جسر “غولدن غيت” يقتَدي بِرِيادة برن في نَصب شبكات الإنتحار
يتميز جسر "غولدن غيت" المُعَلَّق في ولاية كاليفورنيا الأمريكية بهندسته المعمارية التي جعلته المَعلَم الأكثر شُهرة في مدينة سان فرانسيسكو وأحَدَ رموزها. ولكنه معروف أيضاً بِسِجِلّ قاتم لأنه البُنيان المُتَصَدِّر لحالات الانتحار في العالم. واليوم، تجتهد السلطات المسؤولة بِنَصب شباك أمان حديدية تحت الجِسر البرتقالي الشهير، مُستَنِدة في ذلك على نموذج أثبت نجاحه في العاصمة السويسرية برن.
أربع ثوان فقط، هو كل ما يتطلّبه الأمر. في العام الماضي وحده، لقِي 46 شخصا حتفهم إنتحاراً بالقفز من هذا الجسر، الذي يُعتبر مفخرة مدينة سان فرانسيسكو وسكّانها ومَقصد ملايين السياح سنوياً. ومنذ تدشين الجِسر في عام 1937، سُجِّلَت نحو 1,635 حالة إنتحار. وما يزيد الأمر سوءاً، هو شمول هذه الإحصاءات للأشخاص الذين يُشاهَدون وهُم يقفزون فقط، أو الذين يتِم العثور على أجسادهم الميتة.
البوابة الذهبية أو “غولدَن غيت” كما يسمّى بالإنجليزية، هو جسر معلَّق بطول 2.7 كلم، يمتد عبر مضيق “غولدَن غيت” الذي يشكل نقطة التقاء بين خليج سان فرانسيسكو والمحيط الهادي في كاليفورنيا. وقد إستغرق بناء الجسر أربعة أعوام، حيث إفتُتِح للمارة في 27 مايو 1937، تلاه الإفتتاح الرسمي للمركبات يوم 28 مايو.
يعبر الجسر يومياً 6,000 راكب دراجة، و120,000 سيارة وأكثر من 10,000 من السابلة.
يرتفع طريق جسر “غولدَن غَيت” بنحو 70 متراً عن سطح الماء. ويَرتَطم الشخص الذي يقفز من فوقه بالماء بعد نحو أربع ثوان فقط وبسرعة تقارب 120 كلم في الساعة. ويلاقي مُعظم المُقدِمين على الإنتحار حتفهم، نتيجة تأثير الإصطدام بالماء، ولا ينجو من الأثر الإبتدائي للصدمة سوى نحو 5%، ولكنهم يغرقون غالِباً بعد ذلك، أو يموتون نتيجة إنخفاض درجة حرارة أجسامهم في الماء البارد.
وصل العدد الرسمي للقتلى حتى شهر ديسمبر من عام 2013 إلى 1,653 شخصا. وكما يقول بول مولَّر من مؤسسة السكك الحديدية للجسر التي تهدف إلى وقف حالات الإنتحار من جسر “غولدَن غيت”، قد يكون هناك ما لا يقل عن 400 شخص آخر ممّن قفزوا ثم إنجرفوا إلى البحر ولم يُعثَر عليهم أبداً.
وفقا لدراسة نفّذها مكتب الطب الشرعي في مقاطعة مارين قبل 15 عاماً، تنتمي 90% من حالات الإنتحار إلى شمال كاليفورنيا، وتبلغ متوسط أعمار المُنتحرين 40 عاماً، 74% منهم من الرجال. وتشكل نسبة غير المتزوجين أو الذين لم يتزوجوا أبداً 56%، منهم 80% من البيض و80% مَن أصحاب المهن المُميزة، كما شكل الطلاب نسبة 8%.
اعتباراً من شهر يوليو 2013، لم ينجُ سوى 34 شخصاً بعد قفزهم. وكان هؤلاء الناجون يرتطمون بالماء بأقدامهم أولاً وبزاوية مُنخَفِضة، لكن هذا لم يمنع إصابتهم بكسور مُتعددة وجروح داخلية.
في تسعينيات القرن الماضي، تم تركيب أكثر من عشرة محطات هواتف صفراء للطوارئ ترتبط مباشرة بخط لتقديم الدعم النفسي لإنقاذ المُقدمين المُحتملين على الإنتحار. فضلاً عن ذلك، يجوب موظفون مختصون الجسر يومياً ذهاباً وإيابا في سيارات كهربائية صغيرة، لِضَبط أي شخص يحاول وضع حد لحياته.
وفي محاولة لتحسين هذا الوضع، والحيلولة دون قفز الأشخاص من جِسر “غولدَن غَيت”، وافقت السلطات المحلية المسؤولة عن النقل وإدارة الجسر يوم 27 يونيو 2014، على تغطية جزءٍ من تكاليف مشروع قيمته 76 مليون دولار (68 مليون فرنك سويسري)، يقضي بتعليق شِباك أمان حديدية تحت أرصفة جانبيْ الجسر بستّة أمتار. أما الكُلف المتبقية فسوف تُغطّى من قبل الحكومة الفدرالية لولاية كاليفورنيا، حَسبما أوضح دنيس موليغان، المدير التنفيذي لدائرة الطريق السريع والنقل في جسر غولدن غيت، (وهي شركة مساهمة عامة تأسست في 1923، في الوقت الذي كان فيه الجِسر مجرّد مشروع على وشك التنفيذ، تهتم بتوفير إدارة آمنة وسليمة، وإجراءات الصيانة والتحسينات للجسر، وتقديم خدمات النقل، فضلاً عن الموارد اللاّزمة لمُستخدمي الطريق السريع الذي يخترق الجسر). ومن المُقرّر أن يتم الإنتهاء من وضع هذه الشباك بحلول عام 2018.
وفي الواقع، كان قد تم تثبيت شباك أمان ضخمة بالفعل خلال الأعوام الأربعة التي شهدت بناء الجسر، بُغية إنقاذ مَن يسقط من العمّال. ويُعتَقَد أن هذه الشباك التي عُلِّقَت تحت الجسر بحوالي عشرة أمتار فوق سطح الماء، كانت السبب في إنقاذ حياة 19 شخصاً على الأقل. ولكن جميع المُخططات الهادِفة لإقامة الحواجز أو الدرابزين تعثرت منذ ذلك الحين لأسباب مُختلفة، تعلَّق مُعظمها بالجمالية، فضلاً عن أسباب هيكلية ومالية.
وفي معرض شرْحه لهذا القرار، أشار موليغان مباشرة إلى تجربة العاصمة السويسرية برن مع شرفة مونستَر Münsterplattform الواقعة في المدينة القديمة إلى جانب الكاتدرائية الشهيرة للمدينة والمُطلّة على مشهد نهر “آره Aare” الخلاّب – وسقوط بعمق 33 متراً إلى شارع مكسو بالخرسانة.
وأشار المدير التنفيذي لدائرة الطريق السريع والنقل في جسر غولدن غيت مُحقّاً، إلى أن شخصاً واحداً لم يُحاول الإنتحار منذ أن ثُبـِّتَت الشِباك تحت الشرفة بِسَبعة أمتار في عام 1998، ولم يُنْتَشَل سوى كلبين فقط وبِضعة دراجات هوائية من هذه الشباك. “سيكون السقوط على شباك حديدية بانخفاض سبعة أمتار، أمراً مؤذيا. الأشخاص المُتعبون من الحياة يريدون قتل أنفسهم، لا أن يُصابوا بجروح”، كما يعَلّـِق موليغان.
ومن الواضح بأن المخاوف من لجوء هؤلاء الأشخاص إلى مكان آخر للإنتحار، أثبتت خطأها. فقد أظهرَت دراسة في عام 1978 قامت بتَتَبُّع 515 شخصاً ممّن حاولوا القفز من على جسر “غولدن غيت” في الأعوام المُمتدة بين 1937 و1971، ولكنهم مُنِعوا جسدياً من القيام بذلك، أن 94% منهم إما ما زالوا على قيْد الحياة أو أنهم توفّوا لأسباب طبيعية. ولم يَمُت سوى 6% منهم نتيجة الإنتحار أو بسبب حوادث توحي بكونها عملية إنتحار.
