مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

باحثة سويسرية في جامعة سعودية.. “أجواء عصرية في قلب صحراء محافظة”

صور التقطتها الباحثة صابرينا ميتزغير في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في جدة swissinfo.ch

في ختام إقامة دامت ثلاثة شهور، تقدم الباحثة السويسرية صابرينا ميتزغير، بعض ملامح تجربتها مع العباءة والحياة اليومية في أجواء المملكة العربية السعودية حيث تعرفت على مكان لم تكن تعلم عنه إلا القليل وأجواء تشكل النقيض لما عايشته في حياتها من قبل.

في الجامعة، درست ميتزغير العلوم الطبيعية وخلال إعدادها لأطروحة الدكتوراة في قسم الجيوفيزياء التابع للمعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ، شاءت الظروف أن ينتقل البروفسور الايسلندي المشرف على أطروحتها في المعهد السويسري الشهير ليعمل كمحاضر وباحث في جامعة الملك عبد الله بن عبد العزيز “كاوست” التي افتتحت قبل أقل من عام في مدينة جدة المطلة على البحر الأحمر. وبذلك سنحت لها الفرصة لزيارة الجامعة السعودية الجديدة والإقامة فيها بدعوة من أستاذها لمتابعة العمل معه على رسالة الدكتوراة.

في هذا الصرح العلمي الذي يبدو كالسراب في الصحراء والذي تبرق فيه لمسات الترف والرفاهية، يدور جدل مثير بين عالمين متناقضين: مركز علمي وبحثي حديث جدا في صحراء خالية مقفرة، ومظاهر وأجواء عصرية وسط محيط محافظ إلى أبعد حد. أما بالنسبة لميتزغير فالتناقض يأخذ أبعادا أخرى تتجلى في شكل ونمط وتفاصيل الحياة بالمقارنة مع ما اعتادت عليه في عاصمة المال والأعمال السويسرية.

الحرارة هنا تسجل 34 درجة مائوية، السماء زرقاء صافية وعلى امتداد شاطئ البحر الأحمر تتماوج خضرة أشجار النخيل مع المياه المتلألئة. في المقابل، تبلغ المسافة التي تفصلها عن زيورخ 2500 كيلومترا ويصل اختلاف درجات الحرارة ثلاثين درجة مائوية مثلما يظهر على شاشة الحاسوب الأحدث المتوفر في الجامعة، الذي تبدو عليه مدينتها السويسرية باردة ومغطاة بطبقة كثيفة من الغيوم.

عالم مثير.. وغير سهل

بالإضافة إلى الإثارة التي غلفت هذه الزيارة الى السعودية، كان الشعور بالفخر مرافقا أيضا للسيدة ميتزغير كونها حصلت على فرصة السفر إلى شبه الجزيرة العربية والتعرف على ثقافة جديدة وتقاليد مختلفة كانت قد شكلت عنها فكرة بسيطة عبر ما وصلها من وسائل الإعلام وما قرأت في الكتب.

وتعتبر الباحثة السويسرية أن الإطلاع على مشروع جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا الرائد والتعرف على نخبة من الباحثين والمعيدين المتخصصين “فرصة نادرة”. فهذه الجامعة التي فتحت أبوابها في أيلول 2009 بوجه الطلاب تضم خليطا شديد التنوع من الباحثين الدوليين والمحليين والدارسين ما يعطي لمسة من حياة متعددة الثقافات يسودها الإحترام المتبادل. إذ تعتبر “كاوست” (كما يُرمز إلى الجامعة بالإنجليزية) من أحدث الجامعات وأول جامعة مختلطة في المملكة كما أن الأجواء السائدة داخلها مختلفة بل مغايرة لإيقاع الحياة خارج أسوارها.

تقول السيدة ميتزغر: “التحرك خارج سور الجامعة ليس سهلا بالنسبة للأجانب ولكنه أصعب لي كامرأة. بالرغم من ذلك كانت رحلات اكتشاف مدينة “جدة” والمنطقة المحيطة بها مليئة بالإثارة والمتعة. عطلة نهاية الأسبوع خُصصت للتجوال في الجبال والحقول المتشكلة من الحمم البركانية غرب المدينة، وكذلك لرحلات الغوص بين الشعاب المرجانية في البحر الأحمر وزيارة القبور النبطية والمدينة الوردية (الطائف)”.

جامعة دولية

داخل أسوار “كاوست” للعلوم والتكنولوجيا القريبة من ميناء جدة تتعدد الجنسيات والثقافات، ويبلغ عدد الدارسين فيها في الوقت الحاضر حوالي ثلاثمائة طالبة وطالب يمثل لمواطنون السعوديون ثلاثين في المائة منهم فقط، بينما يشكل الطلبة القادمون من المكسيك وأمريكا والصين الجزء الأكبر من الثلثين المتبقيين بالإضافة إلى جنسيات أخرى.

وتقول صابرينا ميتزغر: “بحكم أن الهدف من وجودي في هذه الجامعة كان متابعة العمل على أطروحة الدكتوراة مع البروفسور المشرف عليها، فقد كانت أكثر تعاملاتي مع العاملين في الإدارة والبحث العلمي” الذين قدموا بدورهم من بلدان مختلفة من شمال وجنوب أمريكا ومن أوروبا وجنوب أفريقيا وأستراليا.

وتضيف ميتزغر “بالنظر إلى أن أغلبنا من الأجانب، فلم تكن سويسرا في هذه الأجواء محور نقاش وإنما هذا البلد المضيف”، لذلك “انحصر موضوع حظر المآذن والبرقع المثار منذ فترة في سويسرا في نقاش محدود مع بعض الأوروبيين”، وفيما يتعلق بسويسرا “كانت تطرح علي بعض الأسئلة حول تعدد اللغات واللهجات والنظام السياسي والطبيعة”.

ما وراء البرقع

الإختلاط مع أهل البلد بشكل عام كان “قليلا وسطحيا مع الأسف”، كما أن فرص التواصل مع النساء السعوديات بشكل عميق كانت محدودة أيضا، لكن شعورا بعدم الراحة والاطمئنان كان ينتاب صابرينا ميتزغر عند النظر إلى أي سيدة تجلس قبالتها وتحجب وجهها بالنقاب حيث تقول: “عند النظر لامرأة تغطي وجهها بالنقاب كنت أشعر بالارتباك وعدم الراحة لعدم رؤية ملامحها وبالتالي صعوبة معرفة ماهية شعورها. هل هي سعيدة أم حزينة؟ غاضبة أم متوترة أم مرتبكة؟”، لكن أكثر ما لفت نظر صابرينا وأدهشها هو أناقة تلك السيدات المستترة تحت العباءة وعيونهن الخلابة التي لم تنفك عن التحديق فيها ببلاهة واندهاش. أما خلف جدران البيوت فتسقط العباءة وتبرز بعض مظاهر حرية نسبية تبحث عن مشروعيتها. هذا الرداء الأسود الذي ارتدته في فترة إقامتها في السعودية كان بالنسبة لها عمليا ومريحا بعض الشيء، فلم تعد تنشغل بماذا سترتدي تحت العباءة وأصبح الإستعداد للخروج من البيت أسرع من ذي قبل.

الظاهرة الأخرى التي لفتت نظر الباحثة الجامعية السويسرية هو أن حياة الناس وعلاقاتهم “مختفية أيضا داخل أسوار بيوتهم”، فلا وجود لحركة حياة صاخبة أو حيوية كبيرة في الأماكن العامة، أما كرم الضيافة والتفاني في العطاء وتقديم المساعدة فهي “صفات ميزت الناس هناك” وأثارت إعجابها بينما يُعاملُ الغريب في سويسرا “ببرود وحيادية”، على حد قولها.

أمنية.. لم تتحقق في جدة

تقول صابرينا: “بشكل عام ومن خلال تقييمي للتجربة الآن كانت الصعوبات التي واجهتها خلال إقامتي في المملكة أقل مما توقعت”، وتضيف أن “التجوال واكتشاف المنطقة كان يتم دائما ضمن مجموعة. لم يكن بإمكاني التجول بمفردي فمجرد كوني امرأة أجنبية كان ملفتا للنظر. التسوق كان يتم أيضا ضمن مجموعة”. صحيح أن المواصلات من وإلى وسط المدينة مؤمنة ومريحة، لكنها تمنت لو استطاعت أن تجوب المدينة على متن دراجتها الهوائية كما اعتادت في زيورخ أو على الأقل قيادة السيارة بنفسها.

القيود التي تشل حركة النساء هناك، كانت محدودة بالنسبة لميتزغير السويسرية. فقد قضت معظم وقتها في الحرم الجامعي الذي تسوده غالبا القوانين وأساليب التعامل الغربية، لكن رغم ذلك دار نقاش طويل حول شروط الإختلاط بين الجنسين في برك السباحة مثلا.

إحدى الصعوبات التي واجهت صابرينا كانت اللغة التي شكلت في معظم الأحيان عائقا حقيقيا للتواصل مع أهل البلد. فغالبا ما يصادف المرء أشخاصا كالسائق والبائع وموظفي الفندق الذين لا يتحدثون الانجليزية وعليها التعامل معهم رغم تواضع مستواها في استخدام مفردات وتعابير اللغة العربية.

محاولات التأقلم

الاختلافات الثقافية الاجتماعية شكلت بالطبع مشكلة كما أن محاولات صابرينا للتأقلم مع الأجواء هناك وتجنب ارتكاب الأخطاء كانت متعثرة، بل يمكن القول أن قلة معرفتها بالثقافة العربية ومحدودية اطلاعها عليها جعلت من تحقيق ذلك أمرا صعبا بل واجهتها بعض العثرات أحيانا.

تقول صابرينا: “العباءة مثلا كانت قصيرة وتكشف عن قدمي وكنت أتركها تنزلق عن رأسي كلما سنحت لي الفرصة، ولحسن الحظ لم أصادف أحد المطوعين. كما أنني كنت غالبا برفقة رجال لا تربطني بهم صلة قرابة وهو أمر غير محبذ، لكنني كنت مضطرة لذلك بحكم كوني وحيدة هناك وبقائي في السكن فكرة لم أكن أحبذها”.

إحدى الصعوبات أيضا تمثلت في التعامل مع المواطنين خارج الحرم الجامعي واضطرارها – بحكم أنها امرأة – للبقاء على الدوام في خلفية الصورة وعلى الهامش لأن “الأسبقية للرجال” ، فالقرارات هناك من صنع الرجال. ومع أن مسائل من قبيل اختيار مكان الجلوس في المطعم أو تسجيل الدخول إلى الفندق أمور اعتادت على القيام بها بنفسها وبشكل طبيعي في سويسرا لكنها ليست مشروعة لامرأة في المجتمع السعودي. وفي الواقع، تنظر صابرينا بعين من النقد إلى هذه المسألة وتقول: “مع كل احترامي وتقديري للثقافة السائدة هناك، لكنني كامرأة نشأت في مجتمع غربي منفتح ومتحرر تعودت فيه أخذ قراراتي بنفسي لا يمكنني قبول ذلك. كما لا يمكنني فهم عدم المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة والفصل بين الجنسين المتبع في تلك المنطقة”.

خطوة على الطريق

رغم احتدام الجدل في السعودية بين رجال الدين المتشددين الذين يعارضون بصرامة اختلاط الجنسين في الأماكن العامة والدعوة إلى المساواة بين الرجل والمرأة وبين أنصار التيار الأكثر تحررا الذين يدعون إلى تخفيف نسبي للقيود، رسمت جامعة الملك عبد الله طريقها للإنفتاح في ممارسة سياسة الاختلاط، ووضعت لنفسها أهدافا طموحة. دوليا وعلى الصعيد العلمي بدأ الانفتاح ايضا على ما هو حديث فضلا عن التعاون مع الجامعات الأخرى واستقطاب الكفاءات. وفي هذا الصدد، تشير ميتزغير إلى أنه “الآن مثلا يعمل في “كاوست” بروفسوران ومُعدان للدكتوراة كانوا سابقا في قسم الجيوفيزياء في المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ”، وهي تعتقد بأن وجودهم هناك سيشكل فرصة لتوطيد علاقات التعاون بين جامعة الملك عبد الله والمعهد السويسري ذي الشهرة العالمية.

إضافة إلى ذلك يمكن أن يكون التعاون بين هذه الجامعة والمعهد على صعيد الطلبة، فطلبة الماجستير في جامعة “كاوست” يتوجب عليهم القيام بتدريب عملي وقد تكون إحدى الجامعات السويسرية المكان المناسب لذلك. كذلك يمكن عمليا لأي طالب في معهد زيورخ الإلتحاق بجامعة الملك عبد الله بعد الحصول على البكالوريوس لتحصيل شهادة الماجستير هناك.

وفيما يتساءل البعض عما إذا كان بالإمكان اعتبار جامعة الملك عبد الله – أول جامعة يُسمح فيها باختلاط الذكور والإناث في المملكة العربية السعودية – محاولة للتغيير على الصعيد الإجتماعي في البلد المعروف بمحافظته الشديدة، ترى ميتزغير أنه “أمر سيتضح مع مرور الوقت” مشيرة إلى أن هذه الجامعة تسعى في سياستها الجديدة تجاه المجتمع السعودي إلى تحقيق توازن بين المعتدلين والمحافظين محاولة بذلك تغيير الأوضاع بشكل تدريجي وكسب تأييد المواطنين لذلك.

في المقابل، يذهب آخرون إلى أن المسألة برمتها لا تزيد عن “مجرد قطرة ماء على حجر ساخن” لكن إثارة النقاش حول مواضيع اجتماعية دقيقة في المملكة كالإختلاط بين الجنسين ووضع بعض التقاليد القديمة على محك الجدل هو شيء بحد ذاته مهم ومطلوب.

تهاني سليم – زيورخ – swissinfo.ch

درست صابرينا ميتزغير العلوم الطبيعية في المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ وبعد التخرج عملت لمدة عام في مركز رصد الزلازل السويسري، ثم عادت الى معهدها الأصلي للتحضير لأطروحة الدكتوراة في قسم الجيوفيزياء.

وفي الرسالة التي تعدها تبحث ميتزغير مدى خطورة الانكسارات التي قد تتشكل من تقارب اللوحان التكتونيان الأمريكي والاوراسي وسط المحيط الاطلسي.

جامعة الملك عبدالله التي قضت فيها ميتزغر ثلاثة أشهر أسست بتمويل ضخم من العاهل السعودي لتكون جامعة عالمية للابحاث على مستوى الدراسات العليا.

يشغل الحرم الجامعي مساحة تبلغ أكثر من 36 مليون متر مربع ويقع في ثول على ساحل البحر الاحمر ويضم محمية بحرية ومرافق أبحاث تدور حول منظومة بيئية طبيعية من الشعاب المرجانية الفريدة.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية