المركز الإسلامي في جنيف: نصف قرن من العطاء والنشاط رغم تباين التقييمات
منذ تأسيسه في عام 1961 على يد الدكتور سعيد رمضان، كان الغرض من إنشاء المركز الإسلامي بجنيف مساعدة المهاجرين المسلمين في البلدان الغربية في الحفاظ على هويتهم الدينية، وتوفير مكان لاستقبالهم، وتأمّل أوضاعهم، وتوحيد جهودهم في مجال الدعوة والتعريف بالدين الإسلامي المنفتح والمتسامح.
فما هي حصيلة هذا العمل بعد مرور خمسين سنة عرفت فيها أوضاع المسلمين تغيّرا جذريا خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وفي ظل التوسع الكبير للوجود الإسلامي في بلدان الشمال عموما؟
تظافرت من أجل إنشاء هذه المؤسسة الإسلامية الأولى من نوعها في أوروبا، جهود أعلام مشهورين من بينهم محمد أسد، وأبو الحسن الندوي، ومحمد حميد الله، وظفر أحمد الأنصاري، وكانت نموذجا لمراكز ثقافية إسلامية أخرى فتحت أبوابها سنوات لاحقة في ميونيخ ولندن وواشنطن،… وفي باقي المدن والعواصم الغربية.
ويقول الأستاذ هاني رمضان، مدير المركز الإسلامي بجنيف في حديث إلى swissinfo.ch: ” إن الغاية الأولى التي دفعت المؤسسين لتشييد هذا المعلم هو جمع الطلبة المسلمين الدارسين في أوروبا، ورعايتهم دينيا، واجتماعيا، حتى إذا عادوا إلى بلدانهم، أمكنهم التأثير في مستقبل تلك البلدان”.
لكن الأمور تغيّرت بسرعة، وبات المهاجرون المسلمون يفضّلون البقاء حيث هم، وأصبح للإسلام كما يقول السيد رمضان “شأن آخر في أوروبا”. فالتحدّي الذي يواجه اليوم مركز جنيف هو “البحث عن حلول لإستقبال الأعداد الكبيرة من المسلمين أيام الجمعة حيث لا يتسع المكان لكل الوافدين. وأصبحت صفوف المصلين تمتد للشوارع المحاذية، تماما كما هو الحال في العديد من المدن الأوروبية الأخرى”.
اقتران التأسيس برؤية فكرية محددة
عندما وصل الدكتور سعيد رمضان إلى جنيف سنة 1958، مطاردا من النظام الناصري بسبب انتمائه لحركة الإخوان المسلمين، لم يكن لهذا التنظيم وجود منظّم أو مقرات في أوروبا آنذاك. فكان كل ما قام به رمضان الأب يحسب على الإخوان، وينسب إليهم، ولم يشذّ نشاطه بالمركز الإسلامي، الذي ارتبط بهذه الحركة منذ تأسيسه، وانطبع برؤيتها الفكرية، والسياسية التي يلخصها هاني رمضان في كلمتيْن: “شمولية الإسلام، وانفتاحه على الحضارات الإنسانية”.
وعن هذه البدايات يقول المفكر السويسري طارق رمضان في مقال مطوّل نشره في الذكرى السادسة عشر لوفاة أبيه التي تزامنت مع الذكرى الخمسين لتأسيس المركز الإسلامي بجنيف: “كان والدي يصدر عن رؤية فكرية مستقلة، ويحرص على ترجمة كتاباته إلى اللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية، ومن أبرز ما تُرجم له كتاب “الإسلام فكرة ومنهج للحياة”، و”ما معنى الدولة الإسلامية؟”، و”مساهمة المسلمين في الحضارة الإنسانية”.
كما تزامن هذا النشاط التأليفي مع مشاركة فاعلة في حوار الأديان، وقد بادر إلى الإنخراط في هذا الحوار إلى جانب الدكتور سعيد رمضان، هونري بابال الكاثوليكي، وألكسندر سافران، اليهودي، وكانت تلك أوّل دورة لحوار الأديان تعرفها جنيف في العصر الحديث.
وإذا كانت رسالة هذا المركز وإشعاعه قد بلغا في الماضي حدود مقدونيا شرقا وبلجيكا غربا، وقد ساعد على ذلك التمويل السخيّ من رابطة العالم الإسلامي، ومن المملكة العربية السعودية، التي كانت في صراع ومنافسة حادة مع النظام الناصري. فإن إصرار المؤسس على التمسّك بإستقلاليته الفكرية والسياسية، أدّى إلى حجب التمويل عنه، مما نتج عنه انحسار دور المركز الإسلامي لفترة، حيث أصبح النشاط بعدئذ كما يقول مدير المركز: “يتمثّل في تدريس اللغة العربية، والعلوم الدينية، وتنظيم اللقاءات والمحاضرات، والعمل مع المؤسسات الإسلامية الأخرى، وليس بديلا عنها”.
