رغم مقاومة البعض.. مزيدٌ من الأبراج تناطح السحاب في سويسرا
تُواجه المدن والتجمعات السكنية في سويسرا، مُعضلة ندرة الأراضي الصالحة للبناء وإشكالية التشتت العمراني. وقد استلزم هذا الوضع انتهاج سياسة تكثيف سكني أسفرت عن حدوث طفرة في مشاريع تشييد الأبراج العالية. الظاهرة قد لا تتوقف قريبا، رغم الإعتراضات المتعددة والإجراءات المعقدة والطويلة للحصول على التراخيص الضرورية.
في المناطق السويسرية المتحدثة بالألمانية، ارتفعت منذ سنوات أعداد متزايدة من ناطحات السحاب والأبراج السكنية العالية. ضربة البداية كانت في زيورخ (“برايم تاور” و”موبيمو تاور”)، ثم جاء الدور على بازل من خلال “برج المعرض” الشهير. في الأثناء، تمكنت الأبراج من إيجاد موطئ قدم لها أيضا في مدن ومجمّـعات سكنية أصغر حجما. وفي دراسة أنجزتها شركة Wüest & Partner للإستشارات العقارية، اتضح أن العدد الإجمالي لمشاريع بناء أبراج عالية في سويسرا، يتراوح حاليا ما بين 140 و160 مشروعا.
في تصريح لـ swissinfo.ch يقول هيرفي فراودفو، أحد الشركاء في Wüest & Partner: “في سويسرا الروماندية (أي الناطقة بالفرنسية)، تواجه الأبراج العالية معارضة أكبر، بالرغم من أن مشكلة نُـدرة المساكن، أشد حدّة مما هي عليه في الأنحاء المتحدثة بالألمانية، لأن مشاريع البناء فيها أقل عددا بشكل عام”. وأضاف فروادفو أن “الناس تبحث بالأساس عن شُـقق وليست معنية بالضرورة ببيوت كبيرة ومُكلفة، وقد نشهد الآن حدوث مُـنعرج”.
مُـنعرج في سويسرا الروماندية
بالفعل، مثّـل التصويت الشعبي الذي أجري يوم 9 فبراير 2014 في ضاحية Chavannes – près – Renens، الواقعة غرب مدينة لوزان، “منعرجا” في هذا السياق، حيث أيّـد ثلثا الناخبين خطّـة عمرانية تتمحور حول تشييد برج شاهق يناهز ارتفاعه 120 مترا. ومن المحتمل أن تتحول هذه البناية في يوم من الأيام إلى رمز للتغيير العميق الذي طرأ على العمران في لوزان، وإلى منطلق لتشييد المزيد من الأبراج وناطحات السحاب في غرب سويسرا.
لا مندوحة من التذكير بأن مكتب Richter-dahl Rocha للهندسة المعمارية، اشتغل على هذا المشروع على مدى 22 عاما، وتُـعزى هذه الفترة الطويلة التي استغرقها التخطيط، لضخامة حجم المبنى. في هذا السياق، يوضح جاك ريشتر أن “المسار الإداري كان معقدا، إضافة إلى ذلك، تغيّـرت ملكية المؤسسة أربع مرات خلال هذه السنوات”. في الوقت نفسه، “كانت السلطات المحلية متحمسة منذ الانطلاق لفكرة تشييد بناية مرجِـعية، لكن احتاج الأمر إلى عمل إقناع كبير، لأن أغلبية السكان كانت معارضة منذ البداية”.
استقطاب قوي
في المرحلة الحالية، يتطلب الأمر العثور على مستثمرين. ويقول ريشتر: “ليس من الواضح بعد ما إذا كان البرج سيُـشيّد طبقا لما خططنا له، لكنه كان واضحا منذ البداية أن مطعما سيُـفتتح في قمته، لذلك، يتعين أن يكون المبنى مفتوحا بوجه الجمهور”.
في سياق متصل، يؤكد ريشتر أن “صور البرج العالي، أعجبت الجمهور، الذي وصفه دائما بالأنيق. وفيما يتعلق بأبراج أخرى، أعرب السكان عن قدر أكبر من التحفظ، لاعتبارات جمالية. وبشكل أساسي، فإن عملية القبول لها علاقة كبيرة بالمشاعر. فإما أن يُـعجب الناس بناطحات السحاب وإما أن يقابلوها بالرفض، وهذه مسألة مرتبطة بالتجربة الشخصية: فمن صعِـد إلى قمة ناطحة سحاب في نيويورك وشاهد المدينة من هناك، يكون متحمِّـسا، فيما يرفض آخرون الأبراج، لأنهم يرون فيها رمزا للسلطة والإنحلال”.
