“هـذا أسـعـدُ يــوم في حـيـاتـي”
كان يوم الجمعة 17 سبتمبر 2010 يوما تاريخيا عندما قدّمت إيفلين فيدمر – شلومبف، وزيرة العدل والشرطة في الحكومة الفدرالية اعتذارا رسميا في هينديلبانك في كانتون برن، للقصّـر الذين أودعوا في مؤسسات تربوية إصلاحية، دون محاكمة.
فإبان الفترة الفاصلة ما بين عامي 1942 و1981، وُضع الآلاف من الشبان والمراهقين داخل مؤسسات وهياكل حكومية، لأسباب تتعلق بسوء السلوك، مثل الإنحلال الخلقي والسكر والتكاسل عن العمل.. ناهيك عن “سوء الأدب” أو “الفجور”، والذي كان يعني الحمل خارج إطار الزواج، وكانت تُجبر الفتيات في مثل هذه الحالة، على التخلي عن أطفالهن بعد الولادة لصالح التبني.
واللافت، أن تدابير هذا “الإعتقال الإداري”، اتخذت من قِـبل العديد من سلطات الوصاية، دون تفويض قضائي ولا صدور أحكام قضائية. كما لم تكن هناك أية فرصة للمراجعة من قِـبل أي من القضاة ولم تكن هذه الهياكل والمراكز مهيأة لأي “معالجات تربوية”.
ولعلّ سجن قلعة هينديلبانك، الذي لم يكن يفصل بين المعتقلات والمساجين، هو مثال حي على هذا الحال، حيث بقيت بعض المعتقلات من النساء لسنوات في عزلة عن المجتمع، حتى أنهن ما زلن يحملن كابوس هذا الماضي ويعشن آلامه. ومما زاد الطين بلة، تعرضهن للتمييز بعد خروجهن واستمرار التهميش لمعاناتهن.
واستجابة للطلب الذي تقدّمت به مجموعة من النساء من ضحايا هذه الممارسة التي تُوصف بـ “السجن الإداري”، عمدت الحكومة الفدرالية بالتعاون مع سلطات كانتون برن إلى تنظيم اجتماع في هينديلبانك من أجل المعالجة الأدبية والأخلاقية لأخطاء الماضي وجبر خواطر الضحايا.
حضر الاجتماع، الذي عُقد يوم الجمعة 17 سبتمبر 2010، عشرون سيدة ممّـن تعرّضن لهذه المحنة، وقدّمت وزيرة العدل السويسرية فيدمر – شلومبف بحضرتهن اعتذار الكنفدرالية السويسرية، داعية إلى الإعتبار مما حدث من أجل عدم عودة مثل هذه الممارسات، ووجهت حديثها إلى الحاضرات قائلة: “لقد وقع عليكن ظلم كبير ولن يكون بإمكاننا أن نعيد لكن شبابكن، ولا نريد أن ننصّب أنفسنا كقُـضاة ولا كمؤرخين، ولكننا نريد أن نعيد لكن الإعتبار الذي حرمتن منه ويهمنا أن نُقدّم لكنّ تعويضا معنويا”.
وذكرت الوزيرة بأن الاعتذارات التي قُـدّمت حتى الآن، كانت بشكل شخصي، ولكن من المناسب أحيانا تقديمها بصفة رسمية، “وبالرغم من إدراكي أنه ليس بأيدينا استعادة الماضي، إلا أنني أطلب منهن الصفح عمّا لحقهن من مصادرة حرياتهن داخل هياكل تأديبية، دونما محاكمتهن”.
نداء إلى العدالة والمجتمع
وخلال ما حدث في هينديلبانك، روت ثلاث نساء من اللواتي عِـشن التجربة المريرة، ما حصل معهن، مشدّدات على أن الفترة التي قضينها في سجن الأحداث، أقصتهن عن المجتمع، وبقي أثر ذلك في حياتهن، حتى بعد خروجهن من السجن، وكوّن لديهن حاجزا نفسيا حيال المجتمع وولـّد عندهن شعورا بالإحتقار.
وأوضحت أورسولا موللر – بيوندي، بأنها أدخِـلت سجن هينديلبانك، بينما كانت حاملا في شهرها الخامس وكان عمرها حينئذ 17 عاما، ثم قالت: “أوجِّـه ندائي إلى العدالة والمجتمع: لا تسمحوا لِـما حدث أن يحدُث مرة أخرى”. وأشارت إلى أنها كانت تقبع داخل “زنزانتها” يوميا من الساعة السادسة والنصف مساء وحتى السادسة والنصف صباحا، وطوال اليوم خلال أيام عطلة نهاية الأسبوع، ولم تكن تخرج إلا وقت الطعام أو ساعة الفسحة الجماعية وبوجود باقي النزلاء، ومن بينهم مجرمون محكومون بجرائم قتل.