محاولة الانفتاح والتكيّف مع الواقع
يؤكد مدير المركز الحالي على مواصلة المشوار الذي بدأه والده في التواصل مع الخارج، والإنفتاح على المحيط المحلّي بجنيف، ويعدد المبادرات التي تدعم هذا التوجّه كتوزيع الأطعمة كل يوم إثنيْن على المحتاجين من مسلمين وغير المسلمين في الاحياء المجاورة، وتنظيم لقاءات مع المترشحين في الإنتخابات البلدية، والمشاركة الفاعلة في حوار الاديان، والإشراف على مدوّنة خاصة للحوار مع الكتاب والمفكرين، وتوزيع الكتب والمقالات والنشريات على غير المسلمين…
لكن ستيفان لاتيون، الخبير الجامعي ورئيس مجموعة الأبحاث حول الإسلام في سويسرا وفي حديث إلى swissinfo.ch يردّ مشككا: “لا أعتقد ان هذا المركز منفتحا بشكل كاف على محيطه لأنني لا أرى أنه ينظّم الكثير من الانشطة التي لها علاقة بالمجتمع في جنيف، كما أنه لا يبذل جهودا كافية من اجل إنجاح اندماج الأشخاص الذين يؤمونه”.
وفي الوقت الذي يرى هاني رمضان أن “النهج الاسلم في التعامل مع المحيط هو التمسّك بمنطوق النص الإسلامي، ومقارعة الفكرة بالفكرة”، كدفاعه مثلا عن القوانين والشرائع الإسلامية، ومقارعة اللوبيات الداعمة لإسرائيل،…يؤكد الخبير السويسري أن “هذا النهج لم يساعد على تحسين صورة المسلمين لدى سكّان جنيف خاصة، وسويسرا عامة… كما أنه لم يساعد قطّ غير المسلمين على الإنفتاح والنظر بإيجابية إلى الأقليات المسلمة”.
ويضيف لاتيون: “إن اعتراف هذا المركز بعلاقته الوثيقة والمباشرة بحركة الإخوان المسلمين ربما يكسبه نوعا من الشفافيّة والوضوح، وربما يزيد من ثقة السلطات فيه، لكنه لا يعني أي شيء بالنسبة لعامة المجتمع في جنيف وفي سويسرا”.
رغم ذلك، يؤكد هاني رمضان أن المركز يقوم بما في وسعه في هذا المجال، ويشدد على أنه في حوار دائم مع السلطات في الكانتون وعلى المستوى الفدرالي، ويدلل على ذلك بالقول: “إن مركز جنيف هو المركز الوحيد الذي سُمِح له هذه السنة بدعوة إمام من خارج سويسرا لإمامة الصلاة في رمضان، كما أن عدد زوّار الموقع الإلكتروني في ازدياد مضطرد”، ويضيف أنه شخصيا دُعيَ مرات عديدة من الكنيسة الكاثوليكية لإلقاء محاضرات حول الإسلام، كما يُشارك بانتظام في نشاط مؤسسة Arzelier للحوار بين الديانات والثقافات التي يوجد مقرها بلوزان.
وعن هذه المبادرات يقول عبد الحفيظ الورديري، مدير مؤسسة التعارف التي يوجد مقرها في جنيف في حديث إلى swissinfo.ch: “لاشك أن هذا المركز يبذل جهدا من أجل خدمة المسلمين، لكنه يُجابه بصعوبات وعراقيل كثيرة. كتحامل الصحافيين عليه وربطه بالإرهاب، لأن مؤسسه كان عضوا في حركة الإخوان المسلمين، وفي الحقيقة هذا المركز لا صلة له بالعنف والإرهاب”، على حد قوله.
مراكز إسلامية “مُخلّة” بدورها
تجاوز هذه العراقيل، يتطلّب بحسب السيد الورديري تكاتف جهود جميع المراكز الإسلامية التي تنص كل قوانينها الداخلية على انها تأسست حصرا لخدمة الإسلام والمسلمين، وتقديم الإسلام للجمهور الغربي بطريقة صحيحة، لكن في الواقع “لم تحقق تلك المراكز الكثير في هذا المجال لأنّها بدلا من أن توحّد جهودها، تتنافس بين بعضها البعض لتبيّن أن بعضها أفضل من بعض”، على حد قوله..
ويواصل مدير مؤسسة التعارف عرض تقييمه لوضع المراكز الإسلامية في سويسرا فيشير إلى أنها “تفتقد إلى إستراتيجية مناسبة لتقديم الإسلام وعرض حقائقه في بلد وجمهور غير إسلامييْن. فكل خطيب إسلامي يُعطي لنفسه حق التصرّف بكل حرية، من دون أي مراعاة للأولويات في هذا البلد، والأولوية اليوم هو كيف ننسج علاقة مع هذا المجتمع في احترام لمبادئنا الدينية من دون أن نظهر وكأننا نريد أن نهيمن على المجتمع باعتماد أفكار غير مقبولة لديه”. وتتمثّل المشكلة الجوهرية بحسب هذه التحليل في أن “كل الطرق والمناهج المعتمدة في عمل أغلب المراكز الإسلامية أصبحت اليوم مضرّة من حيث ارادت النفع”.
ويذهب ستيفان لاتيون إلى أبعد من ذلك، حيث يؤكّد أن “هذا المشكل لا يتعلّق بالمراكز الإسلامية فقط، بل يشمل ايضا الكنائس المسيحية”. ويتمثل الحل من وجهة نظره في أن “تصغي هذه المراكز لمطالب وانشغالات الجمهور، لكن الإنطباع المتشكل لديّ حول هذه المراكز أنها منغلقة على نفسها، ولدى المسؤولين عنها ثقة عمياء في خياراتهم وأطروحاتهم، وهذا خلق هوّة واسعة بين ما يفكّر فيه هؤلاء، وما يشغل بال غالبية المسلمين المقيمين في سويسرا، خاصة الشباب منهم”.
هؤلاء الشباب الذين يدعو السيد الورديري مدير مؤسسة التعارف إلى فسح المجال أمامهم للأخذ بزمام المبادرة “يمتلكون قدرات واسعة، وخطابا يتماشى مع العصر، على أن تكون تجربة وخبرة من سبقهم تحت تصرفهم”، بحسب رأيه.
تأسس المركز الإسلامي في جنيف على يد الدكتور سعيد رمضان في شهر أغسطس من عام 1961، بعد أن حلّ سنة 1958 لاجئا إلى سويسرا من بطش النظام الناصري الذي كان يحكم مصر آنذاك. وقد حكم عليه بخمس وعشرين سنة ثلاث مرات متتالية، وسحبت منه الجنسية المصرية سنة 1966.
ولد سعيد رمضان يوم 12 أبريل 1926 بمنطقة دلتا النيل، وتوفّي بجنيف يوم 4 أغسطس 1995، وهو من أقطاب حركة الإخوان المسلمين، وصهر مرشدها العام الأستاذ حسن البنا. وقد خلّف سعيد رمضان أربعة أبناء هم أيمن وبلال وياسر وهاني وطارق، وبنتا هي أروى.
التحق سعيد رمضان بحركة الإخوان، ولم يتجاوز عمره 14 سنة، واختاره البنا أمين سرّه الشخصيّ ومحرّر أسبوعية “الشهاب” التي كانت تصدر آنذاك. ثم أرسل مبعوثا خاصا للمرشد العام إلى فلسطين حيث أسس فرع حركة الإخوان هناك. وقد شارك سنة 1948 في القتال إلى جانب الشيخ عبد القادر الحسيني على أرض فلسطين.
عاد سنة 1950 إلى مصر ليصدر المجلة الشهرية “المسلمون”. وتعرّف عندئذ على سيد قطب، كما اطلع على أفكار وأطروحات أبو الأعلى المودودي. لكنه اضطر لمغادرة مصر بعد أن اشتد اضطهاد النظام الناصري لحركة الإخوان بداية من سنة 1954. وظل مترددا على كل من الأردن وسوريا، ولبنان، ثم باكستان إلى أن وصل إلى سويسرا طالبا للجوء سنة 1958.
حصل على شهادة الدكتواه في القانون من جامعة كولونيا الألمانية سنة 1959، واستأنف إصدار مجلة “المسلمون” من جنيف، حيث أسس سنة 1961 المركز الإسلامي بمساعدة أسماء لامعة مثل أبو الحسن الندوي، ومحمد أسد، ومظفّر احمد الانصاري، ويحي باسلامه،…وقد لقي الدعم والتمويل لفترة طويلة نسبيا من رابطة العالم الإسلامي، ومن المملكة العربية السعودية. كما ساهم بشكل فعّال في إنشاء العديد من المراكز الإسلامية عبر البلدان الاوروبية وفي الولايات المتحدة الامريكية.
ألّف العديد من الكتب التي تركّز على شرح فكرة شمولية الإسلام، وإسهامه في بناء الحضارة الإنسانية. ومن هذه المؤلفات “الإسلام فكرة ومنهج للحياة”، و”ما معنى الدولة الإسلامية؟”، و”مساهمة المسلمين في الحضارة الإسلامية”. وقد ترجمت كل تلك العناوين إلى الالمانية والفرنسية والإنجليزية.
كانت له علاقات وطيدة مع العاهل الاردني الراحل الملك حسين، ومع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، ومع الناشط الأسود المسلم الامريكي مالكولم آكس.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.