“ليس باستطاعة الدولة أن تُجبرَ أحدًا على العيش رُغمًا عن إرادتِه”
في عمرٍ يبلغ حوالي 75 عامًا، وفي صحة جيدة تريد جاكُلين جَنيكل أن تموت في يناير 2019. وذلك بمساعدة منظمة Lifecircle السويسرية. برغبتها المصرّح بها علنًا، أشعلت المواطنة الفرنسية النقاش مجدداً حول قضية المساعدة على الموت الإرادي. في المقابل، يُؤيّد فيلسوف الأخلاقيات البرتو بوندولفي فرض رقابة أقوى على تمويل منظمات المساعدة على الموت.
“الشيخوخة مرضٌ لا يمكن شفاؤه، ويؤدي إلى الموت في كل الأحوال”، هكذا ترى جاكُلين جَنيكل التقدم في العمر وترفض القبول بأي عذابات محتملة ترتبط به.
في عمرٍ ناهز الـ 74 عامًا ما زالت المواطنة الفرنسية تمارس رياضة الطائرات الشراعية ولديها صديق يصغرها بثلاثين سنة وتعيش حياةً نشطة في باريس، كما إنها لا تعاني من أي مرضٍ عضال ولا من مرضٍ تنكُّسي. لكن بالنسبة لها أيضًا فإنَّ كلّ شيء له نهاية، وبدلاً من أن تشهد انطفاء نجمها ببطء خططت لخروجٍ مبرمَج بدقة من مسرح الحياة، فهي تريد أن تفارقها في العشرين من يناير 2019 بالقرب من “غيشتات” (كانتون برن)، وذلك برعاية منظمة Lifecircle في كانتون بازل، والتي تساعد الراغبين في تنفيذ الموت الإرادي. أحد أبناء السيدة الفرنسية، وهو منتج أفلام وثائقية، سيوثق بعدسته كامل الحدث.
لأن المساعدة على الموت الإرادي محظورةٌ في فرنسا، تريد جاكُلين جَنيكل أن تأتي إلى سويسرا من أجل الموت. بطريقة استفزازية، وأحيانًا مبتذلة تتحدث عبر وسائل الإعلام عن نيتها التي اعتبرتها فعل تحدٍّ. في مقابلةٍ مع موقع Konbini الفرنسي رابط خارجيقالت: “ليس لديَّ الرغبة في أن أنامَ مع رجلٍ له بطن ضخمة وصدر أكبر من الذي لدَيَّ”. إنها تكافح من أجل “إنهاءٍ حر للشيخوخة” وفقًا لما تقول، و”بالتالي من أجل الحق في الموت عندما يقرر المرء ذلك، سواءٌ أكان مريضًا أم لا”.
حالة السيدة الفرنسية يمكن أن تكون صادمةً، فإلى أي مدى تتسع الحرية ليتخذ المرء قراراً يتعلق بنهاية حياته؟ بالنسبة للمساعدة على الموت فإن سويسرا لديها تشريعات قانونية هي الأكثر ليبرالية على مستوى العالم. لكن فيلسوف الأخلاقيات البرتو بوندولفي يطالب بقواعد عمل أكثر وضوحًا في هذا المجال.
swissinfo.ch: منذ أن تحدثت لوسائل الإعلام عن نيتها لوضع حدٍّ لحياتها من خلال طلب المساعدة على الانتحار، ترى جاكُلين جَنيكل نفسها وهي تتعرض لسيل من ردود الأفعال التي ينتقد كثيرٌ منها قرارها. لماذا؟
البرتو بوندولفي: في سويسرا يوجد ميلٌ إلى القناعة بأن المساعدة على الانتحار مناسِبة فقط عندما يكون الشخص الذي يسعى لذلك، في آخر مرحلة من حياته. “اكزيت” Exit، وهي أهم منظمة سويسرية للمساعدة في هذا الشأن، وضعت ذلك كشرط، وهو ما أعتبِرُه، من وجهة نظري، صحيحًا جدًّا.
يسود الانطباع لدى الجمهور بأن هذا المعيار هو مادة قانونية، لكنَّ ذلك ليس واقع الحال. في الحقيقة يحتوي القانون على شرطين فقط: أولاً، يجب أن يكون الشخص قادراً ومؤهلاً من الناحية القانونية على اتخاذ القرار ليستطيع أن يعطيَ موافقته؛ وثانيًا فإنه لا يجوز لمن يُقدّم المساعدة على الانتحار أن يستفيد من ذلك ماليًّا.
swissinfo.ch: لماذا ذهبَتْ منظمات المساعدة على الانتحار أبعد من القانون ووضعت معاييرَ أكثر تشدّداً؟
البرتو بوندولفي: ذلك يتعلق بتاريخ القانون الذي ينظّم المساعدة على الانتحار، فقد صيغت المادة 115 من قانون العقوبات في ثلاثينيات القرن الماضي. كان الهدف حينها تنظيم أشكال الانتحار، والتي لم تعد تتطابق ببساطة مع الحاليّة، حيث كانت متعلقة بحالات تُرتَكب مثلاً لأسبابٍ تخص الكرامة بعد خيباتٍ رومانسيّة أو بعد إفلاسٍ اقتصادي.
لقد جرى النقاش لمدة عشرين عامًا حول الحاجة لصياغةٍ أفضل لهذا القانون، لكن بعد أن اقترحت الحكومة صيغًا جديدة مختلفة، بقليلٍ أو بكثيرٍ من التشدد، وصلت أخيراً إلى أنه لا يجب فعل شيء، أي أن السطرين يجب أن يُتركا في قانون العقوبات دون تغيير. لكنْ يظهر أن الجمهور لديه الرغبة اليوم بأن تُصدر الدولة قواعدَ أكثر تشددًا.
swissinfo.ch: المساعدة على الانتحار بالنسبة لشخص معافى نسبيًّا مثل جاكُلين جَنيكل هي بالتالي اليوم موافِقة للقانون بشكلٍ تام. لكن كيف يبدو الأمر من الناحية الأخلاقية؟
البرتو بوندولفي: هنالك جدلٌ في أوساط فلاسفة الأخلاق، بين الذين يؤيّدون الحرية وبين من يمثلون خطًّا يميل إلى الحظر. أنا شخصيًّا أعتقد بأنّ كلَّ انتحار (أو موت إرادي) هو قرارٌ فوق مسألة الخير والشر؛ قرارٌ لا نستطيع نحن الحكم عليه، بل الحكم يعود للشخص الذي يُنهي حياته.
إن الصمت هو رد فعل مقبول أخلاقيًّا عندما يخطو أحدهم نحو هذا الفعل. مثلما يأسف المرء لموت كل إنسان، يأسف لموت هذا الشخص ويُبدي تفهّمًا، وذلك بأن يتنازل عن الاعتبارات الأخلاقية. على المرء أن يكون لديه تعاطفٌ ما مع الأشخاص الذين يقومون بمثل هذا العمل المُهلِك، ولا يجوز أن يُصدرَ أحكامًا عليهم.
أنْ تتنازل الدولة عن معاقبة من يقدّم المساعدة لطرفٍ آخر في مفارقة الحياة، فهي تتنازل عن إصدار حكمٍ نهائي عندما يتعلق الأمر بأعمالٍ “انتحارية”. من واجب الدولة حماية الناس، لكن هذا الأمر لا يذهب إلى درجة إجبار أحد على البقاء حيًّا رغمًا عن إرادته.
swissinfo.ch: ألا يكمُن هنا خطرٌ في خلق مجتمعٍ لا يتسامح مع الشيخوخة أبداً؟
ألبرتو بوندولفي: هذه خطورةٌ قائمة، وباستطاعة المرء أن يلاحظها في التعليقات التي تُطلقها قصة جاكُلين جَنيكل. لكنَّ هذا الاتجاه لا يُمكن أن يقابَل بإجراءاتٍ تتخذها الشرطة. الأمر يحتاج إلى نقاشٍ عام حول المساعدة على الموت الإرادي. ينبغي أن تكون هناك قواعدُ أكثر لعمل الجمعيات العاملة في هذا المجال؛ وذلك لأسبابٍ قانونية قبل كل شيء. ينبغي أن تتخذ الدولة إجراءاتٍ رقابيّة، خصوصًا بالنسبة للنظر في الخلفيات المالية لهذه المنظمات. كيف تَستخدِم أموالها؟ وهل يتعلق الأمر فعلاً بعملٍ إيثاري خيري أم أنها تجني أرباحًا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؟
Exit هي صيغة لجمعية نُظِّمت على طريقة سويسرية جدًّا، وقد قيّدت مخاطر الخلل بشكل كبير. المجموعات الأحدث التي نشأت في مجرى السنوات السابقة صغيرة نسبيًّا ولديها استراتيجيات تواصُل أقل شفافية.
swissinfo.ch: “لا أريد أن أشعرَ بأنني عجوز، ولا أريد أن تفوحَ مني رائحة العفونة ولا أن أكون مزعجة. لا أريد مجرد إثارة الشَفَقة بدلاً من الحب والشغف”. هذه التصريحات من جاكُلين جَنيكل لجريدة غرب سويسرا Le Temps تستفز، فهل تكشف أيضًا الصورة التي يكوِّنها مجتمعنا عن الشيخوخة؟
ألبرتو بوندولفي: لدي انطباع بأن الأمر يتعلق بصورة ساخرة. نحن جميعًا تؤثر علينا قدراتنا. أنا شخصيًّا أبلغ من العمر 72 عامًا وأشعر بوضوح بأنني أتقدم في السن، وأدرك بأنني لم أعد قادراً كما في السابق. لكنني لا أستحي من جسمي ولا من كون قدراتي لم تعد ذاتها قبل عشر سنوات. كل واحد يحاول أن يعيش بالضبط على قدْر ما هو ممكن. أما المجتمع فيحاول أن يتخذ اجراءات لكي لا نصل إلى درجة نستحي فيها من أنفسنا. لكنَّ هذه السيدة عندما تحمل هذا الشعور فإنه ليس هناك من وصفةٍ لإبعادها عن ذلك.
swissinfo.ch: هل يُخشى أن تسبب تقارير وسائل الإعلام حول هذه الحالة تأثيراتٍ تدفعُ إلى التقليد؟
البرتو بوندولفي: يمكن أن يكون لها تأثيرٌ محفِّز، خصوصًا بالنسبة للأشخاص ذوي النفسية الهشة. من المتعارف عليه بأن الشباب هم أكثر عرضةً لذلك. يجب أن تأخذ الدولة هذا الأمر بعين الاعتبار وتحمي بشكل خاص هذه الفئة من السكان.
لكنه من الصعب تقليد قصة جاكُلين جَنيكل. هي نفسها قالت بأن الموت الإرادي سيكلفها عشرة آلاف فرنك. لديَّ انطباع بأنها امرأةٌ موسِرة بطراز حياةٍ مماثل. بالنسبة لشخص عادي في سويسرا فإنه من الصعب أن يتماهى أو يتماثل مع هذه الحالة. تبقى هذه الظاهرة مقتصرة على الطبقة العليا في الوقت الحاضر ولم تشمل الأكثرية من السكّان بعدُ.
طلب المساعدة
هل تشعر بأنك لا تستطيع التغلب على أزمة شخصية لوحدك؟ لا تتردد عن البحث عن مساعدة.
إذا كان لديك ما يدفعك للتفكير بالانتحار، فإنك تستطيع أن تتصل في سويسرا بهواتف طوارئ مختلفة، مجانًا ودون الكشف عن هويتك، كما تستطيع الاتصال عبر الإنترنت:
اليد المبسوطة (Die Dargebotene Hand): هاتف: 143 و www.143.chرابط خارجي
منظمة “برو يوفينتوت” أو “من أجل الشبيبة” (Pro Juventute)، استشارات ومساعدة للشباب: هاتف: 147 و www.147.chرابط خارجي
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.