هل الاختبارات الشخصية قادرة على فهمنا أكثر من رؤسائنا في العمل؟
تقييم مُحايد للموظفين والمرشحين من الرجال والنساء لوظيفة جديدة: هذا ما يعِد به برنامج "People Analytics" (أو تحليل الأشخاص) عن طريق استخدام الذكاء الاصطناعي. فالخوارزميات قادرة على الحكم على البشر بموضوعية وبالتالي إتاحة التنوع الجنساني والثقافي وتجنب التحيّز والأحكام المُسبقة، كما تعدُ الشركات المطورة للبرنامج. ولكن هل هذا صحيح؟ أم أن هذه البرامج تقوم فقط بترسيخ الأحكام المُسبقة والصور المعياريّة من جديد؟
غوغل، وأمازون، ومايكروسوفت، كل هذه الشركات تُقسم على نجاح هذا البرنامج: “Work Force Analytics” (برنامج تحليل القوى العاملة) أو “ People Analytics” (أو برنامج تحليل الأشخاص)، فكلا الاسمين يطلقان على برنامج لتحليل بيانات العاملين، وربطها ببيانات أخرى للشركات. والأساس الذي يقوم عليه هو تحليل المرشحين والعاملين رجالاً ونساءً من خلال استمارات استبيان ذات معايير محددة. فهي في حقيقة الأمر اختبارات شخصية، يتم تنفيذها من خلال أسئلة متدرجة.
“إنني أفضل العمل وحدي” ما هي إجابتك على مقياس من واحد إلى عشرة؟
“حتى في المواقف العصيبة، أظل محافظاً على هدوئي”. كيف سيكون شعورك وأنت تجيبُ على هذا السؤال؟ إن الإجابة على العديد من مثل هذه الأسئلة تعكس تصوراً عن طبيعة شخصيتك ومدى ملاءمتك لمُمارسة وظيفة أو إنجاز مهمة ما.
الاختيارات الشخصية الخاطئة في العمل قد تكون لها عواقب باهظة الكلفة للشركات. لكن برنامج تحليل الأشخاص “People Analytics” من شأنه تقليل هذا الخطر. حيث يساعد في تجنّب حكم الرؤساء على العاملين بناءً على الميول الشخصية والأحكام المُسبقة وتصورات الأدوار المعيارية، حتى يتم اكتشاف أفضل المرشحين من الرجال والنساء ودعمهم. ومن بين ما يتعهّد به برنامج من هذا القبيل، هو إتاحة فرصة للأقليات أو للجماعات المُهمّشة للحاق بركب سوق العمل.
استخدام هذه البرامج القائمة على الخوازميات ظاهرة منتشرة للغاية في جميع أنحاء العالم حتى في سويسرا. فشركة ديلويت “Deloitte”، وهي واحدة من أكبر شركات التدقيق والمشورة على مستوى العالم، قد أجرت دراسة حول استخدام برنامج تحليل الأشخاص “People Analytics” من طرف الشركات السويسرية. ووفقاً لـ التقريررابط خارجي الذي أصدرته لعام 2020، فإن أربعة من بين كل خمس أصحاب أعمال، استُطلعت آراؤهم، يرون أن هذا البرنامج هام، أو بالأحرى هام جداً. كما يتوقعون أيضاً أن تزداد أهميته في المستقبل، وتحديداً في ظرف عامين وحتى خمسة أعوام.
التعددية معناها تنوع البشر وأنماط الحياة، وهي تشمل الاختلافات والاتفاقات فيما يتعلق بالأفراد والجماعات. والهدف من سياسة التعددية، هو الاعتراف بجميع البشر، بغض النظر عن نشأتهم، وجنسهم، وتوجّهاتهم الجنسية، وانتماءاتهم الدينية، وفلسفتهم، وفئتهم العمرية، أو إعاقاتهم.أما في علم الاقتصاد المؤسسي، فإن إدارة التعددية لا تعني فقط، قبول الاختلاف، بل كذلك استخدامه كإمكانات وميزات تنافسية.
لماذا يُعتبر الاختلاف اليوم ميزة وليس عيباً؟
هذا ليس بالأمر المفاجئ، فهو يتعلق في نهاية المطاف بالاختلاف والاحتواء، وكلاهما موضوعان على قدر كبير من الأهمية في الوقت الحاضر. فالكثير من الشركات تقوم حالياً بتحليل مدى جودتها في مجالات الجنس، والسن، والأجور. ومن الواضح أن هناك زيادة في تفهّم الاختلاف، بحيث أصبح يتعدى موضوع الجنس، مثلما تكتب شركة ديلويت في تقريرهارابط خارجي.
من ناحيتها، فإن الخبيرة في الاقتصاد السلوكي إريس بونيه، الأستاذة بجامعة هارفارد وعضو مجلس إدارة مجموعة كريدي سويس، على قناعة، بأن التنوع لم يعد اليوم مجرد مطلباً لبعض الفئات التي تُعاني من نقص التمثيل فقط، بل إنه قد أصبح ضرورة عامة. فمؤلفة كتاب “ما هي فرص النجاح: المساواة المتعمّدة بين الجنسين”، تذكر سببين في هذا الصدد. فالأول يتعلق بالمساواة في الحقوق: فجميع الناس ينبغي أن يحصلوا على فرص متساوية، لدخول سوق العمل، ولعب دور به، على حد قولها. ثانياً: فإن الأمر يتعلق بمسألة اقتصادية. فالمواهب يزداد تنوعها باطّراد، أما التجانس النموذجي الذي يحصر المرشح الأفضل في كونه “أبيض وذكر”، فلم يعد يتفق مع الواقع الديمغرافي. إذ لا توجد شركة ترغب في إقصاء الجزء الأكبر من المتقدمين والمتقدمات إليها. “فضلاً عن ذلك، فإن الدراسة تبيّن أن فِرَق العمل المتنوعة تصبح أكثر إبداعاً ويمكنها تحقيق إنجازات أفضل، خاصةً في الأوقات الصعبة، أكثر من الفرق المتجانسة. لذلك فإنه من الأفضل للشركات، التي تسعى لأن تصبح أكثر ابتكاراً، أن تحرص على توظيف أشخاص يعكسون وجهات نظر مختلفة”، على حد قول السيدة بونيه.
على الجانب الآخر، فإن الموضوع يتعلق ببساطة بالنجاح المالي، وهو ما يتحقق بالفعل من خلال التنوع. فطبقاً لـ دراسةرابط خارجي أجراها معهد ماكينزي غلوبال، وشملت 1000 شركة في 15 دولة، كان للشركات ذات التنوع الجنسي توقعات بربح أكثر من المتوسط، بنسبة تبلغ حوالي 25%. وإذا نظرنا إلى عامل التنوع العرقي، فإن هذه القيمة قد تصل إلى 36%.
برمجة خوارزميات بدون أحكام مُسبقة أسهلُ بكثير من محاولة تغيير طريقة تفكير ملايين البشر
إيريس بونيه
“برامج التنوع لا تُجدي نفعاً”
في نهاية الدراسة قامت بونيه بقلب الآية: بحيث لم تضع التنوع في المقدمة، بل الأداء الذي أفرزه التنوع. ذلك، لأننا إذا نظرنا إلى الأرقام فيما يسمى بـ “برامج الدعم”، فسنتبين أن شيئاً لم يتغيّر، بحسب قولها: “فقواعد البيانات، المتاحة لنا اليوم، لا تُسفر عن دليل مشجع، يؤكد أن برامج دعم النساء مثلاً كانت مُجدية”.
أما السبب وراء ذلك فيكمن في النهج الخاطئ: فبرامج دعم النساء قد فشلت، “لأننا لم نقم بأية تعديلات على النظام”. “فالكلمة وحدها توحي وكأن النساء يعانين من ضرب من الإعاقة”، على حد قول إيريس بونيه. ذلك لأن الأمر لا يجب أن يعني تغيير النساء، أو إعدادهن كي يصبحن لائقات لهذا العالم، بل بالعكس، يجب تعديل سوق العمل ليتلاءم مع الواقع. فدعم النساء ليس في نهاية المطاف موضوعاً من موضوعات التعددية، بل مسألة مساواة، خاصة فيما يتعلق بالحقوق والفرص. إلا أن محو هذه الأحكام المسبقة من الأذهان، لهو أمر من الصعوبة بمكان.
بالنسبة لإيريس بونيه، فإن برنامج تحليل الأشخاص يلعب دوراً هاماً في هذه الناحية. “إن برمجة الخوارزميات بدون أحكام مُسبقة أسهل بكثير من أن تحاول تغيير طريقة تفكير ملايين الناس”، بحسب تصريحاتها ـ إلا أنها ترى في تلك الخوارزميات خطراً: فالأخطاء قد تتضاعف بصورة لا تُضاهي، ذلك لأن هذه الأدوات (الرقمية) يستخدمها ملايين البشر. ففي أسلوب الاختيار الشخصي المعتاد، تظل القرارات الخاطئة عادةً محصورة في فئة صغيرة ـ أما باستخدام الخوارزميات، فإن نطاق هذه القرارات يتّسع بشدة.
الذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدّيْن
في سياق متصل، ترى جوانا بريسونرابط خارجي، أستاذة الأخلاق والتكنولوجيا بمدرسة هيرتي بالعاصمة برن، أن الخوارزميات يمكنها حماية الأفراد من الأحكام المسبقة غير الواعية في أوقات الأزمات. فإذا ما اطلع أحد المسؤولين عن التوظيف على مئات من طلبات الالتحاق بالوظيفة، وكان مضطراً لإنهاء العمل بسرعة، فإنه قد يقع فريسة لأحكام مسبقة ضمنية ـ حتى وإن كان ذلك الموظف يسعى إلى تشكيل فريق متنوع حقا. لذلك، فإن بريسون التي تركز في دراستها على آثار التكنولوجيا على التعاون الإنساني، ترى أن هناك فرصة يتيحها الذكاء الاصطناعي. فمن خلاله يُمكن للمسؤولين التغلب على قدراتهم المحدودة، وإيجاد المرشح الأمثل أو المرشحة المثلى بهذه الطريقة. بل سيكون من بين المتقدمين للوظيفة مرشحون ومرشحات “لم يكن في مقدور المسؤولين رؤيتهم من قبل”.
إلا أن الدراسةرابط خارجي التي قامت بها السيدة بريسون عن اللغة الإنجليزية قد أظهرت أن الخوارزميات نفسها، قد تتضمن بدورها نفس الأحكام المُسبقة، شأنها في ذلك شأن البشر، “لأنها تتعلم من قواعد بياناتنا”. لهذا يجب توخي الحذر، خاصة أثناء برمجة الذكاء الاصطناعي “وإلا أصبح هناك خطر من قيام برنامج تحليل الأشخاص بتعزيز الأحكام المُسبقة المتضمّنة فيه”، على حد ما تقوله هذه العالمة في مجال الرياضيات.
“حتى الخوارزميات متحيّزة”
هذا ما أكدته كذلك دراسة أجراها ثلاثة من الباحثين والباحثات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة كولومبيارابط خارجي، حيث قاموا بتطوير العديد من نماذج الخوارزميات واختبارها. وقد توصلوا إلى أن هناك فوارق واضحة، تتوقف على ما إذا كانت البرامج مقتصرة على النجاحات المثبتة للمرشحين والمرشحات، أم أنها تشتمل كذلك على قدرات أشخاص من الفئات المهمشة. وتصل الدراسة إلى استنتاج مفاده، أن التركيز على القدرات يؤدي إلى تعيين هؤلاء المرشحين والمرشحات الأفضل والأكثر تنوعاً. أما الشركات، التي ترتكز خوارزمياتها على سجلات النجاح، فإنها معرضة لخطر استبعاد المرشحين ذوي التأهيل الجيّد، وأصحاب الخلفيات الأكثر تنوعاً.
“يجب ألا نُسلم عقلنا للذكاء الاصطناعي”
من هذا المنطلق، “يتوجب على كل شركة أن تطرح على نفسها بعض الأسئلة أثناء شرائها لأحد البرامج”، مثلما يقول سيمون شافهايتله من معهد أبحاث العمل وأسواق العمل بجامعة سانت غالن (شرق سويسرا). إذ أنه من الضروري التأكد ما إذا كان الفريق الذي يقبع خلف الخوارزميات هو نفسه صاحب توجّه نحو التنوع أم لا. علاوة على ذلك، يرى السيد شافهايتله أن هناك تحدٍ آخر يتلخص في أن الشخص الذي يتخذ القرار كثيراً ما يكون لديه شعور بأن التكنولوجيا سوف تأتي بكل خير. ولكن كثيراً ما يكون الواقع هو العكس. “ذلك، لأن هذا الشخص يجد نفسه فجأة مضطراً إلى اتخاذ قرار بخصوص كيفية التعامل مع التكنولوجيا، حينما تجئ نتيجة الخوارزميات مناقضة لتصور المسؤولين”. فمن سنوليه ثقلاً أكبر في هذه الحالة: البرنامج باهظ الثمن، أم مدير شؤون الموظفين صاحب الخبرة؟ فالخوارزميات في نهاية المطاف تضع تصوراً للمرشح الأمثل، ولكن ليس الأفضل. وفي بعض الحالات، قد يكون الشخص المخالف للإجماع وصاحب التفكير الخارج عن المألوف أكثر ملاءمة للوظيفة من الشخص العادي القادر عل التكيّف، وصاحب التاريخ المهني.
فضلاً عما سبق، فإن الأبحاث العملية في العالم الواقعي تبيّن بوضوح، أن النتائج قد تتفاوت بحسب المحيط الثقافي، أو وفقاً لثقافة كل شركة، كما أن تفسير تلك النتائج أيضاً يتم بصورة مختلفة. “وكل هذا يجري تقييمه ونقله إلى العالم الرقمي كذلك”، على حد قول سيمون شافهايتله.
ختاماً، فإن إيريس بونيه تنصح من جانبها باستحداث هيئة، تكون مهمتها تحديد معايير وشروط استخدام الخوارزميات، قبل أن تُطرح في الأسواق. “فنحن أيضاً لا نستخدم الأدوية للبشر، قبل أن نختبرها في إطار بحثي”، كما تُذكّر.
المزيد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.