مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الكنيسة قد تصبح “أكثر احتضانا” للمسلمين الموجودين في الغرب

فتيات لبنانيات محجبات يرفعن صورة للبابا بينيدكتوس السادس عشر يوم 15 سبتمبر 2012 أمام القصر الرئاسي في بعبدا لدى زيارته الأخيرة إلى لبنان. Keystone

ملفات عديدة ستفرض نفسها على جدول أعمال البابا المرتقب أكثرها داخلي وبعضها خارجي مثل الحوار مع العالم الإسلامي ونوعية العلاقة التي سيقيمها الفاتيكان مع المسلمين عموما والمقيمين في الغرب منهم بالخصوص.

في حوار خص به swissinfo.ch، يُوضّح الدكتور عز الدين عناية، وهو أستاذ من تونس يُدرّس بجامعة “لاسابيينسا” في روما وفي معهد الدراسات الشرقية بجامعة نابولي في إيطاليا، أهم التحديات التي تنتظر الحبر الأعظم الذي سيختاره مجمع الكرادلة المجتمع حاليا في حاضرة الفاتيكان بروما في ملف العلاقة مع العالم الإسلامي عموما وكيفية التعاطي مع الأعداد المتزايدة من المهاجرين المسلمين الذين تحولوا إلى مواطنين أوروبيين خصوصا.

swissinfo.ch: أولا، هل من تقييم مُوجز للعلاقة التي سادت بين البابا المستقيل جوزيف راتسينغر والعالم الإسلامي عموما من مايو 2005 وحتى موفى فبراير 2013؟

د. عز الدين عناية: في الحقيقة، كانت العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية في فترة البابا بينيدكتوس السادس عشر والعالم الإسلامي مضطربة حيث مرت بمرحلة جديدة بعد يوحنا بولس الثاني الذي كان ربما أكثر انفتاحا على العالم الإسلامي (وربما أكثر سياسيا) من البابا المستقيل، بمعنى أنه ربما كان يعرف كيف يتعامل مع العالم الإسلامي.. كان يبتعد عن مناطق أو مواضيع التوتر، في حين أن البابا راتسينغر كان له طابع دوغمائي أرثوذكسي، أي أنه رجل كان يبحث عن عودة نقاوة الكنيسة. هذه الأمور التي كانت تتحكم في تفكير راتسينغر الديني أثرت نوعا ما على طبيعة العلاقة مع العالم الإسلامي.

مثلا، كان الحدث الذي وقع في راتيسبونا (بألمانيا) سنة 2006، جراء تلك المحاضرة التي ألقاها وانتقد فيها نوعا ما تاريخ العالم الإسلامي والديانة الإسلامية، نقطة الشرارة في انطلاق التوتر مع العالم الإسلامي، وهو ما أدى لاحقا إلى شبه انقطاع لعلاقة الحوار بين مؤسسة الأزهر في مصر والفاتيكان، وهي لا زالت إلى حد الآن متوقفة (دون أن تنقطع تماما). إلى جانب أن الرجل لم يكن له مسعى انفتاحي على الديانات الأخرى التي تسمى “الديانات غير المسيحية”، فبمجرد وصوله إلى سدة البابوية في روما، تم إلغاء مجلس الحوار مع الديانات غير المسيحية، ما مثل علامة كبيرة على النهج الذي بدأت تسير فيه الكنيسة الكاثوليكية (تم التراجع لاحقا عن قرار الإلغاء لأنهم وجدوا فيه ضررا كبيرا للكنيسة الكاثوليكية). في الحقيقة، كان توجّه راتسينغر دوغمائيا وانطوائيا، أي أنه لا يبحث عن الحوار مع الخارج أو عن إرساء علاقات مع ديانات أخرى لأنه يعتبر أن الحقيقة موجودة في  الكاثوليكية، أي أنه “لا خلاص خارج الكنيسة” مثلما يُقال.

يبدأ مجمع الكرادلة لانتخاب خلف لبنديكتوس السادس عشر بعد استقالته التاريخية اجتماعاته بعد ظهر الثلاثاء 12 مارس 2013، في اليوم الخامس من الإجتماعات التحضيرية السرية للكرادلة.

أدلى مائة كاردينال من الناخبين أو خارج دائرتهم بمداخلات خلال الإجتماعات التي تسبق المجمع. ومن بين الموضوعات التي تم التطرق في الأيام الأخيرة “دور النساء في الكنيسة” و”الحوار بين الأديان”، إضافة الى وجوب توفير “شراكة أكبر” في عملية إدارة الكنيسة.

