يتواصل الجدل في سويسرا بشأن دور الإعلام العمومي، مُمثلا بالوحدات التابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية، في العصر الرقمي المتسارع الوتيرة، إلا أن سويسرا ليست حالة فريدة في هذا المجال. في هذا التقرير، نسلّط الضوء على وضع الإعلام العمومي في بلدان موزّعة في جميع أنحاء العالم، عاش فيها صحافيو swissinfo.ch أو عمل البعض منهم فيها.
تم نشر هذا المحتوى على
15دقائق
صحفية سويسرية - أمريكية تغطي قضايا التعليم والهجرة والشباب بشكل رئيسي - بالإضافة إلى تطرقها بين الفينة والأخرى إلى موضوع الجبنة، تجذبها إلى ذلك جذورها في سويسرا وولاية ويسكونسن. تقوم بإنتاج ملفات صوتية (بودكاست)، وتعمل في الفريق المعني بوسائل التواصل الاجتماعي.
الإعلام العمومي: تشغّل هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية 17 إذاعة، وسبع قنوات تلفزية موزّعة على المناطق اللغوية الأربعة في البلاد، بالإضافة إلى موقع swissinfo.ch – إذاعة سويسرا العالمية سابقا- وهي خدمة إعلامية متعددة الوسائط موجهة إلى الجمهور الدولي بعشر لغات.
التاريخ: تأسست هيئة الإذاعة والتلفزيون في عام 1931، كمؤسسة لتوحيد الإذاعات المحلية تحت إدارة موحّدة. وإذا كانت قد اقتصرت في البداية على سويسرا الناطقة بالفرنسية، فإنها سرعان ما شملت وسائل إعلام أخرى من الكانتونات الناطقة بالألمانية ثم الإيطالية. أما العروض باللغة الرومانشية فقد انضمت إلى الهيئة في عام 1938، عقب الإعتراف بهذه اللغة كلغة رسمية في البلاد.
التمويل: تبلغ رسوم سماع الراديو ومشاهدة التلفزيون، الذي تشرف على استخلاصها حتى الآن شركة “بيلاغ” 451.10 فرنكا سويسريا في السنة لكل أسرة. وفي عام 2015، وافق الناخبون في استفتاء عام كانت نتائجه متقاربة جدا على تعديل ينص على أنه يتعيّن على جميع المقيمين في سويسرا دفع هذه الرسوم، مع استثناءات قليلة جدا.
وفي الآونة الأخيرة، بدأت غرفتا البرلمان (مجلس النواب، ومجلس الشيوخ) في مناقشة الدور الذي يجب أن يلعبه الإعلام العمومي على المستوى الوطني. كما أطلقت مجموعة من المواطنين مبادرة تدعو إلى وضع حد لرسوم سماع الإذاعات ومشاهدة القنوات التلفزيونية، من المرجّح أن يحسم الناخبون بشأنها في يونيو 2018.
______
تونس
الإعلام العمومي: تمتلك الحكومة التونسية يوميتي “الصحافة” و”لابريس” (باللغة الفرنسية)، وقناتيْ تلفزيون، وتسع إذاعات، ووكالة أنباء.
التاريخ: أنشأت المحطات الإذاعية في عام 1938 من طرف فرنسا، البلد المستعمر. كذلك ظهرت المزيد من المحطات عقب استقلال البلاد في عام 1956، بما في ذلك خدمة إذاعية موجّهة للخارج تبث برامجها بالفرنسية والإيطالية والإنجليزية والألمانية.
التمويل: توفّر الحكومة في تونس الجزء الأهم من تمويلات الإعلام العمومي. أمّا الجزء المتبقي فيتم الحصول عليه بواسطة الإشهار (20% تقريبا)، ونسبة أقل من خلال ضريبة مباشرة يدفعها المستفيدون ضمن فاتورة الكهرباء والغاز.
وفقا للعاملين في القسم العربي بـ swissinfo.ch، يحصل معظم المواطنين في البلاد على خدمات إعلامية مقبولة، لا سيما بعد سقوط النظام السابق وهروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في عام 2011. وحتى ذلك التاريخ كان يُنظر إلى الإعلام العمومي على أنه ناطق باسم الحكومة. أما بعد الثورة، فقد حاولت المؤسسات الإعلامية اتخاذ مسافة من الحكومة، لكن ما حققته من نجاح يظل نسبيا.
