الوجهُ الآخرُ لهنري دونان… رحالةٌ وكاتبٌ مفتون بالغرب الاسلامي
عُرف المثقف الإنسانوي ومؤسس منظمة الصليب الأحمر الدولي هنري دونان (1828-1910) بمآثره في مجال الانقاذ وحماية الأرواح البشرية، ما جعله أول من حصل على جائزة نوبل للسلام في 1901، لكن الندوة التي أقيمت أخيرا في تونس حول سيرة الرجل وأعماله أماطت اللثام عن أبعاد جديدة وغير معروفة في مساره، كمستشرق ورحالة ومناصر للإصلاحات في الغرب الاسلامي، وفي مقدمتها إلغاء الرق.
الندوة أقامتها المكتبة الوطنية التونسية يوم 20 ديسمبر 2016 بالإشتراك مع الهلال الأحمر التونسي (في الذكرى الستين لتأسيسه) وبالتعاون مع جمعية هنري دونانرابط خارجي السويسرية والأرشيف الوطني التونسي، وكان عنوانها “هنري دونان وإلغاء الرق في تونس سنة 1846”. وعزا الدكتور الطاهر الشنيتي، الأمين العام للهلال الأحمر التونسي ومنشط الندوة الأستاذ محمد بن أحمد اختيار هذا التاريخ إلى تزامنه مع الذكرى 170 لتحرير العبيد في تونس.
سنة محورية
شكلت سنة 1857- 1858 منعطفا في حياة هنري دونان إذ مهدت لتبلور أهم المحطات في مسيرته وهي:
إصدار كتابه عن تونس في 1857
حصوله على الجنسية الفرنسية في 1859
مقابلته مع نابليون بونابرت الثالث في 1859
تأسيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر في 1863
حصوله على جائزة نوبل للسلام سنة 1901
رجل أعمال فاشل
وكشفت الأوراق العلمية الأربع التي قُدمت في الندوة أن دونان سافر إلى الجزائر بوصفه رجل أعمال سنة 1853 آملا في إقامة مشروع زراعي وصناعي (مطحنة حبوب) في ضاحية مدينة سطيف، ولم يتعدَ سنُهُ آنذاك أربعة وعشرين عاما. إلا أن المستوطنين الفرنسيين عرقلوه ورفضوا منحه ترخيصا بسبب انتمائه إلى جنسية أخرى ومذهب ديني مختلف (كان بروتستانتيا إصلاحيا أو كالفينيا Calviniste)، فذاق مبكرا سوء المعاملة والتمييز، وهو ما عبر عنه بعبارات صريحة في رسائله، فتوجه إلى تونس وأقام فيها ستة أشهر بين 1856-1857، لدراسة إمكانات إقامة مشروعه فيها على الأرجح.
وقد أعجب بانفتاح البلد الذي كانت تتعايش في مدنه الساحلية أقليات عرقية ودينية آتية من الحوض المتوسطي، مثل الطليان والمالطيين والأندلسيين مسلمين ويهودا المطرودين من اسبانيا. إلا أن ما أثار إعجابه بتونس أكثر من سواه، هو قرار المشير أحمد باشا باي في 1846 سن مرسوم يُلغي الرق.
ورأى الإعلامي حاتم بوريال أن جذور الدعوة السلمية المسيحية Le pacifisme chrétien التي كان دونان من روادها “بدأت تتبلور خلال إقامته في تونس، باعتباره رجل عقيدة كان مولعا بزرع السلام في الأرض المُخضبة بالدماء” كما قال. وأوضح أن المبادئ الانسانية التي دافع عنها دونان هي التي سنقرأها لاحقا في كتابات روني ديمون René Dumontوإيمي سيزير Aimé Césaire وفرانز فانون Franz fanon وبول أبيا Paul Appia والد لويس أبيا أحد مؤسسي الصليب الأحمر.
أما روجي دوران Roger Durand رئيس “جمعية هنري دونان” الآتي إلى تونس من جنيف، فأوضح أن الباي (الملك) منح دونان وسام “نيشان الافتخار” مكافأة له على تأليف كتاب Notice sur la régence de Tunis (وصفُ إيالة تونس) الصادر في جنيف في 1857، لكننا لا نعرف من أين أو ممن استقى المؤلف المعلومات التي أتاحت له وضع هذا التأليف.
صورة رومانسية
ويُعتبر الكتاب الذي قدم وصفا إيجابيا للمجتمع والدولة على السواء من باكورات الكتابات الأنثروبولوجية، فضلا عن كونه فتح بابا واسعا في علم الأثنوغرافيا مثلما قال دوران. وقدم الكتاب أيضا صورة عن نظام الحكم والاقتصاد والعادات الاجتماعية، كما تطرق إلى الجانب الديني، إذ اعتمد على مصادر لا نعرفها للحديث عن القرآن والرسول، وإن تضمنت بعض الأخطاء أحيانا، التي عزاها المتحدثون في الندوة إلى المصادر الغربية التي اعتمد عليها، ومن بينها كتاب الفرنسي شاتوبريان عن تونس، الذي زارها قبله.
وتبدو تونس في مرآة دونان رومانسية بحسب تعبير الصحافي زياد كريشان، فهي جميلة وراقية في موسيقاها وهندستها ونظافتها حتى أنك تحلم بالعيش فيها غير أنه يُقسم سكانها إلى أعراب Arabes ويقصد بهم البدو bédouins وعرب Maures ويقصد بهم الحضريين citadins.
كما مدح في الكتاب أحمد باي واصفا إياه بالمصلح باعتباره مؤسس المدرسة الحربية Polytechnique الأولى في العالم العربي، ونعته بالكريم لأنه قدم مساعدة بثلاثين الف فرنك فرنسي لمساعدة ضحايا الفيضانات في فرنسا، وبمُحرِر العبيد لأنه سبق أمريكا وفرنسا في إلغاء الرق.
موقفٌ متميزٌ من الاسلام
ويُعتبر موقف دونان من الاسلام مُتميزا ومُتقدما قياسا على المواقف الدونية المنتشرة في الغرب اليوم، فنظرته بعيدة عن العداء والازدراء، إذ هو يرى فيه مستوى من الروحانية أعلى مما في المسيحية، ويقول إن العودة إلى الأوضاع التي كانت سائدة في الجاهلية تُبيِنُ أن الاسلام جاء مُخلصا من تلك المصائب، وهو دين يعترف بالرسل وبالدين المسيحي. كما اعتبر أن وضع العبيد في بلاد الإسلام، وخاصة تونس وتركيا والمغرب، قبل إلغاء الرق كان أفضل بكثير من وضعهم المُهين في أمريكا، وعزا الاختلاف في المعاملة إلى سماحة الاسلام، واستدل بأقوال بعض العلماء في وجوب حسن معاملة العبيد، لكن تلك الأقوال هي في الواقع أحاديث نبوية.
وأحبَ دونان أيضا اللغة العربية وكان مفتونا بجمال حروفها وخطوطها. بهذا المعنى كانت نظرته للإسلام منسجمة ومتسقة مع رؤيته الاصلاحية للمسيحية أيضا. وقد استحسن تأييد علماء المالكية والحنفية في تونس، ومن بينهم الشيخ ابراهيم الرياحي، لقرار عتق العبيد الذي تُوِج في عام 1846 لكن بدأه أحمد باي بدأه بالتدريج منذ 1841.
“نيشان الإفتخار”
بعدما تلقى ملك تونس محمد الصادق باي نسخة من كتاب هنري دونان “وصف إيالة تونس” سنة 1860 أرسل لمؤلفه رسالة هذا نصها:
“من عبد الله سبحانه المُتوكل عليه المُفوض جميع الأمور إليه المشير محمد الصادق باشا باي صاحب المملكة التونسية، إلى المرعي المحترم الكُنت هنري دونان الفرنساوي، أما بعد فإننا بمقتضى مطلب وزيرنا الأكبر ووزير الأمور الخارجية لما لكم من الشأن، ألبسناكم هذا النيشان (الوسام) المُطرَز باسمنا وهو من الصنف الثالث، وكُتب في 5 ذي الحجة الحرام سنة 1276 ست وسبعين ومايتين (كذا) وألف”.
طريق مُخضبٌ بالدماء
ألف دونان عدة كتب في حياته أحدها رحلته هذه إلى تونس والثاني هو “جذور الصليب الأحمر الدولي” والثالث هو رسائل إلى ج ج وسارة بوركارت Lettres d’H. Dunant à J.J. et à Sara Bourcart، أما الأهم فهو “تُذكار سولفيرينو”، وهي المعركة التي هزت كيانه من هول الخسائر البشرية التي ترتبت عليها (1859)، والتي أقنعته بتأسيس الصليب الأحمر الدولي .
فبعد عودته من تونس بسنتين توجه دونان إلى سولفيرينو لمقابلة نابليون الثالث، الذي كان يقود القوات الفرنسية. وفي الطريق إليه اضطر إلى أن يعبُر ميدان المعركة المليء بالجرحى وجثث القتلى، إذ سقط في تلك الحرب 38 ألفا بين قتيل وجريح، من دون توافر أية وسيلة للإنقاذ أو الدفاع المدني.
ويعتبر روجي دوران رئيس “جمعية هنري دونان” أن هذا الأخير تأثر بالمناخ الثقافي والديني في جمهورية جنيف التي كانت توجد فيها حركة نشطة لجمع التبرعات، فمدينة جنيف كانت تلتفتُ إلى فرنسا التي تربطها بها حدود تبلغ 450 كيلومترا بينما لا تتجاوز حدودها مع سويسرا 50 كيلومترا. وأشار في هذا السياق إلى تأثير فيلسوف الأنوار جان جاك روسو المقيم في جنيف وجان جاك ميسلون الذي أسس أول جمعية تدعو للسلام وإلغاء الرق، ودافيد دونان عم هنري، وهو صاحب مكتبة، وكان يؤكد على مسؤولية المؤمن إزاء مجتمعه، مما يجعل الرفق بالإنسان، بمن في ذلك العبيد، واجبا أخلاقيا ودينيا.
وقد كتب دونان إلى الرئيس أبراهام لينكولن يحُثه على إلغاء الرق وتحرير العبيد، لكنه ارتحل بعد ذلك من دائرة مكافحة الرق إلى مجال أوسع هو مكافحة الحروب، الذي توَجه بالحصول على جائزة نوبل للسلام.
دونان الجغرافي
وربط المؤرخ عبد الحميد الأرقش بين تأليف دونان لكتاب “وصفُ إيالة تونس” والاقبال الكبير في تلك الفترة على الاهتمام بعلم الجغرافيا بوصفه مفتاحا للسيطرة على المستعمرات ولمعرفة مواقع الثروات الطبيعية. واعتمدت الدول الاستعمارية كثيرا في هذا المجال على كتابات الرحالة والمبشرين لتجميع المعلومات عن البلدان المنوي احتلالها. وقد كان دونان مؤسسا للجمعية الجغرافية السويسرية وانتزع بذلك الاعتراف به في الأوساط العلمية.
أما الكاتب والناقد الفني حاتم بوريال فقرأ مسيرة دونان عبر لوحة “الزارع” الشهيرة للفنان فان غوغ، حيث يقوم بإلقاء البذور في الأرض، مُعتبرا أن دونان بذر مبادئ التآزر والنجدة والمحبة بعد الفظاعات التي شاهدها في ميدان الحرب بسولفيرينو، وأثمرت بذوره حركة إنسانية دولية ما انفكت تتوسع وتتجذر.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.