أثرت فضيحة تسريب وثائق سرية لبنديكتوس السادس عشر في اطار فضيحة “فاتيليكس” على اجواء “الجمعيات” إذ طالب الكرادلة الذين قدموا من دول بعيدة بمزيد من المعلومات حول قضية كشفت غياب الشفافية المالية والنزاع على السلطة في الفاتيكان. وكان الكاردينال الألماني فالتر كاسبر صريحا جدا عندما دعا في مقابلة مع صحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية إلى “إصلاحات وشفافية”.

ذكرت وسائل الإعلام أن معالم مُعسكرين بدأت ترتسم بين أنصار إصلاح إدارة الكنيسة الذي يرتكز على بابا إيطالي مثل الكاردينال انجيلو سكولا والحرس القديم الذي يريد أن يُعهد بالمنصب إلى بابا أجنبي شرط أن يبقي سكرتارية الدولة قلب السلطة في الفاتيكان، تحت إشرافه.

ذكرت صحيفة “لا ريبوبليكا” أن أسقف ميلانو الكاردينال انجيلو سكولا سيكون قادرا على جمع “أربعين صوتا” من بين الكرادلة الناخبين، علما أن البابا المقبل يحتاج الى أكثرية ثلثي هؤلاء (77 صوتا). وأضافت الصحيفة ان سكولا سيحظى بتأييد “العديد من الكرادلة الأجانب وخصوصا كاردينال فيينا كريستوف شونبورن وعدد لا بأس به من الأساقفة الأمريكيين”. واعتبرت أن سكولا هو “الخيار الأول للإصلاحيين” الذين يعتبرون أن “الوقت حان لتغيير جذري في إدارة الكنيسة”.

أما الجبهة الأخرى فتتمثل في “الحزب الروماني” (نسبة إلى روما، حاضرة الفاتيكان) المؤلف في غالبيته من الإيطاليين. وتابعت الصحيفة أن وزير خارجية الفاتيكان المنتهية ولايته تارتشيزيو بيرتوني وعميد الكرادلة انجيلو سودانو “سيتحالفان لتشكيل كتلة داعمة للبرازيلي اوديلو شيرير”.

(المصدر: وكالات)

بعد مرور أكثر من نصف قرن على انعقاد مجمع الفاتيكان الثّاني، هل يُمكن أن يُقدم البابا المرتقب على إعادة النظر جذريا في هذا التوقف الذي حصل في العلاقة مع الإسلام والمسلمين عموما، أم أن المشاكل الداخلية التي تعاني منها الكنيسة الكاثوليكية ستستأثر بجل اهتماماته؟

د. عز الدين عناية: البابا الجديد أمامه ملفات كبيرة تركتها تركة راتسينغر، منها ملفات داخلية تتعلق بسير الكنيسة الداخلي ومنها ملفات خارجية. وفي الحقيقة، أنا أتصور أن ما دفع البابا السابق إلى الإستقالة هو فشله في حل عديد الملفات. مع البابا الجديد (بالمناسبة يُقال إن أنجيلو سكولا المعروف بعلاقاته الجيّدة مع العالم الإسلامي ومع الديانات الأخرى من أبرز المرشحين لخلافة البابا المستقيل)، أتصور أنه سيقع تحول جذري عن الخط الذي سار فيه راتسينغر، لأن الكنيسة أمامها ملفات داخلية (مالية وأخلاقية وغيرها وحتى في تشكيل بنية رجال الدين).

وفيما يتعلق بالعالم الإسلامي والديانات الأخرى، أتصور أن لا تبقى الكنيسة منغلقة على العالم الإسلامي، ولابد من انفتاح على العالم الإسلامي وتنقية تلك العلاقة من العديد من الشوائب (ومن بين هذه الشوائب التي سقط فيها راتسينغر سابقا استغلاله في بعض الأحيان لبعض التوترات في العالم الإسلامي والعالم العربي وإعطائها أكبر من حجمها في الإعلام المرتبط خاصة بالكنيسة أو استغلالها في بعض الأحيان لتوتير العلاقة).

أضرب مثلا، الكنيسة في عهد راتسينغر كانت تتعامل مع الأنظمة الديكتاتورية، أي أنها لم تكن تتعامل مع رموز الحركات الإسلامية التي وصلت الآن إلى السلطة.. كانت تتعامل مع الأنظمة السابقة ومع المؤسسات الدينية التابعة للأنظمة السابقة وتناست أن في البلاد العربية مؤسسات أخرى مرشحة مستقبلا للوصول إلى السلطة.. هذا ما يطرح اليوم أن الفاتيكان أمامه خطة جديدة للتعامل مع أوضاع الربيع العربي الجديد ومع القوى الجديدة (السياسية والدينية) التي ظهرت، وينبغي أن يتعامل معها بطرق أخرى مُغايرة للطريقة التي اعتمدتها الكنيسة طيلة الفترة السابقة.

ولكن، ألا ترى دكتور أن الأوضاع الصعبة التي تمر بها الأقليات المسيحية في بعض بلدان الربيع العربي وفي عدد من البلدان ذات الأغلبية المُسلمة سواء في افريقيا أو في آسيا أو في الشرق الأوسط التي دفعت الكثير منهم إلى الهجرة أو الفرار من بلدانهم ستكون عقبة بوجه هذا الإنفتاح المأمول؟

د. عز الدين عناية: صحيح، مثلا نحن لو نظرنا إلى البلاد العربية، هناك توترات سياسية انعكست على العديد من الطوائف والأقليات الدينية، وهناك قلق في صفوف الجماعات المسيحية الكبرى (سواء كانت في مصر أو في لبنان أو في الأردن أو في فلسطين أو غيرها من البلدان العربية) من هذه الأوضاع.. إلى أين تسير هذه الثورات؟ وأي أشكال من الحكم ستكون؟ أنا أرشح أنه من الطبيعي أن تقع هذه التوترات في هذه الفترة لأننا نحن الآن بصدد صياغة أنظمة مدنية ديمقراطية لم نعهدها في تاريخنا السابق. لذا العملية جديدة على المسيحي أو على المسلم في البلاد العربية، وأتصور أن هذا القلق سيزول بهدوء الأوضاع، لكن عامل الوقت سيكون هو الحاسم.

وما أتصوره أنا، أن أوضاع المسيحية في ظل التحولات الجديدة ستكون أفضل، لأن هذه التغيرات في البلدان العربية تبشر بأنظمة ديمقراطية ينعم فيها المسلم والمسيحي على حد السواء. وما ألمسه أيضا، هو أن الفكر الإسلامي طرأت عليه تغيّرات، أي أن ما كان يُسمّى بأهل الذمة أو دار الحرب أصبحت رؤى ملغية من التصورات الدينية الكبرى في البلاد العربية. صحيح، هناك بعض الأحزاب ما زالت تقول بهذه الرؤى، لكن المكون الرئيسي للحركات الإسلامية تجاوز هذه المفاهيم إلى المناداة بالتساوي في المواطنة بين كافة الشرائح في مجتمعات البلدان العربية.

في ظل تنامي أعداد المسلمين المقيمين بشكل دائم في البلدان الأوروبية وفي الغرب عموما، وفي ظل تفاقم مشاعر الكراهية والرفض للأجانب عموما وللمسلمين خاصة بعد تفجيرات 11 سبتمبر وغيرها من الهجمات الإرهابية في لندن وإسبانيا، أي دور يمكن أن يلعبه البابا الجديد في نزع فتيل التوتر والمساعدة على تيسير سبل اندماج هذه الفئات الجديدة الوافدة على المجتمعات الغربية بشكل يُراعي الحقوق الإنسانية والكرامة البشرية؟

د. عز الدين عناية: في الحقيقة، للكنيسة دور كبير في توضيح الصورة أو في تنقية الأجواء في الغرب، هذا لا شك فيه، خصوصا وأننا كمهاجرين عرب أو كمواطنين أوروبيين (لأن العديد صاروا يحملون جنسيات البلدان الغربية هذه)، أمام خيارين: فإما أن نكون أوروبيين أو لا، ولكي يكون هؤلاء أوروبيين، لا بد كذلك من وعي الدول الأوروبية بمراعاة الخصوصيات الدينية والثقافية لهذه الشرائح الجديدة التي اندمجت أو هي في طريق الإندماج في أوروبا. دور الفاتيكان أو دور الكنيسة الكاثوليكية عامة دور أساسي في عملية الإندماج هذه، لأنني أقدر أنها أكثرُ دراية من غيرها من المؤسسات الدينية (وحتى من مؤسسات أخرى أكاديمية) بشؤون العالم الإسلامي، نظرا للكوادر العديدة التي تملكها الكنيسة والتي تلبي شؤون العالم الإسلامي.