وتدعم هذه الإحصاءات الفِكرة التي يؤكّد عليها بول مولَّر من مؤسسة السِّكك الحديدية للجِسر، التي تعمل على وقف حوادث الإنتحار، بأن الوقاية من الإنتحار أمرٌ مُمكن. “الشيء الأكثر أهمية هو تقييد الوصول السّهل إلى الوسائل القاتلة”، كما قال. “الشخص في حالة الإنتحار يكون بهذه الحالة لفترة محدودة من الزّمن. وبإمكان الأطباء النَفسيين مناقشة أمَد هذه الفترة التي قد تقتصِر على بِضع ساعات فقط أو تطول لتمتد إلى عدة أيام. ولكن كلَّ هذا الدَّفع باتِّجاه الوقاية، يهدف إلى الإمساك بذلك الشخص وحمله إلى مكانٍ يشعُر فيه بالأمان لبعض الوقت، إلى حين تلاشي ميوله الإنتحارية”.
“غير مقبول”
من المعروف أن برن هي موطن لعدّة جسورعالية وغيرها من المباني التي تشرف على سقوط خطير – 30% من حالات الإنتحار في العاصمة السويسرية، هي نتيجة القفز من الجسور في العادة. وكان هذا الرقم يصل إلى 60% قبل أن يُمارس الضغط على السلطات لاتّخاذ إجراءات في عام 1998.
وبين عاميْ 1996 و1998، عمد سبعة أشخاص إلى القفز من شرفة “مونستير” إلى الرصيف الخرساني قُبالة صفّ من الأبواب الرئيسية للمنازل. وفي يناير 1998، سقط أحد الذين قفزوا على بُعد بضعة أمتار فقط من صبِي يبلغ العاشرة من العمر. وبحلول نهاية هذا العام، كانت الشباك قد ثُبّـتَت في محلِّها.
ومنذ ذلك الحين، لم يكن المارّة هم الوحيدين الذين وُفِّرَت عليهم هذه الصّدمات، ولكن مُتخصصي الإنقاذ أيضاً الذين أصبحوا بمنأى عن مواجهة المهام المتمثلة بإزالة بقايا الضحايا المؤلمة بنفس القدَر. كما تَمنَع هذه الشِباك الإصابات الخطيرة بين الناجين (القلة)، وما يصحبها من تكاليف صحية.
وكان السياسي الشاب إريك هيس، الذي ترأس جناح الشباب في حزب الشعب السويسري حتى شهر يناير المنصرم، والعضو الحالي في برلمان مدينة برن، أحد من وضعته الأقدار كشاهِد على عملية إنتحار أحد الأشخاص.
وتذكر في حديثه إلى swissinfo.ch قائلا: “كنت أركب الترام tram الذي كان يعبُر جسر “كيرخنفيلد”، وأتطلّع من النافذة، عندما رأيت شخصاً يقفز فجأة. وفي المحطة التالية ترجلت وأنا أقول مع نفسي بأن هذا الوضع غير مقبول – كنت أعرف أن الكثير من الأشخاص ينتحرون بهذا الشكل”.
وقد دفع هذا الحادث بالسيد هيس إلى التقدّم باقتراح يهدف إلى الحيلولة دون حالات الإنتحار بالقفز من هذا الجِسر، حَظِي بموافقة برلمان المدينة في عام 2009. وفي وقتٍ لاحق، تمّ نصب أسْيِجة مؤقّتة من الأسلاك على جانبيْ جسريْ “كيرخنفيلد” و”كورنهاوس” (بدلاً من وضع الشباك تحتها).
“انخفاض حادّ”
ووِفقاً لحكومة المدينة، أثبتت هذه الأسيِجة فعاليتها مع “الإنخفاض الحادّ” في عدد حالات الإنتحار من هذين الجسريْن. ومن الصّعب الحصول على أرقام دقيقة حول الموضوع، بالنظر إلى تردّد جميع الأطراف المعنِية في توفير التفاصيل، بسبب تحذير الخبراء من أن الإفراط في مثل هذه المعلومات أو التغطية الإعلامية المُبالَغ فيها، يمكن أن تؤدي إلى تشجيع حالات إنتحار كهذه. ولكن، ووفقاً لهيس “كان ما يقرب من عشرة أشخاص يقفزون سنوياً من الجسور في برن قبل تثبيت الشباك. وهذا الرقم يقارب الصفر تقريباً اليوم”.
وفي شهر فبراير 2014، صوَّت برلمان مدينة برن على إنفاق 6.45 مليون فرنك سويسري (7.2 مليون دولار) لاستبدال الأسيِجة المصنوعة من الأسلاك بـ “شِباك إلتقاط” مُماثلة لتلك المثبتة عند شرفة “مونستير”. وسوف يُعمَد إلى إستخدام هذا النموذج في جسر “غولدَن غَيت”.
مع ذلك، كان التصويت على وضع هذه الشباك أبعد ما يكون عن الإجماع، بعدما اشتكى بعض السّاسة من التكلفة، وغيرهم من ضرورة حماية المعالم التاريخية، لاسيما وأن كِلا الجسريْن اللذيْن أُقِيما قبل أكثر من 100 عام، يشكّلان جزءاً من موقع التراث العالمي لليونسكو. ولكن هيس كان يرُد بأن “إنقاذ الأرواح أكثر أهمية من الجماليات”.
“استثمار جيد”
وفقاً لديتير أرنولد من دائرة الهندسة المدنية لمدينة برن، بدأ إهتمام كاليفورنيا بالعاصمة السويسرية في عام 2008، حينما تم الإتصال بهم من قِبَل وزارة النقل في كاليفورنيا (CalTrans)، للتعرّف على السبب في إستخدام شباك حديدية لمنع عمليات الإنتحار عند شرفة “مونستير”، عوضاً عن الأسيجة، وكيفية إخراج الناس الذين قفزوا من هذه الشباك. “كان هذا الإستفسار يخصّ جسر “كولد سبرينغ كانيون آرتش” Cold Spring Canyon Arch في سانتا باربرا (كاليفورنيا) وليس جِسر غولدَن غيت”، كما قال أرنولد، الذي يفترض أن المعلومات مُرِّرَت لاحقاً إلى السلطات المُختصة في سان فرانسيسكو. لكن وزارة النقل في كاليفورنيا أنشأت في نهاية المطاف سِياجاً أطول، لِتضع حدّاً بذلك لمحاولات الإنتحار. مع ذلك، يرى بعض النقّاد بأن إنفاق هذه المبالغ الكبيرة من المال لمنع الأشخاص من الإنتحار، ليس من مَهام الدولة.
لكن مولَّر يجيب في هذا السياق: “ماذا يعني الكثير من المال؟ نحن ننظر إلى أموال تُنفَق لمرّة واحدة قد تدوم منافعها لـ 50 أو 75 عاماً. وقد تحدث من الناحية المنطقية خلال تلك الفترة 2,000 حالة وفاة أخرى، إذا لم يُتَّخَذ إجراء ما”.
“نحن نستثمر أكثر من ذلك بكثير على تحسين الطرق السريعة وتحسينات سلامة الجسور في أماكن أخرى نواجه فيها عدداً أقل بكثير من القتلى. وعلى سبيل المثال، يجري إنفاق نحو 25 مليون دولار على حاجز وسطي مُتحرّك في جسر “غولدَن غيت” لمنع التصادُم وجها لوجه. إن استثمار السلامة هذا معقول تماماً، ولكن عدد الوفيات المُرتبطة بذلك منذ عام 1970 تقل عن 20 حالة على ما أعتقد”، كما أضاف. “لذا يشكّل هذا المشروع استثماراً جيّداً جدا من حيث التحسينات الخاصة بالسلامة وإنقاذ الأرواح”، يقول مولَّر مُختَتِماً.
الإنتحار في سويسرا
في عام 2012، أقدم 1,027 شخصا (752 من الرجال و285 من النساء) على الإنتحار في سويسرا. وبالمقارنة، توفي في ذلك العام 339 شخصا نتيجة حوادث الطرق.
شهدت حالات الإنتحار إنخفاضاً تدريجياً منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حينما انتحر أكثر من 1,600 شخص.
في تقرير حكومي يعود إلى عام 2009، اختار 28% من المُنتحرين الشنق، و23% إطلاق النار على أنفسهم، في حين تناول 14% السم، وقفز 14% من إرتفاع شاهق، ورمى 10% بأنفسهم أمام إحدى وسائل النقل، بينما لجأ 11% إلى أساليب أخرى. ومن الملاحظ أن الشنق وإطلاق النار هو أسلوب الإنتحار الأكثر شيوعاً بين الرجال، بينما تلجأ النساء إلى الغرق أو تناول السم أو القفز من مكان مرتفع أو القفز أمام إحدى وسائل النقل.
لا تشتمل حالات الانتحار المذكورة أعلاه الانتحار بمساعدة الغير.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.