______
الولايات المتحدة
الإعلام العمومي: من أهمّ قنواته الإذاعة الوطنية العمومية (NPR)، والمحطات التابعة لها / البرامج الإذاعية، والخدمة الإذاعية العمومية ( PBS )، والمحطات التابعة لها، وأيضا البرامج التلفزيونية.
التاريخ: يقال إن الإعلام العمومي بدأ البث في عام 1910، حين أذيع عبر ذبذبات الراديو وفي جميع أنحاء البلاد خبر الأداء على أوبيرا نيويورك لأوّل مرّة. واليوم، ينظّم الإعلام العمومي في الولايات المتحدة من خلال قانون البث العمومي لعام 1967، والذي وضع في عهد الرئيس ليندون بي جونسون.
التمويل: تصل الضرائب على الأفراد إلى 12% من المزانية الفدرالية المخصصة للإعلام العمومي وهي تعادل حوالي 4 دولارات على الشخص الواحد في السنة. وتقوم مؤسسة الإعلام العمومي (CPB)، وهي مؤسسة غير ربحية أسسها الكونغرس بتوزيع تمويلات دافعي الضرائب على المؤسسات الإعلامية العمومية، ومع ذلك لا تحصل معظم الإذاعات والتلفزيونات العمومية إلا على 10% من تمويلاتها عبر تلك المؤسسة، أما بقية التمويل فيأتي من إكتتاب الشركات، والمنح والدعم المباشر الذي يقدمه المشاهدون والمستمعون.
وقد تم اختيار الإذاعة الوطنية العمومية، والخدمة الإذاعية العمومية بوصفهما “المؤسسات الإعلامية الاكثر جدارة بالثقة” كمصدر للأخبار الامريكية وفقا لدراسة أعدّها مركز أبحاث بيورابط خارجي.
وفي مشروع ميزانيته لعام 2017، يقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وضح حد نهائي للإعلام العمومي.
______
المملكة المتحدة
الإعلام العمومي: تشغّل هيئة الإذاعة البريطانية (BBC ) عشر محطات إذاعية وطنية، وتسع محطات تلفزيونية وطنية، بالإضافة إلى الخدمة العالمية في 32 لغة مختلفة.
التمويل: تصل رسوم الترخيص لمعظم المقيمين في بريطانيا إلى حوالي 40 سنتيما للأسرة الواحدة أو 147 جنيه استرليني (181 فرنك سويسري) سنويا اعتبارا من أبريل 2017. ويعتبر التهرّب من دفع هذه الرسوم جريمة جنائية. كما تمنح خصومات بالنسبة لخدمات القناة التلفزيونية بالأبيض والأسود أو بالنسبة للأشخاص المكفوفين. ويُعفى من هذه الرسوم كل بيت يوجد فيه شخص يعادل عمره 75 عاما أو يزيد. وقد بلغت إيرادات هيئة الإذاعة البريطانية قرابة 4.7 مليار جنيه استرليني في عام 2016.
التاريخ: أنشأت هيئة الإذاعة البريطانية في عام 1922 من قبل مجموعة من الشركات المصنعة لأجهزة البث الإذاعي، ثم كان التأسيس الرسمي لهيئة الإذاعة البريطانية لاحقا في عام 1927. وهي من أقدم الهيئات الإذاعية في العالم.
وفقا لصحيفة فايننشال تايمز، يصل معدّل تلقي الفرد لبرامج هيئة الإذاعة البريطانية 18 ساعة في الأسبوع. وقد تعرّضت رسوم السماع للإذاعات ومشاهدة القنوات الذي تستفيد منه هيئة الإذاعة البريطانية إلى الإنتقاد العديد من المرات خلال تاريخها الطويل. وكان آخرها من الدوائر المحافظة سياسيا، ومن شركات الإعلام الخاصة التي شككت في جدوى وأنواع البرامج التي يقدمها الإعلام العمومي.
______
إسبانيا
الإعلام العمومي: تشغّل هيئة الإذاعة والتلفزيون الإسبانية (RTVE ) قناة تلفزيون إسبانيا (TVE)، والإذاعة الوطنية الإسبانية (RNE)، بالإضافة إلى قناة تلفزيونية محلّية، ووكالة الأنباء (EFE).
التاريخ: أنشأت هيئة الإذاعة والتلفزيون الإسبانية في عام 1956.
التمويل: تموّل مباشرة من الحكومة عبر الضرائب.
وفقا للقسم الإسباني بـ swissinfo.ch يعتقد المواطنون في إسبانيا بصفة عامة أن البرامج التي تقدّمها هيئة الإذاعة والتلفزيون الإسبانية تتميّز بالجودة والإستقلالية. هذا لا يمنع تعدّد الشكاوى الصادرة في السنوات الأخيرة عن صحافيين وعدد من المواطنين من سعي الحكومة للتأثير على الطريقة التي تعالج بها مؤسسات الإعلام العمومي بعض الموضوعات السياسية الحساسة والمثيرة للجدل.
______
الصين
الإعلام العمومي: تغطيّ البررامج التي يقدّمها تلفزيون الصين المركزي، بالإضافة إلى 22 قتاة حرّة أخرى، موضوعات تتعلّق بعالم المال والفنون والترفيه والرياضة والسينما والعلوم والتعليم. كما توجد في البلاد أيضا 19 قناة خاصة بالمشتركين تغطي موضوعات مثل الرياضة والموسيقى والصحة.
التاريخ: تأسّس تلفزيون الصين المركزي في عام 1958. وأصبح يقدّم برامج مقابل اشتراك مالي من المستفيدين من برامجه منذ عام 2004.
التمويل: في البداية، كان تلفزيون الصين المركزي يموّل بالكامل من طرف الحكومة، أما الآن، فإن الجزء الرئيسي من التمويلات يأتي من الإشهار، فيما يقدم الجزء المتبقي من الإعانات الحكومية. ومعظم الأسر الصينية تدفع مقابل حصولها على خدمات التلفزيون الرقمي 18 رنمينبي (2.6 فرنك سويسري) شهريا، ولكن الأفراد لا يعتبرون ذلك ضريبة.
يحتفظ تلفزيون الصين المركزي بعلاقات قوية مع الحكومة الصينية. كما تفتتح جميع القنوات الخاصة تغطيتها اليومية بإذاعة االنشيد الوطني الصيني.
بينما ينظر إلى الإعلام العمومي في سويسرا بصفة عامة على أنه إعلام محايد، يؤكّد صحافيو القسم الصيني بـ swissinfo.ch بأن الشعب الصيني ينظر إلى تلفزيون الصين المركزي على أنه ناطق باسم الحكومة. وإن كان الشعب لا يرى أي مشكلة في ذلك، لأن “النزعة القومية في البث التلفزيوني تعد من الفضائل العليا في البلاد”.
______
البرازيل
الإعلام العمومي: هيئة الإذاعة والتلفزيون البرازيلية.
التمويل: تحصل هيئة الإذاعة والتلفزيون البرازيلية على 83% من تمويلاتها البالغة 538 مليون ريال برازيلي مباشرة من ميزانية الدولة، وأما 17% المتبقية فتحصل عليها كمقابل لإنتاجها.
التاريخ: نشأت هيئة الإذاعة والتلفزيون البرازيلية من رحم “راديو براز”، محطة إذاعية حكومية ظهرت إلى الوجود في عام 1975.
تدار هيئة الإذاعة والتلفزيون البرازيلية بواسطة مؤسسة مستقلة، ولكنها تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الحكومة، وأعضاء إدارتها يتغيّرون بحسب الجهة التي تتولى السلطة. وينظر الجمهور إلى الإعلام العمومي على أنه قريب من الحكومة. أما الإعلام الخاص، فهو أقوى تأثيرا من الإعلام العمومي في البرازيل. فقط 0.14% من المشاهدين يتابعون برامج التلفزيون البرازيلي العمومي بإنتظام.
______
روسيا
الإعلام العمومي: لا يوجد.
وفقا للقسم الروسي التابع لـ swissinfo.ch، لم يكن لروسيا في وقت من الأوقات نظام إعلام عمومي شبيه بالنظام الموجود في سويسرا. ولا توجد أي دلائل على أن المواطنين في روسيا يرغبون في ذلك. لكن نجحت في نفس الوقت قنوات إعلامية خاصة قوية في فرض حضورها في روسيا. ورغم أنها تتبع القطاع الخاص إلا أن خطها التحريري يخضع لتوجيهات ورقابة القسم الإعلامي التابع لرئاسة الجمهورية، والذي يمارس هذا التوجيه عبر ما يسمى هناك ب “قانون الهاتف”. أي أنه يمكن أن منع نشر أي مادة إعلامية بمجرّد هاتق من الدوائر العليا في البلاد.
وسائل الإعلام الرئيسية: صحيفة “روسيجسكاجا غاسيتا” (Rossijskaja gaseta)، التي تشرف عليها الحكومة، وكالة الأنباء “تاس”، وشبكة التلفزيون الدولية “روسيا اليوم” (تدار كذلك من طرف الحكومة). كذلك الصحيفة اليومية “إيسفيستيا” (Iswestija)، التي هي جزء من مجموعة “غازبروم ميديا”، التابعة لشركة النفط والغاز التي تسيطر عليها الدولة. ويسيطر الأوليغارش أليشر أوزمانوف على صحيفة “كومرسانت” (Kommersant) اليومية.
______
اليابان
الإعلام العمومي: تشغّل هيئة الإذاعة اليابانية، مؤسسة تابعة لها موجهة إلى الجمهور الدولي بثمان عشر لغة.
التاريخ: تأسست محطة إذاعة طوكيو في عام 1925، ومpطة التلفزيون في عام 1950.
التمويل: يدفع السكان رسوما مقابل استقبالهم للبرامج، وتكون هذه الرسوم أرفع في حالة القنوات الفضائية.
تخضع ميزانية هيئة الإذاعة اليابانية لمراقبة وموافقة لجنة إدارية خاصة تعيّنها الحكومة. وهذه من الأسباب التي تجعل المواطنين ينظرون إلى هذه الهيئة على أنها مملوكة للدولة على الرغم من أنها تموّل بالفعل من قبل الجمهور.
(نقله من الإنجليزية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)
قراءة معمّقة
المزيد
آفاق سويسرية
خبير لصحيفة سويسرية: لا أمل في ربيع الحرية في سوريا لهذه الأسباب
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.
اقرأ أكثر
المزيد
الإعلام العمومي القوي يلعب دورا إيجابيا في الأنظمة الديمقراطية
تم نشر هذا المحتوى على
تستند دراسة “الثقة في وسائل الإعلام 2016رابط خارجي” على بيانات يتم تجميعها مرتين في السنة كجزء من “البارومتر الأوروبيرابط خارجي” للمفوضية الأوروبية. ويشمل سبر الآراء البلدان الـ 28 الأعضاء في الإتحاد الأروربي (قبل خروج بريطانيا)، بالإضافة إلى خمسة بلدان مرشحة لعضوية الإتحاد (صربيا، والجبل الأسود، ومقدونيا، وألبانيا، وتركيا). وكان الإستنتاج الأول الذي توصلت إليه الدراسة:…
تم نشر هذا المحتوى على
من المتوقع أن يحتدم النقاش في مجلس النواب خلال الجلسة التي يعقدها يوم الثلاثاء 14 مارس الجاري بشأن دور المؤسسة العمومية التي توفر الخدمات الإعلامية عبر محطات الإذاعة وقنوات التلفزيون وشبكة الإنترنت للسكان في سويسرا. فقد أوصى التقرير المعروض للنقاش – الذي طلبت الحكومة الفدرالية إعداده – بالإبقاء على الأنموذج الحالي، وهو ما أقره مجلس…
“إيرونديل” السويسرية تدعم إصلاح العمل الإذاعي في تونس الجديدة
تم نشر هذا المحتوى على
ومن أبرز ما يتضمنه دعم مؤسسة إيرونديل لمُذيعي تونس ما بعد “ثورة الياسمين” التي لم تعرف تنظيم انتخابات حقيقية منذ استقلالها عام 1956، وضع مدونة سلوك، وميثاق انتخابي، وإعداد جدول برامج خاصة بالانتخابات تمنـح الكلمة بوقت متساو لكافة الأحزاب، وتتيح لأبناء الشعب التونسي فرص التعبير عن رأيهم وطرح أسئلتهم على المُرشحين، حتى في أكثر المناطق…
“الصراعات المقبلة تتطلب منح الأولوية لإعلام موضوعي ومستقل”
تم نشر هذا المحتوى على
تُظهر تجربة مؤسسة "هيرونديل" السويسرية في مناطق الصراعات بعدد من الدول الإفريقية مدى أهمية تواجد إعلام مستقل "على الأقل للتخفيف من حدّة الانتهاكات" في صراعات يتم فيها توظيف العامل العرقي والديني بشكل مفرط.
تُظهر تجربة مؤسسة "هيرونديل" السويسرية في مناطق الصراعات بعدد من الدول الإفريقية مدى أهمية تواجد إعلام مستقل "على الأقل للتخفيف من حدّة الانتهاكات" في صراعات يتم فيها توظيف العامل العرقي والديني بشكل مفرط. وقد تم تكريم هذه التجربة بحصول المؤسسة على جائزة شارة حماية الصحفي لعام 2014.
بهذه المناسبة، أجرت swissinfo.ch حديثا مطولا مع أحد مؤسسي إذاعة هيرونديل ومديرها الحالي جون ماري إيتر الذي يأسف لـ "عدم وعي المجموعة الدولية جديا بأهمية الإعلام المحايد والموضوعي في مناطق الصراعات".
تعود فكرة تأسيس مؤسسة هيرونديل إلى تجربة الصحفي التلفزيوني السويسري فيليب داهيندن أثناء قيامه بربورتاج في رواندا أثناء الحرب الأهلية. وعند عودته الى سويسرا، شعر بنوع من الغضب لكون الواقع المعاش ومعاناة الناس هناك بعيدين كل البعد عما يُتداول إعلاميا في الغرب.
وعند مفاتحة صديقيه المقربين، فرانسوا غروس وجون ماري إيتر بالموضوع، قرر الثلاثة التجند من أجل عمل قد يساعد السكان هناك. وأحسن ما كانوا يتقنونه جميعا هو مهنة الصحافة، لذلك اختاروا وضع تجربتهم في خدمة السكان في مناطق الصراعات للتخفيف من معناتهم. وعن ذلك يقول جون ماري إيتر: "كانت انطلاقتنا من هنا، دون معرفة السبيل الذي سنسلكه. وكانت البداية بتأسيس أول محطة إذاعية في رواندا، كان عليها إقبال كبير وسمحت لنا باكتساب التجربة واستخلاص الدروس، ومنها أولا وقبل كل شيء، معرفة أن ما يحتاجه الناس في مناطق الصراعات المسلحة بالدرجة الأولى، هو الحصول على معلومات موضوعية و ذات مصداقية". وقد ساعدهم في ذلك انحدارهم من سويسرا هذا البلد "الذي ليست له أجندات خفية أو ماض استعماري، والذي تسمح قوانينه بقيام مؤسسات مثل مؤسسة هيرونديل، دون ممارسة أية ضغوط عليها"، على حد قول إيتر.
القناعة التي اهتدى لها مؤسسو مؤسسة هيرونديل، اعتمدت أيضا على تجربة إيتر أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، لما كان الناس "يحاولون بكل الوسائل ويتوقون إلى الحصول على معلومات نزيهة وذات مصداقية يمكن الإعتماد عليها ولو فقط في تنقلاتهم، ولمعرفة المحيط الذي يتواجدون فيه. وثانيا لتفادي تأثير الدعاية الهدامة من هذا الطرف أو ذاك"، مثلما يقول إيتر.
بعد رواندا، توسعت تجربة مؤسسة هيرونديل في إقامة محطات إذاعية إلى الكونغو الديمقراطية ثم جنوب السودان. وللمؤسسة مراكز إنتاج إذاعية في مالي ومراكز تكوين وإنتاج في غينيا وكوت ديفوار. وتقوم المؤسسة بأول تجربة في تونس من خلال تعاون مع الإذاعة الوطنية تسمح للعاملين في هذه الإذاعة بـ "التحول من إذاعة الدولة التي كانت قائمة في عهد نظام بن علي، إلى إذاعة وطنية تابعة للقطاع العام وتقدم خدمة للجمهور"، على حد تعبير إيتر.
جائزة شارة حماية الصحفي لعام 2014
حصلت مؤسسة "هيرونديل" (وتكتب أيضا إيرونديل Hirondelle) على جائزة الحملة الدولية لشارة حماية الصحفي لعام 2014 على العمل الذي قدمته للإعلام والإعلاميين في مناطق الصراعات المسلحة في كل من رواندا والكونغو الديمقراطية وجمهورية وسط إفريقيا والسودان وجنوب السودان وتونس.
وفي تعقيبه على ذلك، صرح مدير مؤسسة هيرونديل جون ماري إيتر: "من المفرح جدا الحصول على جائزة، لأن ذلك يعني بأن هناك اعترافا بما نقوم به من عمل. والحصول على هذا الاعتراف من زملاء صحفيين معتادين على الإنتقاد بالدرجة الأولى، فهذا له وقع أكبر، خصوصا وأن العمل الذي نقوم به غير ظاهر للعيان في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي، فإن الحصول على جائزة من هذا النوع يسمح بالتعريف بنا أكثر".
الحفاظ على المصداقية وسط صراع مسلح!
أكيد أن سكان المناطق التي تعرف حروبا أهلية أو صراعات مسلحة، كثيرا ما يلجأون لمتابعة الأوضاع عبر الإذاعات الدولية. ولكن متابعة الأوضاع عبر هذه الإذاعات تتم من منطلق أن لكل إذاعة أجندتها الخاصة. يُضاف إلى ذلك أن كل طرف من أطراف النزاع يرغب في التحكم في وسائل البث الإذاعي ، لأن الحرب الإعلامية من الاستراتيجيات المتبعة من قبل الجميع، كل حسب وسائله المتاحة.
ولهذا يرى مدير مؤسسة هيرونديل أن "الصعوبة في إقامة إذاعة مستقلة وموضوعية في منطقة صراع مسلح تواجه العديد من التحديات وفي مقدمتها، قبول كافة الأطراف بهذا التواجد. فلا أحد يعرف جيدا طريقة عملكم، وبالتالي فإن الجميع ينظر إلى المشروع بنوع من التحفظ سواء الحكام أو المحكومين. يُضاف إلى ذلك أن قوانين الإعلام السائدة في مناطق مثل إفريقيا أو الشرق الأوسط هي قوانين تحديدية أو وقائية. والتحدي الثاني هو الحصول على التمويل الضروري للقيام بهذه النشاطات".
من النقاط التي يصر عليها مدير مؤسسة هيرونديل من أجل القيام بعمل مماثل في مناطق الصراعات، "ضرورة التعامل مع كافة أطراف الصراع دون إقصاء، وبحياد وموضوعية لأن ذلك هو السبيل الوحيد لإعطاء المحطة المصداقية الضرورية. ويدفع حتى الحكام، الذين يُنعتون بجميع الأوصاف، من ديكتاتوريين ومستبدين، و غير الراضين كل الرضا عن طريقة عملنا، للشعور بضرورة الإستفادة من خدماتنا ومن الشعبية التي أصبحنا نكتسبها بين السكان".
الأمثلة على ذلك كثيرة، ولكن السيد جون ماري إيتر اكتفى بذكر ما حدث من خلال برنامج إذاعي في إذاعة "أوكابي" بالكونغو، تم فيه توجيه الدعوة إلى مرشحين لشغل منصب كثر حوله الجدل، أي منصب رئيس هيئة الأركان وقائد الجيش. وتردد فيه أن تأخير التعيين راجع الى وجود خلافات بين المرشحين، الأمر الذي أخر إكمال بناء المؤسسات في هذا البلد ذي الإستقرار الهش. لكن ما حدث أثناء اللقاء الإذاعي" سمح للمواطنين في الكونغو باكتشاف أن الرجلين كانا مؤدبين في تخاطبهما، وواضحين في عرضهما لأسباب الاختلاف. كما أن المرشحين اكتشفا أثناء اللقاء أنهما قادران على الحوار، وبالتالي طلبا مواصلته عبر حلقات جديدة من نفس البرنامج".
وأضاف إيتر أن مؤسسته نظمت مؤخرا في مالي "جلسة في برنامج إذاعي بين ممثلين من العاصمة، وممثلين عن شمال البلاد لعرض وجهات نظرهما في وقت كانت فيه قوات كل طرف تخوض معارك ميدانية بالسلاح مخلفة قتلى وجرحى. وهذا ما سمح للمواطن العادي بالتعرف على هؤلاء القادة الذين يخوضون الحرب، وعلى مواقفهم".
وعن جمهورية وسط إفريقيا التي تعرف صراعا تريد أطراف معينة أن تضفي عليه طابع الصراع الديني بين مسيحيين ومسلمين، يقول إيتر: "نقوم منذ حوالي 15 عام بتجربة إذاعة "نديكي لوكا" التي تحولت إلى أول محطة إذاعية في البلد، بفضل صرامة الخط الذي ننتهجه، ومدى حرصنا على التعامل مع مختلف الأطراف، وعملنا على تجنب استخدام عبارات مضرة. ولئن لم يكن بوسعي التكهن بعدد الضحايا الذين استطعنا تجنب سقوطهم، فإنه بالإمكان القول بأن خطنا الإعلامي سمح في هذا الجو المفعم بالعنف الطائفي، بلعب دور هام في التخفيف من حدة هذا العنف".
مؤسسة "هيرونديل" في العالم العربي
تقوم مؤسسة هيرونديل بتجربة في تونس بعد الثورة تهدف لمساعدة التونسيين على "تطوير قطاع إعلامي عمومي مستقل عن تأثيرات هذه الفئة أو تلك، ويعكس التعددية الحقيقية المتواجدة في المجتمع التونسي"، على حد قول جون ماري إيتر، مدير مؤسسة "هيرونديل".
عمليا، شرعت مؤسسة "هيرونديل" وبدعوة من الإذاعة الوطنية التونسية، وبعد إنجاز برنامج عن تغطية الإنتخابات المتعلقة باعتماد الدستور، في إنجاز مشاريع مع محطات جهوية تابعة للإذاعة الوطنية، بدأت بمحطة قفصة. ويقول إيتر: "بدأنا في تطوير قنوات المراسلين لكي يكونوا أقرب من الجمهور، وبتطوير البرامج وتحديثها لكي تصبح في المرتبة الأولى كقطاع عام وحتى في مواجهة وسائل الإعلام الخاصة". "وهذا ما حصل بالفعل"، حسب تقدير مدير مؤسسة هيرونديل، "وهو ما سيتم تعميمه في باقي المحطات الجهوية إذا رغبت الإذاعة التونسية في ذلك".
في جنوب السودان، قامت مؤسسة هيرونديل حتى وقت قريب بتعاون مع إذاعة الأمم المتحدة، شأنها في ذلك شأن التعاون القائم في جمهورية الكونغو الديمقراطية. ويقول مدير مؤسسة "هيرونديل": "إن الأمم المتحدة هي التي طلبت منا تحديد معالم وطبيعة العمل الإعلامي في جنوب السودان، بعد التجربة التي قمنا بها لعدة سنوات في السودان قبل عملية استقلال الجنوب. ولكن هذا التعاون توقف الآن".
ومن المناطق العربية التي يرى أنها "في أمس الحاجة إلى إعلام مستقل"، يذكر السيد إيتر سوريا، قائلا: "بما أننا لا نقبل العمل في بلد إلا من الداخل، ونرفض أي نشاط موجه من الخارج، وبالنظر إلى الوضع المتأزم من الناحية السياسية والعسكرية، بل حتى الإنسانية والإعلامية، كيف يمكن الحصول على موافقة، سواء النظام في دمشق أو الأطراف التي تحارب النظام، على تواجد لنا هناك بشروطنا وبطريقة عملنا الإعلامية. ولو يحدث ذلك، فإنه سيكون مهما جدا بالنسبة للشعب السوري. لقد استمعنا لعدة اقتراحات في هذا الإطار، ولكن بدا لنا في كل مرة أنه من غير الممكن تطبيق ذلك على الأرض".
وإذا كانت التطلعات لعمل مستقبلي تشمل كلا من مصر وليبيا "إذا ما طُلب من مؤسسة هيرونديل القيام بذلك"، فإن مدير مؤسسة هيرونديل يعبر عن أمل كبير في إنجاز أحد المشاريع الإعلامية في فلسطين، إذ يقول "على الرغم من كون المنطقة تعرف تغطية إعلامية مكثفة"، فإن ما تعتبر المنطقة في أمس الحاجة له وما هو غير متوفر في الوقت الحالي، هو تواجد إعلام واضح ومسموع من قبل كافة الفلسطينيين ومن قبل قسم من الإسرائيليين".
تحديات ومخاطر وخط تحريري صارم
رغم هذه التجارب الغنية في كيفية إدرة مؤسسة إعلامية محايدة وموضوعية في منطقة صراع مسلح، يقر مدير مؤسسة هيرونديل بنفسه قائلا: "نحن مازلنا في بداية التجربة، لأن الصراعات العرقية والدينية التي كنا نعتقد بأننا تجاوزناها، مازالت أمامنا".
ومن خلال التجربة، يقول المسؤول عن تطبيق البرامج بمؤسسة هيرونديل جون لوك موتوسمي: "إن عمل الصحفيين بمحطاتنا في مناطق الصراعات المسلحة يبدأ بالتغلب على صعوبات الوصول إلى مكان العمل، وتجاوز نقاط التفتيش، والتغلب على مخاوف الأهل والأقارب، ودراسة الأوضاع من حيث المخاطر المحتملة".
من المشاكل الأخرى التي تواجه صحفيي هذه المحطات، دائما حسب تجربة المسؤول عن البرامج "كون جل المواضيع حساسة، ويصعب فيها الحصول على شهادة أشخاص يسمحون بذكر أسمائهم، رغم حرصنا الشديد على التعريف بالمصادر قدر الإمكان لتجنب الإتهامات المبهمة المتبادلة".
لذلك تم التركيز في عمل الإعلاميين في محطات مؤسسة هيرونديل أو تلك التي تتعامل معها، على ضرورة تجنب التعليق على الخبر والإكتفاء بنقل الخبر المؤكد فقط.. ويوضح جون ماري إيتر ضمن هذا السياق: "لقد منعنا منعا باتا استخدام التعليق في عملنا عند الحديث عن أوضاع صراع مسلح، لأنه ليس المكان المناسب للتعبير عن الميولات الشخصية".
من النقاط الأخرى التي يرى أنها مهمة في مناطق الصراعات، قوة الشهادات التي يقدمها الجمهور بخصوص حالات العنف، وحالات الإنتهاكات السائدة في تلك المناطق، خصوصا عبر محطة تحظى بقبول من قبل الجميع. ومن الأمثلة المُقدمة "شهادة أحد أفراد الحرس الجمهوري في بلد إفريقي تنعم فيه مثل هذه المؤسسات العسكرية بكونها فوق القانون، والذي شارك في عمليات قتل جماعي وتعذيب كانت تبدو له عادية، ولكنه اكتشف عبر شهادة الجمهور في بعض برامجنا، هذه المرآة التي لم تكن متوفرة من قبل، بشاعة ما شارك فيه، مما دفعه هو وبعض من زملائه إلى تغيير تصرفهم ليس تطبيقا لأوامر قادتهم، بل عن اقتناع، بأن ما يقومون به بشع وغير مقبول".
"الكلمة قد تقود إلى الحرب أو إلى السلم"
يرى المسؤول عن تطبيق البرامج بمؤسسة هيرونديل جون لوك موتوسامي أن "اختيار الكلمات والألفاظ في البرامج الإعلامية بمحطات مناطق الصراعات، أو الزاوية التي يتم اختيارها لمعالجة موضوع من المواضيع، كلها أمور لها أهمية البالغة، وهذا ما اكتشفتُ بُعده من خلال عملي الصحفي في هذه المناطق".
ويثني موتوماسي على مهنية ومعارف الصحفيين المحليين الذين يعملون في هذه المحطات "نظرا لكونهم عايشوا عدة انقلابات وترعرعوا في المنطقة، حتى أن منهم من كان مجندا في بعض الميليشيات، أو كان موظفا في إذاعات حكومية، وانضمامهم لمحطات مثل محطاتنا في وسط إفريقيا أو جنوب السودان، نابع من الرغبة في العودة إلى شعور بروح المواطنة، وخدمة المجتمع إعلاميا في مرحلة هو في أشد الحاجة فيها إلى إعلام محايد وموضوعي".
لكن ما يأسف له مدير مؤسسة "هيرونديل" جون ماري إيتر هو أن المجموعة الدولية التي كثيرا ما تسارع لمساعدة مناطق الصراع في إعادة البناء، لم تدرك بعد مدى أهمية منح الأولوية لبناء أسس إعلام مستقل لتوعية الجمهور، ونزع فتيل الأحقاد المتراكمة، والتي تغذي بدورها استمرارية هذه الصراعات، إذ يشرح قائلا: "إن تواجد مثل هذه الإذاعات أصبح ضرورة ملحة في مناطق الصراعات، لأن إحساس الكره تجاه الآخر يتم عبر مراحل، وتتسع رقعته شيئا فشيئا. ولن يقتصر الأمر على الشعور بكره الآخر بسبب عرقه أو دينه أو أية ذريعة أخرى، بل سيتحول إلى التحريض على قتله لتطهير المنطقة من عنصر دخيل. والمرحلة الأخيرة ستتمثل في تحول قتل الآخر ليصبح أمرا عاديا".
والمشكل يكمن في أن وسائل الإعلام الدولية لن تأبه لضخامة المشكل إلا بعد بلوغ عمليات القتل والعنف حجما كبيرا وبعد أن تشمل مناطق أوسع. وهذا ما يعتبره إيتر تدخلا متأخرا "لأن التعايش السلمي تم القضاء على أسسه منذ مدة وليس فقط عند ظهور عمليات القتل الجماعي" عل حد قوله.
ومن هذا المنطلق، يرى مدير مؤسسة هيرونديل أن التدخل إعلاميا وباختيار التعابير المناسبة وفي الوقت المناسب "قد يقود إلى السلم، ليس لأننا نُوجه الناس نحو هذا الموقف أو ذاك، بل فقط بتوضيح الأمور لهم من وجهات النظر المختلفة، لأن الناس يملكون ما يكفي من الذكاء لمعرفة ما هو في صالحهم إن توفرت لهم فرصة التعرف على آراء كل الشركاء وفرصة الإستماع الى آراء الآخرين".
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.