حصول المسلمين على مقابر خاصة بهم.. مسألة أجيال!
تستمرّ مطالبة المسلمين بتوفير أماكن خاصة بهم لدفن موتاهم في إثارة الجدل في سويسرا. ومع أن هذه الظاهرة لا زالت محدودة في الوقت الحاضر، إلا أنه من المنتظر أن تتسع مع تعاقب الأجيال وترسّخ وجود المسلمين في هذا البلد الأوروبي.
خلال فصل الربيع الماضي، عبّرت وسائل الإعلام السويسرية الناطقة بالألمانية عن دهشتها لقلّة عدد مستخدمي أماكن الدفن التي أفردتها العديد من البلديات لأبناء المجموعة الإسلامية في مقابر البلديات. ومنذ عام 2000، خصصت أزيد من 15 مدينة، معظمها ناطقة بالألمانية جزءً من مقابرها لمعتنقي هذه الديانة.
وكردّ على ذلك، طالب شباب حزب الشعب السويسري (يمين شعبوي) بكانتون لوتسرن نهاية شهر أبريل 2012 بالتراجع عن القرار الذي اتخذته بلدية فريدنتال بتخصيص أماكن دفن للمسلمين في مقبرة البلدية سنة 2008، ورفع هؤلاء الشباب شعار “كل هذه الضوضاء من أجل لا شيء”، بعد أن لاحظوا أنه لم يتم حفر سوى 10 قبور منذ عام 2008. أما في كانتون سانت غالن، فقد عارض هذا الحزب اليمينيّ قانونا جديدا حول المقابر يهدف إلى السماح للمسلمين بدفن موتاهم في أماكن منفردة خاصة بهم.
في المقابل، جلبت أوّل عملية دفن من نوعها في مقبرة خاصة بالمسلمين في مدينة بيل/ بيان في شهر يونيو الماضي اهتمام وسائل الإعلام، وأسالت الكثير من الحبر. وقد حدث هذا بعد أن قررت سلطات المدينة في العام الماضي تخصيص مساحة يمكن أن تستوعب 800 قبر للمسلمين المقيمين في تلك المنطقة.
روابط قوية بالوطن
هذا الوضع يثير استغراب الكثير من المعنيين بهذا الملف عن قرب، وكذلك الخبراء في مجال الأديان والمسؤولين عن المقابر. وسواء في بازل او في لوتسرن، أوضح هؤلاء الخبراء في إجاباتهم عن تساؤلات الصحافة المحلّية بأن أغلبية المتوفّين ينتمون إلى الجيل الأوّل من المهاجرين، وهؤلاء يوصون جميعا بدفنهم في مواطنهم الاصلية.
وطبقا لتقديرات اتحاد المنظمات الإسلامية بزيورخ ( VIOS) فإن أزيد من 90% من المتوفين المسلمين يتمّ دفنهم في بلدانهم الاصلية، ويوضّح محمّد حانال، الناطق الرسمي بإسم الإتحاد ذلك فيقول: “المتوفون لا تزال تربطهم بالوطن الأم علاقات قوية، وهذا الوضع سوف يتغيّر مع تعاقب الأجيال، وقد يستغرق الأمر عقديْن من الزمن”.
نفس الرأي كذلك يشاطره أندرياس تونّر – زانيتي، الباحث والمتخصص في الإسلام، والمنسّق بمركز دراسات الأديان في جامعة لوتسرن، الذي يؤكد على أن “عدد المسلمين الذين سوف يتمّ دفنهم في سويسرا في المستقبل سيزداد باضطراد مع تقدّم السنّ بالأجيال الشابّة حاليا، والتي تشعر بأن سويسرا هي موطنها الأصلي”.
وبحسب هذا الباحث فإن المادة 7 من الدستور الفدرالي التي تحمي الكرامة البشرية، تنصّ على أن “هذا الحق مفروغ منه، أما تطبيقه والإلتزام به فيظل رهنا بالتأويل الذي يعطيه السياسيون. وفي تقديري، فإن جعل البنية التحتية الضرورية في المتناول، هو أيضا إجراء يشجّع على الإندماج”.
“غير انساني، ويتعارض مع الإندماج”
في تقريرها بشأن مشروع القانون الجديد، توصّلت الحكومة المحلية لكانتون سانت غالن إلى أنه لا يوجد أي بديل آخر أمام المسلمين في حالة الوفاه سوى إرسال المتوفى إلى موطنه الأصلي، ورأت في ذلك ما يمسّ بقضية الإندماج ولفتت إلى أن “رغبة المسلمين في الإلتزام بطقوسهم الدينية بشأن الراحة الأبدية، أمر حيوي ووجودي”.
وتضيف حكومة هذا الكانتون الواقع في شرق سويسرا أن “تزايد عدد المسلمين في سويسرا سوف يترافق كذلك بتزايد حاجتهم لدفن موتاهم وفقا لعقيدتهم. وهذا التطوّر تؤكده أحدث الإحصاءات”.
واستنادا لسلسلة من الدراسات ضمن البرنامج الوطني للبحوث حول المجموعات الدينية في سويسرا، نشر في بداية شهر يوليو 2012، وبالإعتماد على الإحصاءات المعلن عنها فقد “وصل عدد المسلمين المقيمين في سويسرا سنة 2000 إلى 310.807 مسلما، وهو ما يعادل 4.26% من مجموع السكان، مقابل 0.26% فقط في عام 1970”.
التوافق ولغة الحوار
بدوره، يشهد كانتون زيورخ الذي كان يعدّ 102.000 مسلما في عام 2007، أي ما يوازي 8% من مجموع سكان الكانتون، جدلا حادا كذلك حول المساحات الخاصة التي يُطالب بها المسلمون في المقابر. وقد قامت السلطات المحلية بتخصيص مساحة للمسلمين في بلدية فيتيكون منذ عام 2004، وينتظر أن يدشّن جناح آخر في مقبرة بفينترتور في فصل الخريف القادم.
وتعليقا على هذا المكسب، يقول جيربار عيسى، عضو لجنة المقابر باتحاد المنظمات الإسلامية بزيورخ: “لقد حصلنا على شيء مهمّ جدا، بعد عقود من النضال، ونحن نقدّر عاليا هذه المبادرة. ففي مقبرة فيتيكون، بمدينة زيورخ، تمّ دفن 131 مسلما وفقا للقواعد الإسلامية، والمساحة الفارغة التي لا تزال بها قادرة على استيعاب 320 قبرا آخر”. ويمسح هذا الجناح المخصص للمسلمين 2520 متر مربّع. أما الجناح الذي سيُفتتح بفينترتور في المستقبل القريب، فسيتّسع إلى 380 قبرا في مساحة جملية تمتد على 3700 متر مربّع.
ومثلما هو الحال دائما قدمت المجموعة الإسلامية العديد من التنازلات. فالنصوص الدينية تنص على دفن المتوفى في كفن من دون تابوت. ونظريا، فإن القبر هو مكان مخصص ليخلد فيه الميت لوحده إلى اليوم الموعود.
رغم ذلك، قبل المسلمون في سويسرا بدفن الميّت في تابوت، وامكانية دفن ثلاثة موتى في مكان واحد، بشرط أن تفصل بين كل عملية دفن 20 سنة على الأقل. ومن الحلول التوافقية كذلك، ما تمّ التوصّل إليه في مدينة لاشو دو- فون، حيث يدفن المسلمون أجسام موتاهم من دون توجيهها إلى مكّة (أي إلى القبلة)، وإن حرصوا على إمالة رأس المتوفى في اتجاه الجنوب الشرقي (اتجاه مكة).
لا وجود لأي مشكلة مع الجوار
لم تقابل عمليات دفن المسلمين لا في زيورخ، ولا في ليستال Liestal قرب بازل، برفع أي شكوى أو إثارة دعاوى. كما لم يثر وجود هذه المقابر الخاصة، أي مشكلة سواء لدى الأفراد أو الأديان المختلفة. وفي تصريح على صفحات يومية “بازلر تسايتونغ”، وصفت عضوة في المجلس البلدي بمدينة ليستال الجدل الذي رافق افتتاح الجناح الخاص بالمسلمين في مقبرة بالمنطقة بأنه مجرد “زوبعة في فنجان”.
مع ذلك، لابد من الإقرار بأنه في كل مرّة يتمّ فيها الإعتراف للمسلمين بحق دفن موتاهم بحسب ضوابط ديانتهم، تظهر على الساحة معارضة شديدة وعنيفة. ففي بلدية كونيتز KöNIZ التابعة لكانتون برن، رفضت الحكومة المحلية اعتماد مساحة خاصة بالمسلمين في مقبرة البلدية، ولكن المجلس البلدي أقرّ ذلك الحق. ويقول عيسى جيربار: “في كانتون زيورخ، وباستثناء زيورخ المدينة، وفينترتور، نحن نواجه وضعا صعبا”.
وبحسب أندرياس تونّر – زانيتي، فإنه “سيظلّ بإمكان المسلمين، مثلهم مثل الجالية اليهودية، تنظيم مقابر خاصة بهم، لكنه خيار مُكلف، ولابد أن يوجد مرفق يعالج رفات الموتى، ولا يبدو أن هذه المجموعة الدينية مستعدّة لقطع هذه الخطوة، واعتماد هذا الحل”.
عقب الوفاة، توجب التقاليد الإسلامية غسل بدن المتوفى خلال 24 ساعة الأولى، ودفنه في فترة لا تتجاوز 48 ساعة، من أجل أن تتمكّن الروح من مغادرة الجسد، وتكفل للميت كرامته.
عندما تقرر أسرة الميت أرساله للدفن في موطنه الأصلي، إذا كان من المهاجرين، يتمّ الأمر بشكل مستعجل، فيتم الختم على النعش من قبل طبيب شرعي، ثمّ يتم استخراج “جواز سفر للميت”، مع تصريح بالسفر صادر عن السفارة المعنية، ويتمّ تغليف النعش ووضعه في حقيبة خاصة بالسفر. وتكلّف هذه العملية عدّة آلاف من الفرنكات.
من حيث المبدأ، لابدّ أن تكون القبور متجهة نحو مكّة، وجسد الميّت لابد أن يكون ملفوفا في كفن، ولا يوضع داخل صندوق، وخلود الجسد في القبر لابد ان يكون إلى الأبد. ولكن هذه النقاط يتم التعامل معها بروح توافقية في البلدان والمجتمعات الغربية.
افتتح أوّل مربّع في مقبرة بلدية خاص بالمسلمين في سويسرا في عام 1978 وتحديدا في بلدية Petit-Saconnex بكانتون جنيف. وقد استغرقت مناقشة من يحق لهم المطالبة بفضاءات خاصة في المقابر عدة سنوات، أما القسم المخصص للمسلمين في مقبرة Petit-Saconnex فهو ممتلئ اليوم.
مع نهاية 2007، افتتحت جنيف فضاءً خاص داخل مقبرة القديس جورج، يُراعي متطلبات الديانتيْن الإسلامية واليهودية.
لاحقا، اعتمدت فضاءات خاصة بالمسلمين في مقابر البلديات التالية: بازل (2000)، وبرن (2000)، ولوغانو (2002)، وزيورخ (2004)، وليستال/بازل (2007)، وسيساخ/ بازل (2008)، وبراتانل /بازل (2009)، وتون (2009)، وأولتن (تاريخ غير معلوم)، ولاشو دو فون (2011)، وبيل/بيان (2011)، وسيفتتح قريبا فضاء آخر في فينترتور.
تعتزم مدينتا لي لوكل Le Locle ونوشاتيل اتخاذ مبادرة في هذا الإتجاه، على غرار كونيتز في كانتون برن. وتدور مناقشات في هذا الغرض كذلك في بلديات تشيليرون، وديتيكون بكانتون زيورخ، وكل البلديات التي يقيم بها مسلمون تزيد نسبتهم على 10% من مجموع سكانها.
في شهر يونيو 2012، أقرّ كانتون سانت غالن قانونا يسمح للبلديات بتخصيص فضاءات خاصة بالمسلمين في مقابرها.
في المقابل لا زالت حكومة كانتون فو (عاصمته لوزان) مصرة على رفض مطلب المسلمين في توفير أماكن خاصة لدفن موتاهم. وعلى الرغم من أنه توجد في الكانتون مقبرتان مخصصتان لأبناء الجالية اليهودية، لا زالت الحكومة المحلية تعترض على منح المسلمين هذا الحق بدعوى أن الديانة الإسلامية لا زالت “غير معترف بها بشكل رسمي”.
في عام 2000، بلغ عدد المسلمين في سويسرا 310.807 مسلما، وهو ما يمثل 4.26% من مجموع سكان هذا البلد، مقابل 0.26% فقط في عام 1970.
ينحدر 57 مسلما من كل 100 فرد من بلدان الفدرالية اليوغسلافية سابقا، و20 آخرين من تركيا، أي حوالي 80% من المسلمين في سويسرا هم من المسلمين الأوروبيين. وبالنسبة لهؤلاء، الدين مسألة شخصية، والدولة لائكية.
يبلغ حضور المسلمين في الكانتونات الناطقة الألمانية (4.7%)، مقابل (3.6 %) في الكانتونات الناطقة بالفرنسية، و(1.8%) في سويسرا الناطقة بالإيطالية.
(المصدر: أولريخ رودولف: تكوين الأئمّة والمرشدين في الديانة الإسلامية؟ دراسة أنجزت في إطار برنامج البحوث الوطنية حول المجموعات الدينية في سويسرا ( NPF 58 )
http://www.nfp58.ch/f_projekte_muslime.cfm
(نقله من الفرنسية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.