مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“الزواج المختلط إثراء للتجربة الإنسانية رغم صعوباته”

Giacomo Meyerbeer: L'africaine, Opéra (1865)/akg-images

"الزواج المختلط"، أو "الزواج متعدد الثقافات"، كما يحلو للبعض تسميته، ظاهرة يتوسّع انتشارها باضطراد في سويسرا، وقد بلغت نسبة هذه الزيجات في سويسرا ما بين 2008 و2010 ما يزيد بقليل عن 21 % من جملة الزيجات التي عرفتها سويسرا في تلك الفترة.

ومن يتحدّث عن التماسك، أو الإندماج الإجتماعي، لا يمكن أن يتجاهل هذا النوع من الزواج. فمشاعر الحب والعاطفة الإنسانية كونية بطبعها، ولكن ما الذي يعنيه تقاسم الحياة مع شريك تشرّب ثقافة مختلفة؟ وكيف يمكن تحقيق التواصل، الذي هو اساس الزواج، إذا كانت اللغات الأم متباينة؟ وأيّ تنشئة للأطفال، إذا كانت المرجعيات الثقافية والدينية بين الشريكيْن غير متماهية؟.

لاستجلاء الظاهرة والوقوف على بعض أبعادها، اتصلت swissinfo.ch ببعض العرب الذين اختاروا خوض هذه التجربة في سويسرا، وتقدّم هنا خلاصة لأستنتاجاتهم.

زواج بين الصدفة والاختيار

أوّل ما يتجلّى من هذه التجارب التي اطلعت عليها swissinfo.ch هو أن قرار خوض هذه التجربة يختلف من شخص إلى آخر، حيث تروي فرانشيسكا، السويسرية ذات الأصول الإيطالية كيف التقت زوجها رائد، التونسي بمدينة لوزان، وتقول: “التقينا كما يلتقي جميع الناس، ورغم أن زوجي كان من أصول أخرى، ومن ثقافة لا أنتمي إليها، هذا الامر لم يمنعنا من نسج هذه التجربة الإنسانية، ومن خوض هذه المغامرة الثرية”.

وأمّا بالنسبة لعبد المولى لمحنكر، أصيل جبال الأطلس والمقيم بسويسرا منذ 20 سنة، وصاحب وكالة أسفار “المجرة”، لا توجد صدفة في الزواج، ويقول: “نحن نتزوّج لأن علاقة حبّ وعاطفة قد نشأت بين شريكيْن، عندما أرتبط بامرأة، فلأنها تشاطرني نفس القيم، ونفس النظرة إلى الأشياء وإلى العالم”.

الزواج اختيار، ووليد أرادة مسبقة كذلك بالنسبة لمحمّد مشكور، مساعد اجتماعي، متزوّج من سويسرية من أصول ألمانية منذ 16 عاما، والذي يؤكّد على أن فكرة الزواج من فتاة أوروبية، كانت تخالجه منذ أن قرّر السفر للعيش في أوروبا.

ورغم اختلاف ظروف نشأة هذه الزيجات، فإن الجميع يؤكّد على أنها تجربة ثرية لأنها تساعد على فهم الثقافات الأخرى، وتحدّ من الأحكام الخاطئة التي تفتقد إلى المعرفة والدليل، كما أنها تعزّز قيم الانفتاح والتعدّد. وتقول فرانشيسكا “هذا النوع من الزواج فيه اثراء للتجربة الإنسانية، فيه نتعلّم كيف نعيش مع أشخاص يختلفون عنا، وثقافاتهم قد تكون في بعض تجاربها أفضل وأغنى مما لدينا”.

المزيد

المزيد

قلبُها “ماوري”.. وحبُّها “سويسري”

تم نشر هذا المحتوى على من المصاعب التي غالبا ما يواجهها المهاجرون الراشدون في سويسرا ضرورة تعلمهم للغتين بدل واحدة فقط، حيث يتوجب معرفة اللغة الألمانية الفصحى للتواصل كتابيا، وإجادة اللهجة السويسرية الألمانية للتحاور مع الناس. هذا العامل المعروف بمصطلح “ازدواج اللسان” في علم اللغة صعب للغاية ويجعل التكيف مع أي ثقافة جديدة بمثابة تحدّ حقيقي. كيلي غونسالفيس، عالمة الاجتماع…

طالع المزيدقلبُها “ماوري”.. وحبُّها “سويسري”

تجربة ليست عصية عن الفشل

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تؤول نسبة لا باس بها من هذه التجارب إلى الفشل؟ والجواب بالنسبة للمحنكر هو أن “هذه الزيجات مثل غيرها، ولا شيء معطى فيها منذ البداية، ومعدلات الطلاق مرتفعة. فالتنوّع الذي هو ميزة هذه العلاقة يتطلّب عقلية منفتحة، وتنازل متبادل من الطرفيْن”.

سرّ النجاح هو أن لا تكون لأي من الطرفيْن أفكار أو معتقدات يريد فرضها على الطرف الآخر، فالانتماء الديني، الذي يكون في أغلب الأحيان مصدر توتّر في هذه التجارب، ينظر إليه محمد مشكور مثلا على أنه “اختيار شخصي بالنسبة للطرفيْن، وانا أرفض أن تتحوّل زوجتي إلى نسخة منّي في كل شيء”. والشرط الوحيد الذي يراه هذا المغربي المقيم في مدينة “رومون” التابعة لكانتون فريبورغ لتحقيق التعايش في هذه الحالة هو “توفّر الاحترام المتبادل”.

الاحترام والحوار هما أيضا سرّ نجاح علاقة فرانشيسكا مع رائد، علاقة تتواصل منذ عشرين سنة، ولديْهما اليوم ثلاثة أطفال، وترى فرانشيسكا أن نجاح الزواج المختلط يتوقّف على “وجود حوار شفاف ودائم”، أما الفشل فيتسرّب إليه في العادة “كلما حاول أحد أطرافه فرض رأي، أو فكرة، أو تصوّر، أو ثقافة، أو عادات على الطرف الآخر”. وبدلا من تصوير تجربتها على أنها سلسلة من التنازلات والتراجعات عما ألفته قبل الزواج، ترى أن الزواج المختلط “فرصة للانفتاح والتعرّف على شيء آخر غير الذي ألفناه، وتعوّدنا عليه”.

المشاركة والاندماج

تكشف هذه التجارب أيضا عن رغبة من الزوجيْن في تبادل الثقافات والعادات والاستفادة من التنوّع والتعدّد الذي يميّز هذه الشراكة. ففي الوقت الذي يختار فيه المهاجر العربي تعلّم اللغات السويسرية الوطنية كالفرنسية والألمانية من أجل الاندماج في المجتمع وفي سوق العمل، تختار الزوجة السويسرية تعلّم اللغة العربية من أجل التواصل مع عائلة زوجها أثناء الزيارات العائلية، ومن أجل منح ابنائها فرصة تعلّم لغة وثقافة جديدة.

ويصف لمحنكر عملية التبادل هذه داخل أسرته فيقول: “في بعض الأحيان بدافع الحب والعواطف الإنسانية الخالصة، أقطع خطوات تجاه الآخر، وكذلك يفعل الطرف الثاني. أتذكّر كيف اختارت زوجتي التخلّي من تلقاء نفسها عن أكل لحم الخنزير، وبعض العادات التي يرفضها الإسلام، في المقابل، أحرص دوما على معاملتها كإنسان له خصوصياته وثقافته، فانتهينا في الأخير إلى نوع من التكامل المحمود”.

أمّا تجربة فرانشيسكا فقد ذهبت بها إلى ابعد من ذلك. إذ بعد إقامتها في تونس لمدة عشر سنوات برفقة زوجها، تقول “تعلّمت اللهجة التونسية، واعتنقت الإسلام عشر سنوات من تاريخ زواجنا، حصل ذلك بعد اطلاع عميق وبعد حوارات مطوّلة، وجدت الإسلام دينا يسوده الإنسجام بين مقولاته، ويقدّم إجابات على كل الأسئلة التي نطرحها بطريقة مقنعة”.

كما يتفق الجميع على أن هذا الزواج هو أيسر طريق إلى الإندماج، وهو ما تأكّد فعلا لمشكور: “جئت إلى سويسرا قادما من أمستردام، واستقرّ بي المقام رفقة زوجتي في احدى القرى الصغيرة بسويسرا الناطقة بالألمانية، وبحسب ما كان يقال الناس هناك متزمّتون، ومنغلقون ويكرهون الأجانب، لكن ما شاهدته عكس ذلك تماما، ربّما لأنني أتقن لغتهم، ومتزوّج من منطقتهم، وأذهب للتواصل معهم، ولا أنتظر المبادرة منهم”.

معضلة تنشئة الأطفال

ويظلّ الإختبار الصعب لهذا التجربة هو في إيجاد توافق بين الزوجيْن بشأن هوية الأطفال ونمط تربيتهم. وإذا كان الطفل يلحق في العادة بابيه في الشرق، فإنه وإلى حين بلوغه السادسة عشر من العمر يلحق بأمه في البلدان الغربية، وفي كثير من الأحيان يختار الزوجان الطلاق لصعوبة التوصّل إلى اتفاق بشأن الأبناء.

لكن الوعي المسبق بهذه المشكلة، والاطلاع على تجارب الفشل السابقة، جعل البعض يضع حلول استباقية وخلاّقة، كمنح الطفل اسميْن في آن واحد، واعتباره مسلما بالنسبة لأبيه مثلا وغير ذلك بالنسبة لأمه، وتعليمه لغتيْ الأب والأم منذ الصغر، ثم ترك الحرية الكاملة له في اختيار ما يريد عندما يكبر.

البعض الأخر يبدي الإستعداد باستمرار للحوار وللتفاوض على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” من أجل الوصول إلى نمط من التربية متفق عليه. وكيف لا يحدث ذلك إذا كانت مصلحة الابناء هي في النهاية هدف الآباء والامهات.

وتلخّص فرانشيسكا الموقف فتقول: “في بعض الأحيان يحصل تباين حول هذه النقطة أو تلك، ولكن سرعان ما يتبدّد الإختلاف بالحوار. وبعد كل شيء الغاية المشتركة هو تمكين الأطفال من بناء مستقبلهم وتنمية ذواتهم بشكل بنّاء وفعّال”.

يعني مصطلح الزواج المختلط في سويسرا علاقة اقتران بين زوجيْن من أديان وثقافات وجنسيات مختلفة. ومنذ القديم وحتى ظهور الدولة السويسرية الحديثة مع دستور 1848، كان مبدأ الإقليمية هو الذي ينظّم قواعد الزواج.

في سالف العصور، كان لا يسمح بالزواج رسميا إلا بين زوجيْن ينتميان إلى الديانة الرسمية للكانتون، وعلى المعتنق للبروتستانتية مثلا الذي يريد الزواج من كاثوليكية في كانتون كاثوليكي أن يعتنق المذهب الرسمي للكانتون  قبل اتمام مراسم الزواج. ثم هذا النوع من الزواج كان نادرا جدا.

في القرن التاسع عشر، أجاز القانون الفدرالي الصادر في 3 ديسمبر 1850 الزواج بين الرعايا المسيحيين من مذاهب مختلفة، ووضع حدا للقواعد التي كانت تختلف من كانتون إلى آخر. واختارت بعض الكانتونات آنذاك اعتماد الزواج المدني، وهو ما زاد في تيسير الزواج المختلط. في وقت تمسكت فيه بعض الكانتونات الكاثوليكية بحظر الزواج بين البروتستانتيين والكاثوليك.

منذ 1870، ومع تزايد حركة نزوح وهجرة السكان، ازدادت بشكل كبير معدلات الزيجات المختلطة بين الجنسيات والثقافات المختلفة خاصة في المناطق الحدودية. وعشية الحرب العالمية الأولى، نجد زواجا من جملة ست زيجات كان زواجا مختلطا. واستمرت المعدلات قريبة من هذه النسبة إلى الخمسينات من القرن العشرين.

منذ 1960، الإحصاءات المتعلقة بأصول المتزوّجين تعكس إلى حد كبير التغيرات الإجتماعية التي شهدها المجتمع السويسري. هذه الإحصاءات لم تعد تعير اهتماما كبيرا للمكان الذي ولد فيه الزوج ام الزوجة، لأن الفرد قد يكون أجنبيا لكنه ينتمي إلى الجيل الثاني او الجيل الثالث بسويسرا، نظرا لكونه لم يمنح الجنسية او انه لم يطلبها. كما يمكن ان يكون احد الزوجيْن مقيما في سويسرا ويختار بمحض إرادته الزواج من شريك حياة من بلده الأصلي الذي غادره منذ مدة طويلة.

منذ 1970، شهدت هذه الظاهرة انتشارا اوسع (من 15% سنة 1970 إلى 23% سنة 1990)، لكن المعدّلات اختلفت من كانتون إلى آخر (9% في أوري، و30% في بازل سنة 1990). وحتى عهد قريب، كان البروتستانت يعتبرون هذا الزواج تهديدا للهوية الوطنية لجنيف.

بالنسبة للجالية المسلمة بسويسرا، التي ازداد عددها بإضطراد منذ عام 1970، وصلت نسبة الزواج المختلط في صفوفها إلى 73% سنة 2000، وهذا المعدّل موزّع بطريقة عادلة بين الجنسيْن. وفي العموم، فإن انتشار الزواج المختلط يُعدّ مؤشرا مهمّا على علمانية ومدنية مجتمع ما، وعلى مدى اندماج مهاجريه.

(المصدر: المعجم التاريخي السويسريرابط خارجي)

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية