التراث السويسري يتأرجح بين تقاليد راسخة ورغبة عارمة في التطوير
في يوم الجمعة المصادف للرابع من يونيو 2010، تألَّـقَت مدينة شفيتس وسط وَهجٍ من الألوان بمناسبة الاحتفال بالمهرجان الوطني للأزياء التقليدية، وخرج الآلاف من سُكان المدينة ليَنضموا إلى صفوف المُشاركين من بقية كانتونات سويسرا، لاستعراض أكثر من 400 صنف مختلف من الأزياء.
وعَكــَس المهرجان الذي يُقام مرة كل اثني عشر (12) عاما الفكرة التي يحملها مُعظم السكان عن الأزياء الشعبية: فساتين ملونة مع مآزر (مرايل) بألوان مُتضادة في أكثَر الأحيان، وقمصان بأكمام منتفخة وشالات ومَناديل وقبَّعات بارزة ومساحات واسعة من الثياب المُطَرَّزة مع سلاسل فضية ودبابيس لتزيين الشعر.
ومن بين هذا الكم الكبير من الأزياء، هناك ما يُرتدى في أيام العمل وأُخرى خاصة بيوم الأحد، وفي بعض الحالات، هناك لباس خاص بيوم العيد، كما تملك كل منطقة زيّـها الشعبي الخاص، الذي توضع مقاييسه وينظم وصولاً إلى أدَق التفاصيل من قِبل جمعيات الأزياء الشعبية في الكانتونات.
وفي نفس المدينة، ومن فوق منصة متحف التاريخ السويسري، أقيم معرض “الأزياء التقليدية السويسرية”، الذي نَحى لوجهة أخرى وقام باستعراض الأزياء التقليدية، من وجهة نظرٍ امتدت إلى زمن بعيد.
من المدينة إلى الريف
هناك افتراض سائد مفاده أن اللباس الشعبي التقليدي ثابت ولا يُمكن تَغييره، ولكن هذا المفهوم انقلب في هذا المعرض الجديد. وما الزيّ التقليدي، كما هو معروف اليوم، إلا وليد القرن العشرين. وحين كان هذا الزيّ يُـلبَس في أواخر القرن الثامن عشر، كانت الأمور مُختلفة تماماً.
وحسب بيا شوبيغر، أمينة متحف التاريخ السويسري، فقد بدأ الازدهار يعُـمّ المناطق الريفية في تلك الفترة، كما تحسّـنت الأوضاع الإقتصادية للسكان، مما دفعهم إلى تقليد الموضة السائدة في المناطق الحضرية وإلى اتِّـباع نفس التوجهات العامة – وإن لم يكن بنفس السرعة تماماً – كما هو الحال في المدُن.
وعند مدخل المعرض وبعرضٍ مُلفِـت للأنظار، قُـدِمَت مجموعة مُختارة من 10 أزياء تعود إلى أنحاء مُختلفة من سويسرا في فترة القرن التاسع عشر. وسَلَّطَت هذه الأزياء الضوء على مجموعة واسعة من المواد والأقمشة المُستَخدَمة في ذلك الوقت، مثل قماش “الساتان” الحريري الصقيل (الأطلس) والدمشقي والتفتا ونسيج الموسلين القطني والقطن المَطبوع والصوف والكتّـان، حيث تمَّ إبراز الألوان والأشكال والزّخارف والتقنيات المُستخدمة في شتى المناطق السويسرية.
تغيير الموضة
ولم تبقَ الأشياء على حالها بالتأكيد في القرن التاسع عشر. وكان طِراز “الروكوكو”، الذي ساد في أواخر القرن الثامن عشر والمُتَميز بالخَصر الضيق والتنّـورة العريضة المملوءة، مؤثراً جدا في البداية، غير أنَّ الطراز الإمبراطوري ذا الخصر المُرتَفِع في أوائل القرن التاسع عشر، كان له تأثير أيضاً على الشكل واللون. وشَهِدَ عصر “البيدرماير”، الذي تلاه تحوّل الملابس التقليدية إلى أزياء أكثر ألواناً وحجماً مع المزيد من العناصر الزخرفية.
وفي منتصف هذا القرن، شجعت مُـوضة قماش “القرينول” القطني، نساء المناطق الحضرية على “دفع” تنانيرهم إلى الخارج، لتزداد سعة، ولكن هذه الموضة اندثرت ومعها التنانير الداخلية الفضفاضة المُنَشأة والمكوّنة من مستويات من “الكشاكش”، لتحلّ محلها موضة تميل إلى أجساد أكثر نحافة. وساد ارتداء قطعة ملابس تُـشبه “الصديري”، الذي يغطّـي جسم المرأة من العُـنق إلى الخاصرة والمكوّن على الأغلب من قطعتين تُربط ببعضِها برباط (قد يكون من الجلد) والذي كان يأخذ شكلاً مستدقا باتِّـجاه البطن.
ولكن، وبحلول نهاية هذا القرن، أصبحَت الأزياء الحضرية أكثر توفراً وبأسعار معقولة، بفضل الثورة الصناعية. كما صارَ عدد النساء اللواتي يرتدين الملابس الشعبية من أي أسلوب كان، أقل عددا.
حركة التراث
وتزامنت خُـطوة الإبتعاد عن ارتداء الملابس الشعبية التقليدية في المنزل مع ظهور حركة التراث في المدن التي كانت تهدِف إلى إنقاذ ما تعتبره الطبقة البورجوازية قِـيماً سويسرية تقليدية. وقد أدّى هذا الاتجاه إلى إنشاء “رابطة الأزياء التقليدية السويسرية” في عام 1926.
وكان العضو الرئيسي الفعال ومركز الإشعاع لهذه الرابطة في سنواتها الأولى، هو السياسي المُحافظ أرنست لاور، الذي وصف الزيّ التقليدي بكونه “لباس الفلاّحين” المُناسب لطريقة الحياة البسيطة والمُرتِبِطة بجذور التربة.
ولكن في الواقع، كان هذا أبعد ما يكون عليه الحال في الفترة التي عاش بها لاور. ولملاءمة هذه الفكرة، كان على عُشّـاق التراث وضع تغييرات جِـذرية على هذه الأزياء لِتَتَناسَب مع فكرته تلك، حيث قدَّموا الزيّ البديل الخاص “بيوم العمل”، بِأنْ قاموا بالتخلص من “الصدريات” المُلاصقة للجسم والطول الزائِد للتنانير، كما استَبدلوا الحرير بالقطن والكتان واستغنوا عن استخدام المجوهرات الغالية، لتكون حصراً بأزياء يوم العيد.
وكتبت عالمة “الإثنوغرافيا” (أو علم الإنسان التطبيقي) بيريجيت لانغنبيرغر من متحف الأبنزل في الفهرس المُصاحب للمعرض: “لقد عادلت إملاءات هذه الحركة التراثية الجديدة الأزياء التقليدية السويسرية عن طريق وصف مرجِع رسمي محدود لم يقدم غير تنوع قليل، مع عدم وجود إمكانية متوقعة للتغيير”.
ومن جانبها قالت شوبيغر لـ swissinfo.ch : “إذا كُـنت ترغب في ارتداء زيّ تقليدي سويسري الآن، عليك باتِّـباع القواعد”. وأضافت: “هذا يختلف عن الدول الأخرى، حيث لا يزال يُسمح للأزياء باتِّـباع موضة القرن العشرين. وفي بافاريا (ألمانيا) أو النمسا على سبيل المثال، اختلطت الأزياء الحديثة والتقليدية”.
وحتى لو اعتقد بعض الناس بالأثر المُسفه لرابطة الأزياء الوطنية السويسرية، فهي لا تزال على قيد الحياة وتتمتع بصحة جيدة، كما يَتضح من المهرجان الوطني للأزياء التقليدية. ولا يزال أعضاء هذه الرابطة، البالغ عددهم نحو 23,400 شخصا، سُعداء بِمُتابعة ما تُمليه عليهم رابطتهم، سواء تقبَّـلوا تفكير مؤسسيها أو لم يفعلوا.
وقالت شوبيغر: “ترتبط حماسة الكثير من الناس لارتداء الأزياء التقليدية الشعبية بِحُبّهم لوطنهم ولهُـويتهم الثقافية – وهو ليس بالأمر السّـلبي. ولكنني أعتقد أن الكثير مِمّـن يرتدون هذه الأزياء في يومنا هذا، يقومون بذلك في مناسبات خاصة لإظهار أنفسهم ولكونهم يحتلّون مكانةً خاصة، مما يُميزهم عن البقية”.
المُضي إلى الأمام
مع ذلك، فقد خُصِّـص جزءٌ هام من المعرض، الذي تعمل فيه شوبيغر، للأشخاص من ذوي النهج المُختلف جداً. ومن بين المعروضات، يظهر فستان خيطت به مريلة، مُخطط بخطوطٍ عريضة بيضاء وحمراء وأغطية رأس رقيقة مصنوعة من شعر الخيل ومنسوجات مطبوعة بمواضيع جبلية، كجبال الألب، وراكبي الدراجات في المناطق الجبلية أو التليفريك بأنواعه، المُغلق أو على شكل كراسي مُعلَّـقة بالكابلات.
ومضت شوبيغَر في شرحها قائِلة: “منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، صار هناك اهتمام مُتَجَدد بالأزياء التقليدية الشعبية من قِـبَل المُصمِّـمين. وليسَت لدى هؤلاء أي عُقَـد تخص استخدام المآزر و”الصديري”، وهم سعداء جداً باستخدام أجزاء من هذه الأزياء في تصاميمهم الخاصة”.
وأضافت: “هذا الأمر يَحدُث في مُختلف المجالات وليس مع الموضة فقط، بل يتعدّاها إلى تصميم الأنسجة والمجوهرات وحتى الموسيقى أيضاً”.
كما شاركت ناديا راس، مغنية موسيقى اليودَل (نوع من الموسيقى التي تؤدّى بالصوت البشري الذي تصدره الحنجرة والذي يُعتبر نوع من الفنون الشعبية الجميلة في ريف وجبال سويسرا) في البرنامج المرافق للمهرجان، بتقديمها لورشة عمل. وحسب شوبيغر، تقوم راس بنفس ما يقوم به المصمِّـمون الحديثون، حيث تقول: “إنها تُعيد النظر في التقاليد وتتقدّم بها إلى الأمام”.
ومؤخراً، قام المجلس السويسري للفنون التابع للمؤسسة الثقافية السويسرية بروهيلفيسيا بالترويج لبرنامج يستغرق سنتين، حول نفس الموضوع، كما قام بتشجيع بعض المُصمِّـمين الذين يُمكن الإطلاع على أعمالهِم في المعرض، وهو مَنحى بعيد كل البُعد عن المُثل العُليا لرابطة الأزياء الوطنية السويسرية. وتُعلّـق شوبيغر قائِلة: “هناك مجموعة واسعة من ردود الأفعال، إذ يجد البعض هذا الأمر مثيراً ومُمتعاً جداً، في حين يميل الآخرون إلى النأي بأنفسهم عنه”.
في نهاية المطاف، يمكن القول أن مهرجان الأزياء التقليدية، أظهر بأنّ للتراث حاضِرهُ، في حين يُظهر المعرض – حسب تعبير بروهيلفيسيا – بأن “للتراث مستقبل ينتظره”.
جوليا سليتر – شفيتس – swissinfo.ch
أقيم المهرجان الوطني للأزياء التقليدية من 4 إلى 6 يونيو 2010 في مدينة شفيتس، عاصمة كانتون شفيتس الواقع وسط سويسرا. ويُقام هذا المهرجان كل 12 عاما.
وقد توقع المنظمون اشتراك نحو 8.000 مؤدّي يرتدون حوالي 400 زيّ تقليدي مختلف. كما كان من المتوقّـع حضور نحو 60.000 زائر إلى المهرجان.
لم يقتصر المهرجان على عروض الأزياء الشعبية من جميع أنحاء سويسرا فقط، بل تضمن أيضاً الرقص والغناء وأنواع التسلية التراثية التقليدية، كقذف الأعلام في الهواء و”العزف” على “أبواق أو قرون الألب” (وهي آلة موسيقية مصنوعة من الخشب على هيئة قرن طويل له نهاية تُـشبه الكوب يقوم العازف بالنفخ فيها، وتُعتبر رمزاً وطنياً في سويسرا).
لم يخلُ المهرجان من الأكشاك والخِـيام التي بِـيع فيها الطعام والشراب السويسري التقليدي، بالإضافة إلى المَشغولات اليدوية.
وفي يومه الأخير، تُـوِِّج المهرجان بمسيرةجابت شوارع المدينة.
تأتي معرفة المرحلة المُبكرة للأزياء الشعبية من خلال سلسلة من اللوحات التي قام برسمها جوزيف راينهارت (1749-1829) والذي رسم فلاحين أثرياء ينتمون إلى جميع أنحاء سويسرا.
كما ترك الفنان لودفيغ فوغل (1788-1879) سلسلة من الرسوم المائية التي تحمل تفاصيل لأزياء تعود إلى القرن التاسع عشر.
ويستند جزء كبير من المعرض على الأزياء التي جمعتها عالمة الأجناس جولي هايرلي، والتي بدأت بحثها المتعلّـق بالأزياء الشعبية التقليدية في ثمانينيات القرن التاسع عشر. وقد أولَـت هايرلي عناية كبيرة ودقيقة بالمُصطلحات الفنية والكيفية التي كانت تُرتَدى بها هذه الملابس بالضبط.
وكان بعض مساعدي هايرلي أكثر اهتماما بجمع الأمثلة الصارخة، بدلاً من العمل الميداني بالتفاصيل، وهو السبب وراء شرائهم عددا أقل بكثير من الأزياء الرجالية.
وقد قامت هايرلي بالتبرّع بمجموعتها إلى المتحف الوطني السويسري.
تمّ عرض الأزياء التقليدية، التي تعود إلى القرن العشرين، في المعرض الوطني الذي أقيم في عام 1939 على دُمى خشبية صُنِـعت خصيصاً لهذا الغرض.
وهناك مجموعة مُختارة من هذه الأزياء التي يُمكن الإطِّـلاع عليها في المعرض الحالي.
يشكِّـل متحف التاريخ في كانتون شفيتس جُزءً من مجموعة المتحف الوطني السويسري.
ويمثل المتحف الوطني في زيورخ، أكبر عضو في هذه المجموعة .
بالنسبة للجزء الناطق بالفرنسية في سويسرا، هناك متحف “شاتو دي برانجان” Chateau de Prangins، بالقرب من بحيرة جنيف.
ويتبادل كلٌ من مَتحفيْ شفيتس وبرانجان معروضاتهما في كثير من الأحيان بصورة مؤقّـتة.
تعود العديد من الأزياء المعروضة على منصة متحف التاريخ السويسري، إلى المجموعة الواسعة التي يضُمّها المتحف الوطني في زيورخ.
يَستَمِر المعرض حتى 17 أكتوبر 2010.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.