وبعد ولادة طفلها، نُزع من أحضانها وعُهِد به إلى عائلة تتبناه، ثم أعيد إليها بعد ثلاثة أشهر، نتيجة عزيمتها وإصرارها، وربما كان الحظ حليفها، ذلك أن الأمهات الأخريات لم يُسعَـدن بذات النتيجة. وقد أطلق سراحها بعد مرور ما يزيد عن عام ثم اشتغلت في سلك التعليم وأصبحت كاتبة ناجحة.
ومن جانبه، كان هانز هولنشتاين، نائب رئيس مؤتمر مدراء الكانتونات للشؤون الاجتماعية، مسرورا بأن هذه الممارسة لم تعد تتطابق لا مع الأفكار ولا مع القانون الحالي، ويقول: “بصفتي رجل وباسم مؤتمر مدراء الكانتونات، يؤسفني ما حدث ونرجو منكن قبول الإعتذار”.
ومن جانبه، قدم هانز يورغ كاسر، ممثل مؤتمر مدراء العدل والشرطة في الكانتونات، تصورا تاريخيا لعمليات الحبس التي شهدها سجن هينديلبانك، وأشار إلى أن نصف الحالات التي سُجِـنت فيها نساء خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، جاءت بناء على قرارات إدارية، وليست قضائية، وأردف: “أؤكد لكم أنه لا وجود اليوم لسجناء بدون أمر من المحكمة”.
“أنا في غاية السعادة”
إثر الاعتذار الرسمي، غمرت الفرحة والنشوة قلوب ضحايا سجن هينديلبانك، وكانت لحظات مليئة بالمشاعر، حتى أوشك أن يفيض الدّمع من عينَـيْ اورسولا موللر – بيوندي، وصرحت لـ swissinfo.ch قائلة: “لا أكاد أصدِّق، لقد كافحت لمدة عشر سنوات للوصول إلى هذه النتيجة، واليوم، يمضي كل شيء بسرعة”.
لقد كان لكلمات وزيرة العدل والشرطة ولاعتذارها، وقع خاص في نفس أورسولا موللر بيوندي، التي عبّرت عن انبهارها منها قائلة: “تتبّـعتُ نبراتها وأمعنتُ النظر في كل كلمة خرجت من فمها، إذ لعلّها تتفوّه بأي تبرير، ولكنها كانت رائعة وفي غاية الوضوح والدقة”.
ومع ذلك، كما ألمحت موللر بيوندي، لم تنته كل المشاكل بعد و”لا زالت هنالك ضحايا ممّـن توقفت حياتهن عند سجن هينديلبانك ولم تقوَين على تجاوز المحنة ولم تستطعن ممارسة حياتهن بشكل طبيعي، ونرغب في مساعدتهن من أجل بلوغ المعيشة الكريمة”.
وجدير بالذكر أن موللر بيوندي لم تتطرق إلى مسألة التعويض المادي، باعتبار ما تمثله من قيمة في إعادة تأهيل الضحايا وفي تأكيد موقف التضامن المعنوي، ويبدو أن القضية ستكون لها أبعاد مستقبلية في هذا الإتجاه.
وفي الختام، احتضنت موللر بيوندي إحدى زميلاتها من الضحايا وأطلقت صرخة فرح، خرجت من أعماق قلبها قائلة: “أنا في غاية السعادة، ولم أتوقع ما حصل، وهذا أسعد يوم في حياتي”.
شهدت الفترة من عام 1942 إلى عام 1981 التحفظ على آلاف من الشباب السويسريين داخل سجون تأديبية دون اقترافهم لأية جريمة ودونما محاكمة ولا حق في الاعتراض.
كانت سلطات الوصاية تصدر قرارات التحفظ، وكان ذلك يحصل لمجرد وقوع حمل خارج إطار الزواج أو تجاوز أخلاقي أو سكر أو لتكاسل عن العمل.
ليس من السهل تحديد عدد ضحايا هذه الممارسات، وذلك بسبب إتلاف العديد من السجلات.
شهدت السنوات الأخيرة خروج العديد من الضحايا عن صمتهم وفضحهم للظلم الذي ارتكبته السلطة الإدارية بحقهم.
من المؤكد وجود عدد كبير من الرجال من بين الضحايا، ولكن القليل منهم من أفصح عن هذا الماضي.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.