الكنيسة لها دور أساسي في الغرب في تنقية هذه الأجواء، وأنا أرجّح أن الكنيسة مع البابا الجديد ستكون أكثر احتضانا للمسلمين الموجودين بين أحضانها في الغرب. ربما هنالك توترات حدثت في الفترة السابقة، لا أقول نشأت من الكنيسة أو أنشأتها الكنيسة، وإنما كانت هناك تيارات متطرفة في الغرب من اليمين خاصة، هي التي وتّرت هذه الأجواء ولكن الكنيسة لم تحاول أن توتّر الأجواء، وإنما على عكس  ذلك حاولت أن تهدّئ الأمور وأن تقرّب وجهات النظر بين العالم الإسلامي والغرب أو بين المُقيمين من العالم الإسلامي وبين الغرب.

المزيد

المزيد

ألـــفُ عام من الإستمرارية في خضم التغيير

تم نشر هذا المحتوى على وما يميّز انتخابات البابا ال 266 للكنيسة الكاثوليكية هذه المرة هي الفضائح التي تهزّ أركان الكنيسة الكاثوليكية منذ عدة سنوات، سواء تعلّق الأمر بقضايا الإستغلال الجنسي للقصر من طرف الكهنة، أو الصفقات المالية المبهمة والغامضة. لكن هذه المؤسسة أظهرت حتى الآن مقاومة كبيرة امام تقلبات التاريخ. swissinfo.ch : هل استقالة البابا بنيديكت السادس عشر، وانتخاب…

طالع المزيدألـــفُ عام من الإستمرارية في خضم التغيير

في عالم اليوم، تتعدد الملفات والقضايا التي تتقارب فيها وجهات النظر بين المسلمين والمسيحيين، مثل العائلة وحماية البيئة ووقف سباق التسلح والإنتشار النووي وغيرها. هل يمكن برأيك أن تتبلور أجندة مشتركة بين الطرفين تجاه أبرز قضايا العصر في عهد البابا الجديد؟

د. عز الدين عناية: في الحقيقة هذه من الأشياء الملحة والضرورية. والنقاش والحوار بشأن هذه المشاكل لا بد أن يتكثف بين الكنيسة الكاثوليكية وبين المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، سواء كانت مؤسسات أكاديمية أم لا، كالأزهر والزيتونة والنجف الأشرف والقرويين وغيرها. لا بد من التكاتف لمحاولة خلق رؤى مُوحّـدة بين هذه الأديان الثلاثة خاصة (اليهودية والمسيحية والإسلام) لخلق على الأقل توجّهات تنادي بقيم أخلاقية تشترك فيها هذه الأديان وتحاول على أساسها أن تتقدم لحلّ العديد من المشاكل (سواء كانت المشاكل البيئية التي أصبحت اليوم تهدد البشرية أو مسائل أخرى تتعلق بمشاكل ترتبط بتغيرات داخل الأسرة أو في شكلها كالزواج المثلي وغيره).

لا بد من أن تكون لهذه الأديان رؤى موحدة أمام العالم اليوم، وأظن أنها مشاكل تمسّ الجميع وهي قادرة على أن توحّد هذه الأديان لطرح أجندات واقعية لأن الإنفراد الذي ساد سابقا لمعالجة هذه المشاكل بين كل دين على حدة أصبح انفرادا مُضرا لهذه الأديان. لذلك أتصور أن العلاقة بين الأديان الثلاثة ستكون أفضل من ناحية التنسيق بينها لرفع التحديات التي أصبحت تواجه البشرية اليوم.

من مواليد 1966 بسوسة (تونس)

أستاذ يدرس حاليا بجامعة لاسابيينسا في روما وفي معهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة نابولي (إيطاليا).

باحث ومترجم نشر عديد الأعمال منها: العقل الإسلامي عوائق التحرر وتحديات الانبعاث، دار الطليعة بيروت 2011…  والإستهواد العربي في مقاربة التراث العبري، منشورات الجمل ألمانيا، 2006.

له عديد الترجمات منها: علم الأديان لميشال مسلان، ترجمة من الفرنسية، المركز الثقافي العربي، بيروت 2009… علم الاجتماع الديني: إنزو باتشي وسابينو أكْوافيفا، ترجمة من الإيطالية، كلمة، أبو ظبي 2011… والإسلام الإيطالي، رحلة في وقائع الديانة الثانية: ستيفانو أليافي، ترجمة من الإيطالية، كلمة، أبو ظبي 2010.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية