“بدأ الإحتفال، لكنها فرحة ممزوجة بطعم المرارة”
اعتبارا من 12 يونيو 2014، يتسمّر مئات الملايين من المشاهدين أمام شاشات التلفزيون في شتى أنحاء العالم ليهتفوا لكلّ روعة أداء تصدر عن أساطين الملاعب الجُدد، في حين خبا سحر نهائيات كأس العالم بالنسبة لغالبية السكان في البرازيل.
وكلما حان موعد انطلاق حدث رياضي كبير، استذكر الناس العبارة الشهيرة للشاعر الساخر جوفينال عن الشعب الذي “يريد شيئين فقط بشغف: الخبز وألعاب السيرك”، واليوم لا تبدو طريقة تفكير القيادات العالمية لكرة القدم لاحقا مختلفة جدا عن الشاعر اللاتيني.
في بداية شهر مايو 2014، صرّح ميشيل بلاتيني، رئيس الإتحاد الأوروبي لكرة القدم قائلا: “تمتّعوا بنهائيات كأس العالم وتوقفوا عن الإحتجاج ولو لشهر واحد”. وقبل عام، وبمناسبة الاحتجاجات التي هزّت الميادين في البرازيل خلال كأس القارّات، صرّح جوزيف بلاتر، رئيس الإتحاد الدولي لكرة القدم – الفيفا، قائلا: “كرة القدم أهَم من عدم رضا الناس”، ولا يجوز أن “تُستغل في المناكفات”، على حد قوله.
ولا يبدو أن معظم البرازيليين مكتفون بالخبز والسيرك. فالتكاليف الباهِظة لكأس العالم – التي ارتفعت من 6 مليارات فرنك سويسري، حسب ما كان مقررا في البداية، إلى 13,5 مليار فرنك سويسري – أجّجت غليانا في البلاد، التي لا تزال الفجْوة فيها بين الأغنياء والفقراء هائِلة، على الرغم من التقدّم الكبير الذي شهِدته السنوات الأخيرة. إذ يستحوِذ أغنى 10٪ من السكان على أكثر من 40٪ من الدّخل (تقدر هذه النسبة بـ 19% في سويسرا)، بينما يمتلِك أفقر 10٪ من السكان، أقل من 1٪ من الدّخل (تقدر هذه النسبة بـ 7.5% في سويسرا).
فرصة سانحة
في السياق، أشار سيرجيو حداد، الخبير الإقتصادي ومدير منظمة “أساو ايدوكاتيفا” غير الحكومية أو “العمل التربوي”، إلى أن كأس العالم يجُرّ معه، بشكل مباشر أو غير مباشر، جملة من الإحتجاجات، لاسيما وسط الدّاعين لبطولة العالم لكرة القدم في الشوارع، التي ستُنظم في مدينة ساو باولو بالتزامن مع انعقاد نهائيات بطولة كأس العالم.
ويضيف حداد: “هناك تبِعات كثيرة. فهناك انتهاكات لحقوق الإنسان وحقوق العمال وعمليات إخلاء قسري وإملاءات القانون العام لكأس العالم [التحرير: المعايير التي يُمليها الاتفاق مع الاتحاد الدولي “الفيفا” والتي يبدأ العمل بها خلال الأدوار النهائية لكأس العالم]، ثم هناك مجموعة من التحركات الجماهيرية المرتبِطة بالكأس بشكل غير مباشر، كالإضرابات النقابية والمظاهرات من أجل الصحة والتعليم والمياه… والتي تَعتبِر الحدث فُرصتها السانحة”.
“ولنتخيّل مثلا إضراب وسائل النقل العام خلال فترة البطولة”، على حدّ قول حداد، الذي قدِم إلى سويسرا في شهر مايو 2014 لمدّة أسبوعين في إطار حملة توعِية بعنوان: “البرازيل، أهداف ضدّ الظلم”، التي تنظمها المنظمة السويسرية غير الحكومية “E- CHANGER”، التي تقوم بإرسال متطوّعين إلى عدد من بلدان الجنوب.
وخلال لقائنا معه بصحبة عدد من الصحفيين في مقر المنظمة بمدينة فريبورغ، أثار حداد نقطة ثالثة على درجة من الأهمية، وهي أن البرازيل انطلقت فيها بعدُ حملة الإنتخابات الرئاسية المُزمَع إجراؤها في شهر أكتوبر 2014، ووِفقا للبعض، فإن الرئيسة الحالية للبلاد ديلما روسيف، تعتبر أن “نهائيات كأس العالم رِهان الفوز”، وِفق تعبير صحيفة فاينانشال تايمز اللندنية.
“لا يمكن لنا أن نتكلّم عن إرث أثناء كأس العالم ولا مباشرة بعدَه، ولا يمكن أن تتكشّف لنا حقيقة الإرث إلا بعد سنوات. وهناك إرث بمستويات مختلفة، المستوى الأول يتعلّق بالبنية التحتية لكرة القدم، حيث سيكون لدى البرازيل ملاعب ونوادي تدريب على مستوى عالٍ. [ … ]
كذلك، منذ اللحظة الأولى من تبنّي استضافة كأس العالم وخلال فترة انعِقاده، يحدُث تطوير للمدن، وتشهد قطاعات النقل الحضري والإسكان والطرق تقدّما،مثلما شهدت بعض المدن في جنوب إفريقيا، تغيّرا في حياة سكانها من واقع أنها استثمرت الكثير من المال لتغيير هياكلها.
“عندما يقول الناس إن أموال كأس العالم كان بالإمكان استخدامها في مشاريع أخرى، فهذا غير صحيح. لا يوجد بلد يترشّح لاستضافة المونديال رغما عنه، والأكيد أن في ذلك مصلحته، والكأس وسيلة لتسريع جملة من الإستثمارات في البلاد. من السهل توجيه الإنتقاد إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم – الفيفا، ومن السّهل استغلال كأس القارات أو كأس العالم لتنظيم المظاهرات، لكن، إذا أراد أحد أن يُحمّل الفيفا مسؤولية ما يحدث في بلد ما، فإنه يكون قد أخطأ الهدف. إذا أبدى بلد نِيته بالترشّح لاستضافة نهائيات كأس العالم، فإنما يفعل ذلك ونصب عينيه أن يُحرِز تقدّما، لا أن يُحدث تدميرا”.
(مقتطف من مقابلة مع جيروم فالكي، الأمين العام للاتحاد الدولي لكرة القدم – الفيفا، نُشرت على موقع الفيفا يوم 12 مايو 2014).
”بهجة ناقصة”
“ما الذي سيحدُث خلال النهائيات؟ أعتقد أنها ستكون هناك احتجاجات، ولكني أشكّ بأن تصل إلى المستوى الذي وصلت إليه في العام الماضي. فمن ناحية، ازداد القمْع بشكل كبير، ومن ناحية أخرى، نشاهِد تجريم الحركة بالكامل من جانب العديد من وسائل الإعلام”، وِفق قول حداد. وللتذكير، سبق لمنظمة العفو الدولية أن وجهت أصابع الاتهام إلى عمليات القمْع، كما أطلقت عريضة ضدّ عنف الشرطة والقيود المفروضة على حرية التعبير.
“البهجة ناقصة”، مثلما يقول حداد، فقد تراجعت نسبة البرازيليين الرّاضين من 80٪ في عام 2007 (عندما أسند الإتحاد العالمي لكرة القدم – الفيفا إلى البرازيل تنظيم البطولة) إلى أقل من 50٪ حاليا، بل إن “الشعور السائد، هو لتبدأ المهرجانات. لكن، بشيء من المرارة”.
من جهتها، تقول سيليا آودريجي، مندوبة منظمة “E- Changer” في البرازيل: “لستُ متأكدة ما إذا كانت البلاد تعلم في عام 2007 ما الذي كان ينتظرها”، وتضيف: “فمونديال جنوب إفريقيا [لعام 2010] لم يكن قد نُظّم بعدُ، وفعلا، هو الذي كشف عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تصاحِب مثل تلك المناسبات، كطرْد سكان بعض الأحياء واشتراطات الإتحاد الدولي لكرة القدم – الفيفا”.
تراجع في حقوق العمال
رغم السنوات الضوْئية التي تفصِلنا عن الأرقام التي سجّلتها “معارك” بناء الملاعب في قطر (التي ستستضيف الأدوار النهائية لكأس العالم سنة 2022)، حيث قضى لحدّ الآن أكثر من 400 عامل نحبَهم، وِفقا لما صرّح به في بداية شهر أبريل 2014 بيير كوبنز، أحد نائبي رئيس الإتحاد الدولي لعمال البناء، وفي البرازيل أيضا، سُجِّلت حالات وفاة (تسعة لغاية الآن). وبحسب سيليا آودريجي: “تُمارَس ضغوط للإستعجال تُدفع فاتورتها من حقوق العمال، الذين يتطلّب منهم العمل لفترات إضافية طويلة، ونخشى من استمرار هذه الإنتكاسة بعد نهائيات كأس العالم”.
مندوبة منظمة “E- Changer” في البرازيل سلطت الضوء أيضا على تزايد العسكرة، خاصة في الأحياء الفقيرة، فضلا عن المخاوِف من الزيادة الهائلة في سوق الدّعارة. فهل يعني ذلك أنه لا يوجد ما يُمكن القيام به؟ أو قَـلّ ما يمكن عمله؟ هل لا يزال لم يحرز أي تقدّم بشأن البنية التحتية؟ يجيب سيرجيو حداد موضِّحا بأن البرازيل عالجت بفعالية الأزمة في عام 2008 عن طريق زيادة الإنفاق العام، وليس في إطار تدابير التكيّف الهيكلي مثلما حدث في أوروبا، ويقول: “كان لِزاما علينا أن نبنِي 12 ملعبا رياضيا، بحيث يُصبح بعضها، كما على سبيل المثال ملعب ماناوس، ‘فيلا أبيضا’، بدلا من أن نستثمر في أشياء أكثر أهمية؟”. من جهتها، لفتت سيليا آودريجي إلى أن “العديد من مشاريع البنية التحتية كانت مقرّرة ضمن خطط التنمية، وكان من المفروض تنفيذها”.
غير أن جيروم فالكي، الأمين العام للإتحاد الدولي لكرة القدم، قال في مقابلة نُشرت على موقع الفيفا: “عندما يقول بعض الناس إنه كان بالإمكان استخدام أموال نهائيات كأس العالم في مشاريع أخرى، فهذا غير صحيح، إذ لا يوجد بلد يترشّح لاستضافة كأس العالم رغْما عنه. إنها مصلحته. فكأس العالم وسيلة لتسريع جملة من الإستثمارات”، وأضاف فالكي: “لقد تحقق تقدم على مستوى حركة التنقل في المناطق الحضرية، فضلا عن الإسكان والطرق”.
الفيفا في بؤرة الإنتقاد
في واقع الأمر، هناك استِياء كبير منصبّ على الفيفا بالذّات، لأنها تُملي – مثلما حصل في بطولات العالم السابقة – جملة من الشروط، مثل تأمين مناطق حظر حول الملاعب ومنطقة ترفيهية للمشجّعين (Fan Zone)، لا يُمكن الدخول إليها بدون تذكرة ولا يُسمَح فيها بالبيع إلا لمنتجات الشركات أو الماركات الراعية للمونديال. وعقّب حداد قائلا: “ينص القانون البرازيلي على عدم السماح ببيع المشروبات الكحولية داخل الملاعب، لكن هذا القانون لا يُطبّق على بيع البيرة الراعية للكأس”.
لكن، ألا يُمكن القول أن الفيفا تحولت إلى مجرّد ‘كبش فداء’ إلى حدّ ما؟ فالتعليمات المتعلِّقة بالمساحات التي تُمنَح للدّاعمين، واضحة ومقررة منذ البداية، أما بالنسبة للملاعب، فإن “الفيفا تطلب كحدٍّ أدنى ثمانية ملاعب، والبرازيل هي التي قرّرت بناء 12 ملعبا”، وِفق ما أكّده جيروم فالكي. أما وزير الرياضة البرازيلي ألدو ريبيلو، فقد صرح لـ swissinfo.ch بأن “القرار ناجم عن الرغبة في إشراك البلد كله في هذا الحدث”.
“هذا صحيح إلى حدٍّ ما، فالتطلع إلى استضافة المونديال له مفعول شبيه بالسِّحر ويجعل الكثير من السياسيين يحلمون باستقبال بعض الفِرق الرياضية وأن يكون عندهم ملعبٌ جديد، وأن تُسلّط الأضواء على مدنهم”، كما أبان حداد، مضيفا “على أية حال، الفيفا من ناحية أخرى، هي قناة تصبّ في استراتيجية العواصم المالية الكبرى. فعندما عُهد إلى البرازيل تنظيم كأس العالم، إنما عُهد إلى بلد يملك المال وليس فيه رقابة اجتماعية، نفس الشيء ينطبق على جنوب إفريقيا وقطر وروسيا، كل شيء يُبنَى بقرار يأتي من فوق ومن دون أي مشاورة. أما في حالة دول مثل الولايات المتحدة، حيث لم يتم بناء أي ملعب جديد، ومثله فرنسا وألمانيا، كانت البنية التحتية موجودة وقائمة، فكانت المكاسب المادية المرجُوّة أقل بكثير. باختصار، القضية لا تعدو أن تكون كلها تِجارة طائلة، والكُرة والرياضة، تأتيان في المقام الثاني”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.