الإغتصاب والعنف الجنسي خلال الحروب.. جريمة ضد الإنسانية!
"كان الغضب الشديد، هو ما دعاني إلى اتخاذ قرار بالتحرّك والقيام بعملٍ ما"! بهذه الكلمات افتتحت مونيكا هاوزر، الطبيبة السويسرية الأخصائية بأمراض النساء والحائزة على جائزة نوبل البديلة، سلسلة محاضراتها المُتعلِّـقة بِعمل منظمتها الإنسانية "ميديكا مونديال"، التي تلتزم بالدفاع والعمل من أجل النساء اللّـواتي تَعرّضن إلى العنف الجنسي في مناطق الحرب.
وقد اتخذت هاوزر قرارها بالعمل الميداني في الدول التي دارت فيها رحى الحرب، عندما اطلعت على الأخبار المُتعلقة بالإغتصاب المُنظم، الذي تعَّرضت له النساء أثناء الحرب التي كانت البوسنة والهرسك مسرحا لها ابتداء من عام 1992. وقد أسفر قرارها عن افتتاح مركز “ميديكا زينيتشا” النسائي في عام 1993، الذي اشتقت تسميته من مدينة “زينيتشا” الواقعة على بعد 70 كيلومتراً شمال العاصمة سراييفو.
ومنذ ذلك الحين، تستجيب منظمة “ميديكا مونديال”، التي تأسست في عام 1993 لاحتياجات النساء العاجلة في الحماية والدعم، وهي تُعَرِّف نفسها كمنظمة إغاثة تعنى بحقوق النساء وتهتم حصراً بالنساء اللواتي تَعرّضْنَ للعُنف الجنسي أثناء الحرب.
عمل ريادي
وتمارس منظمة “ميديكا مونديال” نشاطاتها حالياً في مشاريع موزّعة على أكثر من 20 بلداً متأثراً بالحرب والنزاعات المسلحة، مثل ألبانيا وكوسوفو وأفغانستان وليبيريا والعراق والهند والسودان وجمهورية الكونغو وأوغندا وتركيا والمكسيك، من خلال تقديم الدَعم والعلاج النفسي والإجتماعي والقانوني للنساء والفتيات المصابات بصدمات، نتيجة تعرّضهن للعنف الجنسي أثناء الحرب، وهي تقوم بعمل ريادي في هذا المجال، حيث لا تهتم سوى القليل من منظمات الإغاثة بهذا الموضوع حصراً.
وترتكز هذه المنظمة على مبادئ وخصائص جودة تمّ تطويرها من تجارب العمل الميداني في هذا المشروع والتي يجري تنقيحها وصقلها بانتظام. وتشارك فِرق عملٍ وطنية ودولية ودائرة متزايدة من النساء من ذوات الخبرة الدولية في هذه العملية.
كما تُجري المنظمة تحالفات سياسية لتحقيق أهدافها وتسعى لِنَشر الوعي من أجل بناء وعي وحساسية أكبر داخل أنظمة الرعاية الطبية والمدونات القانونية والوكالات الإنسانية، حيث تعمل على مواجهة المحاولات المستمرّة للتقليل من قيمة وشأن المرأة.
تحويل الغضب إلى مشروع إغاثة
في أغلب الأحيان، لا تَحظى الناجيات من العُنف الجنسي بفرصة للتحدّث عن تجاربهن، حيث يستجيب كل مَـن يعلم بما حدث – سواء كان من العائِلة أو المجتمع – بشكلٍ سلبي في أغلب الأحيان، وقد يصل الأمر إلى نَبذ الضحية من قِبل عائلتها. كما تكون النساء اللواتي تَعَرضْنَ إلى العنف الجنسي عُرضة لخطر الوقوع في مطباته كضحايا مرة أخرى.
وتقول هاوزر، التي حازت على جائزة نوبل البديلة (أو ما يسمى أيضا جائزة رايت ليفليهود Right Livelihood Award، التي تقدَّم سنوياً في مجالات حقوق الإنسان والتَنمية المُستدامة والصحة والتعليم والسلام وحماية البيئة)، في بداية محاضرتها التي ألقتها في مدينة لوتسرن: “كان السبب الذي دعاني إلى اتخاذ قرار بالتصرف بهذا الاتجاه، هو الشعور بالغضب بالدرجة الأولى” وأضافت: “كان غضبا بسبب ما فعله الرجال بالنساء، كما كان مُوجهاً إلى وسائل الإعلام والسياسة”.
وتتهم هاوزر وسائل الإعلام بعدم النظر إلى المرأة باعتبارها كائنا موضوعيا، حيث تقول: “لقد كُتِبَ عن هؤلاء النساء، كما لو لم تكن لديهنَّ حياة قبل وبَعدَ أن إغتُصِبنَ”، وتُضيف: “لم تكن وسائل الإعلام مُهتمة بغير التفاصيل المُثيرة لعملية الاغتصاب”، ولكن ذلك لم يضع نهاية فعلية لمُعاناة هؤلاء النسوة.
وكما تقول الأخصائية في الأمراض النسائية: “لم يكن هناك سوى كلام واعترافات لفظية من قِبَل السياسة الدولية”، غير أنَّ هاوزر من جانبها، لم ترغب بالإكتفاء بالحديث فقط، بل حرصت على القيام بعمل فعلي وتقديم مساعدة حقيقية للنساء في مناطق الحرب والأزمات.
“الجرائم الأخلاقية” في أفغانستان
لم تكن “ميديكا زينيتشا”، المنظمة الوحيدة التي أقيمت لإغاثة النساء، بَل تَبِعتها مشاريع مُماثلة في كوسوفو وألبانيا وليبيريا. كما تمارس منظمة “ميديكا مونديال” نشاطاتها في أفغانستان منذ عام 2002 عَبْـر العديد من المشاريع المتنوّعة الموزّعة في أنحاء متفرقة من البلاد.
وتُبرِز هاوزر صورة من سجن للنساء في العاصمة الأفغانية كابُـل، حيث يمكن رؤية النساء وحتى الفتيات في غرفة قَـذِرة لا تتوفر فيها أيّة أماكن للجلوس أو أسِـرّة للنّـوم. وتوضح الناشطة السويسرية أسباب اعتقال هؤلاء النسوة بالقول: “لقد تم سجنهن بسبب إتهامهنَّ بما يُسَّمّى بـ “الجرائم الأخلاقية”. وتشمل هذه “الجرائم” قائمة، تبدأ من الزّنا المزعوم والهرب من العُنف المنزلي، وتنتهي بالزواج القسري. كما تقول هاوزر: “عندما تتعرّض المرأة للإغتصاب، فسوف ستجد نفسها مُذنِبة بارتكاب جريمة الزِّنا ويُحكَم عليها بالسجن”، وتوضِح السبب مشيرة إلى أنه “يوجد في أفغانستان دستور وقوانين مُماثلة لتلك الموجودة في سويسرا، ولكن القُضاة لا يلتزمون بها، بل يَحكمون وِفقا لأحكام الشريعة أو القانون القَبَلي”. وحسب هاوزر، فإنَّ المُلاحقة القضائية لمُرتكبي هذه الجرائم، هي الاستثناء وليست القاعِدة.
وكإجراء مُقابل، تقوم منظمة الإغاثة التي أنشأتها هاوزر بالتعاون مع محاميات مَحلّيات بإثبات خطأ هذه الإجراءات، وهو ما أسفر بالتالي عن الإفراج عن أكثر من 2000 امرأة.
التدريب.. الحماية
ومن وجهة نظر الطبيبة السويسرية، فإَّن “أهم شيء هو الاستثمار في المرأة العاملة”، لذا تقوم “ميديكا مونديال” بتقديم تدريب إضافي ودوراتٍ تأهيل لأخصائيات أفغانيات في مجال الطبابة الصحية والنفسية والاجتماعية، من أجل التعامل مع النساء اللواتي تعرّضْنَ لصدمات نفسية نتيجة للإغتصاب والتعذيب، وتوعيتهنَّ حول عواقب وآثار العُنف الجنسي. كما تؤَمِّن أخصائيات مَحَليات في سِلك القانون لمُساعدة النزيلات في سجون النساء.
وفي كوسوفو على سبيل المثال، وبسبب عدم توفر أي شخص مهني مُتَخصص في العلاج النفسي، طَوَّر المركز التابع لمنظمة “ميديكا مونديال” برنامج تدريب للموظفين لمدة أربع سنوات، أثمَر عن حصول 10 نساء على اعتماد جامعي في مهنة جديدة، أطلِقَت عليها تسمية “المستشارة النفسية الاجتماعية للمرأة”. ومن خلال المراكز المنتشرة في أحياء العاصمة الأفغانية كابُـل، يُمكن للنساء التحدث عن تجاربهنَّ في مجموعات تُقَدّم الوساطة والمشورة بشكل أسبوعي.
وتصف هاوزر أوضاع النساء اللواتي تعرضن إلى الاغتصاب بالقول: “غالباً ما تَخْجَل النساء من التَحدُث عن العنف الذي تعرَّضنَ له”، وتضيف: “إنهن يخشون عواقب البَوح بتَعَرُّضهُنَّ للإغتصاب”.
التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي
ولا تنشط منظمة “ميديكا مونديال” الخيرية بالعمل الميداني في مناطق الحرب فقط، ولكنها تعمل أيضا مع المحكمة الجنائية التابعة للأمم المتحدة في لاهاي، التي أنشئت على وجه التحديد في عام 1993 لمعاقبة الجُناة الذين كانوا وراء انتهاكات القانون الدولي، التي جرت أثناء الحرب في يوغوسلافيا السابقة.
وقد سعَت مونيكا هاوزر منذ البداية إلى كشف وإدانة عمليات الاغتصاب الجماعي واعتبارها جرائِم حرب. وقد أخذ العمل الدؤوب لهاوزر يُُـعطي أكله. ففي عام 2001، اتخذت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي قراراً تاريخياً مُهماً في قضية “فوكا”، حيث أدانت للمرة الأولى حالات الاغتصاب المُنظمة للنساء أثناء الحرب واعتبرتها “استعبادا جنسياً” و”جريمة ضد الإنسانية”.
وقد دارت مُحَاكَمَة “فوكا” (التي تحمل إسم المكان الذي حدثت في هذه الجرائم في البوسنة)، على وجه الحَصر حول العُنف الجنسي ضد النساء. وقد أدين المتهمون الثلاثة في هذه القضية بتهمة الإغتصاب المُنتظم والمُتكرر للنساء والتعذيب والاستعباد الجنسي. وكان المدانون في هذه القضية يُمارسون الاغتصاب الجماعي لأسابيع متعددة لفتيات لا تتجاوز أعمار البعض منهنَّ 12 عاماً.
واختتمت الأخصائية في الأمراض النسائية محاضرتها، مُشدّدة على وجود أنواع أخرى من العدالة لا تنحصر بالناحية القانونية فقط، وكما تقول: “تعني العدالة أيضاً أن يكون بإمكان المرأة التي تعاني من تمزّق في بطنها وفي أعضائها التناسلية، الخضوع لعملية جراحية، كما تعني استقلال المرأة اقتصاديا أيضاً”.
ولدت مونيكا هاوزر عام 1959 في مدينة سانت غالن (عاصمة الكانتون الذي يحمل نفس الاسم)، ونشأت فيها أيضاً. وقد درست هاوزر الطب في النمسا وإيطاليا وتخصَصَت في وقتٍ لاحق في مجال الأمراض النسائية، وهي تسكن مع عائلتها حالياً في مدينة كولونيا الألمانية.
واليوم، تنشط منظمة الإغاثة “ميديكا مونديال”، التي أنشأتها هاوزر قبل نحو 17 عاماً، في 20 بلداً، حيث تقدم يد العون والمساعدة الطبية والمشورة النفسية بالإضافة إلى المساعدة القانونية.
وقد أجرت المنظمة خلال السنوات العشر الماضية فحوصات طبية وقامت بتقديم المشورة إلى أكثر من 40,000 امرأة في كوسوفو والبوسنة وألبانيا وأفغانستان.
وفي عام 2008، مُنِحت مونيكا هاوزر جائزة نوبل البديلة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.