطيع الإنقضاض حيث تشاء، وربما على بُـعد آلاف الكيلومترات دون أن يُـغادر أفرادها مقاعدهم”.
وهنا يمكن التذكير بآخِـر حوادث أو فواجع السَّـطو الإلكتروني التي طالت زهاء 100 مليون شخص من عملاء مجموعة سوني اليابانية، حيث تمَّـت سرقة بياناتهم الخاصة من أسماء وعناوين وبريد إلكتروني وتواريخ ميلاد وأرقام هواتف، وشملت السرقات في بعض الحالات، أرقام الحسابات المصرفية وبطاقات الائتمان.
ولا يستطيع أحد التكهُّـن باحتمالات أخرى من قبيل إقدام أحد الفُـضوليين من رجال الشرطة مثلا بالعبَـث بذاكرة جهاز الكمبيوتر، ثم يقوم من حيث لا يدري بتحويل البيانات الموجودة في القرص الصّلب عبر شبكة الإنترنت إلى خوادم توجد خارج البلاد. وحسب مدير مركز التحقيق الجنائي الرقمي فإنه “بمجرد أن يبعث بالمحتويات إلى عدّة جهات خارج البلاد، يكون قد أوقع المحقِّـقين في مشاكل قانونية لا حدود لها”.
ويخلِّـص روباتي إلى القول أنه “بالرغم من كل ما نبذل من جهود وما نحرز من تقدّم، إلا أني أخشى أن لا يزال أمام المجرمين بحبوحة وأيام ينعمون بها”.
ما هي النصيحة التي يقدِّمها رومان روباتي للإنسان العادي الذي يستخدم الحاسوب لكي يتجنَّـب الوقوع في المشاكل؟
“عليه ببساطة أن يتصرّف في العالم الافتراضي، كما لو كان في العالم الحقيقي، أي عندما أدخل مدنا بعينها، أتحاشى على سبيل المثال دخول بعض أحيائها، والأمر نفسه ينطبق على بعض المواقع في الإنترنت”.
“وإذا كنت أقوم من خلال العالم الافتراضي بتحويلات مالية تتضمن مبالغ كبيرة، فعليّ عندئذ أن أتحاشى استخدام نفس الكمبيوتر لتصفُّـح نوعية معيَّـنة من المواقع”.
ويؤكِّـد روباتي، على أن من الأليق بمَـن يستخدم شبكة الإنترنت أن يعزف أو على الأقل يقلل من الدخول إلى العالم الإفتراضي، دون الكشف عن هويته، باعتبار أن تلك الخدمة تكفلها الشبكة عن طريق بطاقة رقمية خاصة، وقال بأنه “منذ أن أصبحت أزياء الجنود السويسريين تحمل أسماءهم بشكل واضح، قلّت المشاكل، والأمر نفسه ينطبق على الإنترنت”.
لا يقتصر دور مركز التحقيق والتشفير الرقمي الجنائي، في مدينة نوشاتيل، على إعداد وتدريب الخبراء التابعين للهيئات الحكومية، بل يمكن له أن يقدم خدمات للأفراد والشركات، مثل استعادتهم لملفَّـات مفقودة أو كلمة سِـر منسية.
ويقول رومان روباتي، رئيس المركز: “مؤخرا، اتصلت بنا إحدى الشركات بسبب أنه لا أحد لديهم يتذكر كلمة السِـرّ الخاصة بفتح سجل بيانات رواتب الموظفين”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.