المقيمون غير الشرعيين في سويسرا.. مُعاناة إنسانية ومُعضلة قانونية
في سويسرا، يقيم عدد كبير من الأجانب ويعملون من دون ان تكون لهم رخص إقامة قانونية. وتقرّ شريحة كبيرة من النخب السياسية ومنظمات المجتمع المدني بالمصاعب والظروف السيئة التي يعيشون فيها، لكنها لم تنجح حتى الآن في انتزاع حقهم في الإقامة القانونية وفي المعاملة الإنسانية.
وتحاول العديد من الأطراف غير الحكومية التوصّل إلى حل براغماتي يعالج هذه المشكلة من دون أن ينتهك القوانين الجاري العمل بها أو جعل سويسرا بلدا جاذبا للمهاجرين بشتى أنواعهم.
من ناحية أخرى فتحت المدارس السويسرية أبوابها لقبول أبناء هؤلاء الاجانب، في حين ينخرط اغلب البالغين منهم في سوق العمل بطريقة غير معلنة. أما العاطلون منهم، فيتلقون إعانات طارئة من جمعيات ومنظمات إنسانية، في انتظار ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية.
على المستوى السياسي، ظلت الحكومة السويسرية تنظر إلى هذه الظاهرة من منظور محاربة الهجرة، والحد من أعداد المهاجرين عبر اعتماد إجراءات قانونية وإدارية متشددة بل صارمة. كذلك تمسّكت الحكومة بإستمرار برفض تسوية ملف الهجرة غير الشرعية بشكل جماعي مكتفية بدراسة كل حالة بمفردها.
وعلى الرغم من أن معظم وسائل الإعلام عادة ما تحمّل هذا الصنف من المهاجرين المسؤولية عما يحدث لهم، فإن الأوضاع الصعبة والمأساوية التي يعيشها جزء منهم، وجلهم من خارج الدائرة الأوروبية، تجد من حين لآخر صدى لها لدى الرأي العام السويسري مما يصعّد الضغوط على أصحاب القرار، ويكشف عن الوجه اللاإنساني لبعض الإجراءات المتبعة في مجال الهجرة واللجوء.
قضية واحدة.. تجارب متعددة
تتعدّد مسارات حياة هؤلاء المهاجرين بحسب الظروف التي تحيط بتجربة كل واحد منهم. فمريم، إمرأة عربية، جاءت إلى سويسرا من المشرق العربي في عام 2002، برفقة عائلة مقيمة بإحدى الكانتونات الناطقة بالألمانية، بغية تلقي العلاج، والقيام في نفس الوقت برعاية أطفال تلك الاسرة لأن الزوجيْن يعملان في الخارج. وقد وعدها ربّ هذه العائلة بالمساعدة في الحصول على الإقامة اعتمادا على ملفّها الطبي.
لكن لم تمرّ سوى أسابيع قليلة حتى وجدت هذه المرأة الشرقية نفسها في الشارع تواجه مصيرها بمفردها، وتقاذفتها الأقدار، كل مرّة تنزل ضيفة ثقيلة على أحد من ابناء الجالية العربية أو الإفريقية. وتقول مريم في حديث إلى swissinfo.ch ، وهي تكفكف دموعها: “غادرت بلدي بحثا عن مستقبل أفضل، جميع أخواتي تزوّجن، وأمي متوفية منذ زمن طويل، وأبي يحتاج إلى من يعينه، لكنني كنت مريضة ولا اقدر على ذلك، لذلك قررت القدوم إلى سويسرا.. ومنذ قدومي هنا إشتغلت في الخفاء في العديد من البيوت، وعانيْت من الظلم والإستغلال”.
أمّا غيّاث، الرجل الاسمر، القادم من شمال إفريقيا، فيقول متحدثا إلى swissinfo.ch هو الآخر: “أجبرتني الأوضاع الأمنية وما عاينته من أعمال وحشية على مغادرة قريتي في عام 2000 بحثا عن حياة أفضل، وهاجرت لأنني لم أعد أحتمل الضغوط التي كانت مسلطة علينا”.
وللوصول إلى سويسرا، مرّ غيّاث بعد أن ركب أمواج البحر واختبر أخطارها، بإيطاليا، وقد دفع مقابل وصوله إلى هناك 4000 دولار. ويضيف: “لمّا وصلت إلى سويسرا كان الأمل يحدوني في تحقيق جميع أحلامي. كنت مفعما بالنشاط، والإقبال على الحياة، ولكن اليوم، وبعد 12اثني عشرة عاما دبّ الخمول إلى أوصالي، بعد أن تبخرت كل الأحلام، وحيثما وجّهت وجهي أصطدم بحقيقة مرّة إسمها رخصة الإقامة”.
ويقطن غيّاث حاليا في مركز لإيواء طالبي اللجوء الذين رفضت مطالبهم، برفقة أربعة رجال في نفس الغرفة في ظل ضغوط نفسية شديدة. وربّما من سوء حظ غيّاث وأمثاله أن سويسرا، وفي إطار تشديد قوانينها الخاصة بالهجرة السريّة التي دخلت حيّز النفاذ في عام 2008، أنه لم يعد بإمكان المقيم غير الشرعي العمل، أو الحصول على سكن، أو الزواج.
هذه القوانين نفسها اضطرت مريم للعيش متخفية في بيت إحدى السويسريات التي رأفت لحالها، ولكن ذلك لم يكف، حيث تقول مريم: “لم أعد أقدر على الخروج إلى الشارع، لأنني اخاف أن تُلقي الشرطة القبض عليّ، فضلا عن أنني لا أملك معلوم التنقل بوسائل النقل العمومية”.
وتتذكّر هذه المرأة العربية التي لم تعد إلى بلدها منذ أكثر من عشر سنوات، ولم تحضر دفن أبيها الذي توفي منذ 7 أشهر تجاربها المؤلمة مع الشرطة السويسرية وتقول: “كان أسوأ يوم في حياتي حين مسكوني في عام 2005،…لقد عاملوني مثلما تعامل الكلاب”.
“سويسرا فقدت جاذبيتها”
ورغم إقرار مريم وغيّاث بوجود الكثير من السويسريين المستعدين لمساعدتهما إما بتوفير سكن أو عمل او تدريب مهنيّ، ولكن الجميع يخشى العواقب القانونية نظرا لإفتقاد هذيْن الأجنبيْين لحق الإقامة في سويسرا. ويتفق كلاهما على أنّهما لا يطلبان أي شيء اليوم سوى تسوية وضعيتهما القانونية، رغم إقرار غيّاث بأنه لم يعد له أمل في الحصول على الإقامة: “عندما أطرق ابواب المسؤولين، يواجهونني بالسؤال مباشرة: متى ستعود إلى بلدك، لكنهم لا يعلمون أنني عقدت العزم على أن لا أخرج من هذا البلد في كل الأحوال”.
ربّما لن يكون هذا هو القرار النهائي الذي سوف يتخذه معزّ، وهو شاب تونسي غادر بلاده عقب ثورتها مستفيدا من ارتخاء القبضة الأمنية على الشواطئ التونسية. وفعلا نزل معزّ بجزيرة لامبيدوزا ثم انتقل إلى شمال إيطاليا ومنها إلى فرنسا، ثم إلى سويسرا، حيث يعيش اليوم بأحد مراكز إيواء طالبي اللجوء بجنيف، وفي حوار أجرته معه صحيفة “لوتون” الناطقة بالفرنسية قال: “اشتغلت خلال الأشهر الأخيرة في فرنسا بطريقة غير معلنة، لكنني تعرّضت إلى استغلال شديد”.
ورغم إقراره بأن العديد من أبناء بلده يأتون إلى هنا لاستغلال كرم الضيافة، فإنه يشدد على أن “العثور على عمل، والحصول على الرزق الحلال كان دوما نصب عيْنيْه”. ويضيف الشاب التونسي أن “سويسرا لم تعد بلدا جاذبا، الوضع هنا صعب جدا، ولم أتوقّع قبل قدومي أن الأمر هكذا”.
تغيير المنظومة القانونية
خلال السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ عام 2008، أصبحت الهجرة غير الشرعية من القضايا المهمة التي تشغل الحكومة والبرلمان الفدرالي، ووقعت معالجة هذا الموضوع عموما من منظور الحد من تدفق المهاجرين عبر مكافحة ما يحرص اليمين المتشدد على تسميته بـ “سوء استغلال قوانين اللجوء” وحماية الأمن والنظام العام، وحرمان كل الذين ترفض طلبات لجوئهم من حق العمل والسكن، والحصول على الدعم الإجتماعي.
هذه الإجراءات الجديدة هدفت كذلك إلى تعزيز الرقابة على الحدود الخارجية للبلدان الاعضاء في اتفاقية شنغن، وعلى التشدد في تنفيذ اتفاقية دبلن، كما تضمّنت قوانين صارمة ضد كل من يقدّم العون أو المساعدة إلى أي شخص يقيم في سويسرا بطريقة غير شرعية، ناهيك عن تعزيز التعاون وتبادل المعلومات بين البلدان الاوروبية في القضايا المتعلقة بالهجرة السرية.
وفي تصريحات لـ swissinfo.ch، يقول بالثاسار شتايهلين، مدير قسم مساعدة طالبي اللجوء، التابع لمؤسسة الدعم الإجتماعي بكانتون جنيف عن مبررات هذه السياسة المتشددة تجاه الأجانب: “من حق أي دولة ان تضع القوانين التي تنظم حق العمل، والسكن، والدراسة، وإقامة الأجانب، لكن هذا لا يتعارض مع المعاملة الإنسانية والمتسامحة”.
ويعترف شتايهلين بأن “الأوضاع التي يعيشها بعض الأجانب في سويسرا صعبة جدا، وتجد لديه التعاطف، خاصة تجاه أولئك الذين يريدون الإندماج في المجتمع وبناء مستقبلهم هنا في سويسرا، لكن لا تتوفّر فيهم للأسف الشروط القانونية لمنحهم الإقامة”.
ولدى سؤاله عن الحلّ الأنجع الذي يراه لهذه المصاعب، يجيب بشكل واضح لا لبس فيه: “الأمر يعود إلى الشعب السويسري صاحب القرار الأخير، وكما هو معلوم فالمطلوب من السلطات تنفيذ القواعد المتضمنة في قوانين وضعها نواب الشعب، أو اختارها الشعب نفسه في استفتاء عام، وإذا كنا نريد تحسين أوضاع هذه الفئة، فلابد من تعديل قانونيْ الأجانب واللجوء لعام 2008”.
من الصعب جدا الجزم بالعدد الحقيقي للأجانب المقيمين بطريقة غير شرعية في سويسرا،لأن هذه الفئة من السكان لا توجد مسجلة بشكل منتظم في أي مؤسسة رسمية أو غير رسمية.
تذهب دراسات أشرفت عليها بعض منظمات أرباب العمل إلى أن عدد العاملين في سويسرا من دون أن تكون لهم رخص إقامة يتراوح بين 70.000 و200.000 نسمة.
يشير آخر إحصاء أنجزه المكتب الفدرالي للإحصاء في هذا المجال سنة 2005 إلى أن عدد المقيمين غير الشرعيين في سويسرا يناهز 90.000 نسمة.
قدّر هذا العدد في كانتون زيورخ لوحده سنة 2004 بما يوازي 20.000 شخص..
يقدم أغلب المقيمين غير الشرعيين في سويسرا من أمريكا اللاتينية، ومنطقة البلقان، وهناك نسبة مهمة منهم من شمال إفريقيا. وتتراوح أعمار الغالبية منهم بين 20 و40 سنة، وحوالي 60% منهم من الرجال.
يقطن حوالي 80% منهم في المدن الكبرى مثل زيورخ ولوزان وجنيف وبازل. كما ينشط معظمهم في الحرف الصغرى، وفي البناء والأنشطة الزراعية.
(المصدر: Visage des sans-papiers en suisse)
بلغ عدد طلبات اللجوء في عام 2011 في سويسرا، 22551 طلبا.
هذا الرقم يمثل معدّل زيادة قيمتها 44,9٪ عمّا كان في عام 2010 وكذلك في عام 2002، الذي سجل أعلى نسبة تدفّق لطالبي اللجوء.
أكثر الأعداد الوافدة هي من إريتريا (3356 طلبا) ومن تونس (2574 طلبا) ومن نيجيريا (1895 طلبا.
تُعزى هذه الزيادة في أعداد طالبي اللجوء في الأساس، إلى الاضطرابات والثورات التي هزّت شمال إفريقيا.
سجل عام 2011 حصول 3711 شخصا على حق اللجوء، مقابل 3449 شخصا في عام 2010.
(المصدر: إحصائيات المكتب الفدرالي للهجرة).
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.