في الستينات، سجلت سويسرا، وخاصة في زيورخ وبرن، طفرة في تشييد الأبراج العالية. وفي ذلك الوقت، لم تكن هناك ندرة في الفضاءات المخصصة للبناء، بل إن بعض تلك المباني أقيمت خارج المراكز الحضرية وسط مناطق مخضرة. في المقابل، شهِـدت الأعوام الأخيرة إقامة هذا الصنف من المباني الشاهقة في مناطق العمران وسط المدن.
في هذا الإطار، يقول المهندس المعماري ميكائيل هيرشبيخلر، من معهد التصميم الحضري التابع للمعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ، ملمِّـحا إلى ظاهرة “الغيتو”، التي أساءت إلى صورة بعض ناطحات السحاب التي أقيمت في تلك الفترة: “بعد الطفرة التي شهدها قطاع البناء في الستينات، تعرضت الأبراج العالية إلى تراجع كبير في سمعتها بسبب مشاكل اجتماعية”، وأشار إلى أنه “في ذلك الوقت، شُـيِّـدت مُجمّعات سكنية اجتماعية ذات طابع حديث. مع ذلك، تُـعتبر ناطحات السحاب الجديدة رمزا للعواصم الحضرية، وهي تتوجه إلى صنف آخر تماما من السكان”.
تراث تاريخي ثقافي معطِّـل
على الرغم من إعلان الباعثين العقاريين عن طفرة جديدة في هذا القطاع ومن وجود مشاريع فعلية لإقامة أبراج عالية إضافية، إلا أن قبول السكان بها يختلف من منطقة إلى أخرى، مثلما يقول هيرشبيخلر، الذي يضيف موضحا “في سويسرا – أكثر مما هو الحال في بلدان أخرى – هناك ارتباط قوي بالمدن التقليدية، التي عادة ما تكون صغيرة الحجم. وفي ألمانيا والنمسا، لوحظ خلال النقاشات، وجود خوف كبير نسبي من أن تؤدي ناطحات السحاب إلى تغيير جذري للمدن ومن بروز أيقونات جديدة لا يُـعرف بالتحديد ما الذي تمثله”.
إضافة إلى ذلك، لا مفر من القول بأن الواقع في سويسرا مختلف عن مناطق أخرى مثل شيكاغو أو دبي، حيث أن “التراث التاريخي مهم جدا وذو دلالات قوية، بشكل لا يحتمل إدخال تحويرات كبيرة عليه دون تروٍّ”، على حد قول ميكائيل هيرشبيخلر. وكما هو معلوم، تتوفر جميع المدن السويسرية الكبرى (زيورخ وبازل وجنيف وبرن) على مركز تاريخي تمّـت المحافظة عليه بشكل جيد، بل إن المدينة العتيقة في برن أدرجت بأكملها منذ عام 1983 ضمن قائمة التراث الإنساني لليونسكو.
على صعيد آخر، لا زال الخلاف قائما بين الخبراء حول مدى مساهمة الأبراج العالية في المساعدة على تكثيف التواجد السكاني، لأنه يتعين أن تحاط بفضاءات خضراء شاسعة بسبب حجم الظلال الناجمة عنها وتطبيقا للتراتيب المعمول في مجال البناءات. وهنا، يلاحظ هيرشبيخلر أن “الأمر يتعلق بنموذج واسع الإستخدام، لكن توجد نماذج أخرى تساهم بشكل أفضل في عملية التكثيف السكاني”.
في مدينة لوزان، يقدم مشروع بناء ناطحة سحاب جديدة تحمل اسم Taoua، نموذجا آخر لتعدد الأسباب التي يُـمكن أن تؤدي إلى معارضة السكان لها. فمن وجهة نظر أقصى اليسار والخُـضر، يمثل المشروع الذي سيُعرض على تصويت الناخبين في المدينة يوم 13 أبريل 2014، “تجمّعا لرأس المال” وثمرة لـ “مضاربين لا حياء لهم”، كما أنه لن يؤدي حسب رأيهم إلى حل أزمة السكن، بل سيتسبب في نمو سكاني بطريقة “غير سليمة بالأساس”.
في المقابل، أعرب المحافظون من تيارات اليمين عن انشغالهم بما ستتسبب فيه ناطحة السحاب من حجب للرؤية عن الجيران القاطنين في محيطها، وتساءلوا: “هل نحن بحاجة فعلا إلى رمز من هذا القبيل؟”.
وفي معرض الرد، يقول عمدة المدينة دانييل بريلا (من حزب الخضر): “لو صوّت الشعب على كل مشروع معماري جديد، فمن المحتمل أن لا توجد اليوم في لوزان لا الكاتدرائية ولا المركز الإستشفائي الجامعي للكانتون”.
(نقله إلى العربية وعالجه: كمال الضيف)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.