“إذا لم نتحرك للدفاع عن العمال المغاربة، فلنبادر للدفاع عن قيمنا الأوروبية”
خلال رحلة سياحية قادته إلى جنوب إسبانيا سنة 2005، اكتشف المصوّر الفوتوغرافي السويسري كريستوف شامرتان ظاهرة غريبة أسماها لاحقا "السجون البلاستيكية" ويقدمها للجمهور السويسري في معرض يستمر في رواق ومكتبة "فوكال" بمدينة نيون من 25 يناير إلى 9 مارس 2009.
لقد كانت صدمته كبيرة عندما أدرك الثمن الباهظ الذي دفعه ولا يزال المهاجرون المغاربة والأفارقة السود على مدى الثلاثين سنة الأخيرة من أجل أن يتحوّل إقليم المرية بالأندلس جنوب إسبانيا من منطقة جرداء وفقيرة إلى إحدى ركائز الاقتصاد الإسباني في مطلع هذا القرن.
فداخل هذه البيوت البلاستيكية المتراصة، التي تغطي مساحة 35.000 هكتار، وتزوّد أغلب الأسواق الأوروبية بما لذّ وطاب من الخضروات والغلال والفواكه، يعاني أزيد من 100.000 مهاجر أجنبي مما يسميه السويسري كريستوف شامرتان “عبودية العصر الحديث”.
ونظرا للبعد الإنساني لهذه المأساة، وما تمثله من صدمة واستفزاز للوعي الأوروبي، وتجاهل الإعلام وتواطؤه، قرر كريستوف شامرتان أن يجعل من جهاز تصويره شاهدا على هذه العبودية التي يعاني منها عمال مزارع إقليم المرية بجنوب إسبانيا.
بيوت أم سجون بلاستيكية
وبعد أن تردد على المنطقة مرات عديدة، أعرب المصوّر السويسري عن صدمته للمعاناة الشديدة التي يكابدها العمال المغاربة بجنوب إسبانيا، ويقول بكثير من الألم والحسرة “إنهم يعيشون حياة مزرية وقهر مذل، ناهيك عن الكراهيةالتي يكنها لهم السكان الأصليون”.
ويضيف متوقفا عند مأساوية هذا الواقع “هؤلاء الفقراء، الذين ليس بحوزتهم وثائق سفر، والذين يعملون بشكل مؤقت في إنتاج الخضروات والغلال، هم منبوذون من السكان الأصليين، ويضطرون بسبب الضيق والفاقة إلى الاستقرار في بيوت من البلاستيك أو الورق المقوى على مقربة من المزارع، خارج المدن”.
وسمحت رحلات استكشافية، استمر بعضها أزيد من شهر، لهذا المصور السويسري بمعايشة الواقع عن قرب وتوثيقه عبر المئات من الصور الفوتوغرافية وتسجيلات الفيديو، واليوم يقول كريستوف شامرتان: “العمال المغاربة والأفارقة المنحدرون من بلدان غرب إفريقيا، يتعرضون للكثير من الاستفزاز ومن العنف اللفظي والجسدي، إضافة إلى ما يلاقونه من استغلال”.
وتوثق المعارض الفوتوغرافية التي تنظم اليوم في العديد من المدن الأوروبية الناطقة بالفرنسية لحالة الانطواء والانعزال المشحون بالقلق لدى هذه الفئة. فهي تعاني من تردي أوضاع المعيشة وظروف السكن، والابتعاد عن الأوطان والأهل، وتفتقر للاستقرار في العمل مسكونة بمشاعر الخوف لفقدانها لوثائق سفر أو رخص إقامة. هذا إضافة إلى حالة الانتظار التي لا يعلم أحد الوقت الذي ستستغرقه.
ولكل عاقل أن يتصوّر الخيبة التي يشعر بها هؤلاء الذين غادروا بلدانهم في جنح الظلام، على قوارب الموت بعد أن سلّم كل منهم ما يملك لصاحب القارب، وكل أملهم بلوغ شاطئ النجاة، فإذا بهم يجدون أنفسهم فريسة الانتظار والبطالة والاستغلال. فلا هم يستطيعون إكمال الرحلة في اتجاه الشمال خوفا من انكشاف أمرهم، ولا هم قادرون على العودة من حيث جاؤوا، فلو وجدوا في بلدانهم ما يُسعفهم ما غادروها ابتداء”.
جزر لاإنسانية فوق أراض أوروبية
هذا الوضع الصعب يثير صدمة كريستوف شامرتان أوّلا “لأن الكثير من هؤلاء المغاربة والأفارقة لا يزالون على الرغم من الحقائق المؤلمة والظروف المزرية التي يعيشونها، يحلمون “بالإلدورادو الأوروبي”.
وما يثير استغراب شامرتان أيضا “وجود هذه “الجزر اللاإنسانية” على أرض إحدى البلدان الأعضاء في الإتحاد الأوروبي، ويتساءل: “في ما تختلف أوضاع هؤلاء العمال عن نظام الرق والعبودية الذي تتغنى أوروبا بأنها قد انتهت منه منذ مئات السنين؟”.
يرجع الصمت الأوروبي إلى “كون مصلحة أوروبا الموحدة تقتضي تركّز الإنتاج الزراعي في مناطق معيّنة في إيطاليا وهولندا وإسبانيا، حيث توجد اليد العاملة الرخيصة، مما يساعد على التقليل من تكلفة الإنتاج”.
وأمام تردد الإعلام في الكشف هذه الفظائع، وعدم تدخّل الجهات الحكومية في إسبانيا لمعالجة هذه الأوضاع، لا يتردد كريستوف شامرتان، وهو المصوّر والصحفي الملتزم، في التأكيد على وجود تواطؤ وإرادة سياسية حقيقية تعمل على استمرار هذا الواقع اللاإنساني وذلك: “لأن أغلب ملاك الأراضي في المنطقة هم من المسؤولين الحكوميين أو من النواب المنتخبين”، ويشير إلى أن “أوضح مثال على ما أقول هو والي إقليم الأخيدو المعروف على نطاق واسع بأنه عنصري يسئ معاملة العمال الأجانب ويستغلهم”.
بل إن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، إذ أن عامة المواطنين الإسبان مستفيدون من هذا الوضع الشاذ حسب رأيه: “لقد اصبحوا من الميسورين، ومن ملاك السيارات الفارهة بعد أن كان هذا الإقليم من أفقر المناطق في أوروبا”، مثلما يقول شامرتان.
مأساوية.. ومـفـارقـة
يتذكّر كريستوف شامرتان اليوم الذي كان فيه رفقة أحد العمال المغاربة بالمنطقة، حين ذهبا لإحتساء قهوة في إحدى القرى المجاورة، وكيف أنهما عندما دخلا إلى المحل تعالت صيحات الإحتجاج، ورفض النادل تقديم قهوة للعامل المغربي.
ومن خلال ما عاشه وعاينه، يؤكد شامرتان بأن “مشاعر الكراهية لدى الإسبان هي أقوى وأشد تجاه مواطني المغرب العربي من أي جالية أخرى”. ويضيف: “لم اجد اي تفسير لهذه الظاهرة، سوى أن أهل المنطقة لازالوا يحتفظون بمخزون تاريخي من الحضور السابق للمسلمين في المنطقة”. ويتفاقم هذا الشعور أكثر إذا ما أخذنا بعين الإعتبار الطابع المحافظ للمجتمع الإسباني وتشبث المزارعين فيه بالأرض.
لكن رغم كل ما يمكن أن يُقال عن مأساوية هذا الوضع، أليس العمال أنفسهم مستفيدون من النشاط الزراعي في هذه المنطقة؟ وهل سيكون وضعهم أفضل لو عادوا إلى بلدانهم؟ من دون شك المستفيد الاكبر هي الاطراف التي سبق ذكرها، لكن أيضا وهذا للمفارقة – هم العمال أيضا، وأسرهم التي يُعيلونها في بلدانهم برغم ضآلة الأجور التي يحصلون عليها.
ورغم القساوة التي تتسم بها الصور الوثائقية التي التقطها المصور الفوتوغرافي السويسري إلا أنه من المؤكد أنها لن تثني أبناء الشمال الإفريقي والقارة السمراء عن مواصلة ركوب الأمواج، والتطلع للهجرة إلى بلدان الشمال “فانتشار الفقر والفساد وسوء الإدارة لم يترك لدى الأجيال الشابة أملا في المستقبل على حد قول أحدهم”.
سويس إنفو – عبد الحفيظ العبدلي – نيون
حسب “نقابة العمال الزراعيين” في منطقة الأندلس، 50% من العمال المهاجرين الذين يناهز عددهم 100 ألف لا يتوفرون على سكن.
ثلث هؤلاء مهاجرون سريون أغلبهم من المغرب، ثم من دول إفريقيا السوداء وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية.
تمتد البيوت الزراعية البلاستيكية في الاخيدو على مساحة 35 ألف هكتار، وهي أكبر تجمع لإنتاج الفواكه والخضروات في العالم.
تزود أوروبا بـ80% من حاجياتها من الخضر خلال موسم الشتاء.
منذ أحداث 2000، تراجعت نسبيا اليد العاملة المغربية في المنطقة.
منذ أغسطس 2003، سجلت عشرات حالات الاعتداء الجسدية ضد مهاجرين مغاربة في الاخيدو.
كريستوف شامرتان، مصوّر وصحفي سويسري ولد في باليزيو، بكانتون فو. حاصل على دبلوم فنّي خاص في مجال فن التصوير. واستكمل تكوينه عبر القيام بالعديد من الرحلات إلى المكسيك، والمغرب وأوروبا الشرقية.
يعمل السيد شامرتان حاليا كمصوّر فوتوغرافي مستقل ينشر أعماله في العديد من الصحف السويسرية، ويشارك في كثير من المعارض الثقافية في أوروبا الغربية، وانضم للعمل سنة 2001 إلى “ريزو”، وهي وكالة تصوير تعمل في جنيف. ويركز أغلب أعماله حول القضايا المرتبطة بالهجرة والزراعة.
حصل هذا المصور الشاب على العديد من الجوائز القيمة من أبرزها: جائزة المكتبة الوطنية الفرنسية سنة 2009، وجائزة أحسن صورة شخصية portrait في سويسرا سنة 2003، وجائزة زينيث التي يمنحها تلفزيون سويسرا الروماندية سنة 1996، وجائزة مسابقة الشباب التي يمنحها مصرف كانتون فو BCV سنة 1988.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.