سويسرا لم تـعُد استـثـناءً وسط أوروبــا!
لم يعـُد المجتمع السويسري يتميز عن جيرانه الأوروبيين من حيث النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي والبيئي، بل بات يُشبههم أكثر فأكثر إذ أن أوجه عدم المساواة بين الجنسين وفوارق الدخل والتكوين في سويسرا أصبحت مُلفتة للنظر.
هذا الاستنتاج ورد في التقرير الاجتماعي لعام 2008 الذي أبرز أن سويسرا “لم تعد حالة خاصة”، بل التحقت بالمعدل الأوروبي.
التقرير الذي قدمته المؤسسة السويسرية للأبحاث في مجال العلوم الإنسانية يوم الثلاثاء 9 ديسمبر الجاري في برن، تضمن لأول مرة مقارنة دولية مع ستة بلدان هي: فرنسا وألمانيا وانجلترا والسويد وإسبانيا والولايات المتحدة.
وتناول البحث بالتحليل 75 مؤشرا بما فيها ظروف العمل، وتنوع القوميات، وتوزيع الأدوار بين الزوجين، ومستوى التعليـم، والتفاوت الاجتماعي، والتعدد الثقافي، والاندماج، والمشاركة السياسية، والنقل، وإدارة الموارد الطبيعة…
سويسرا لم تعد “حالة خاصة”!
وقال كريستيان سوتر، أحد المُحررين الستة للدراسة: “للمرة الأولى، لم نكتف بقياس التغييرات على مدى الأعوام، بل قمنا بمقارنة دولية”.
وكشفت هذه المقارنة بأن سويسرا ليست فوق المعدل الأوروبي، فهي تقع، شئنا ذلك أم أبينا، في قلب أوروبا، ولئن كانت دائما توصف بجزيرة وسط أوروبا بحكم عدم انتمائها للاتحاد الأوروبي.
ويشرح كريستيان سوتر، أستاذ الاجتماع في جامعة نوشاتيل، أن “السـويد، البلاد الشمالية، وإسبانيا البلاد الجنوبية يمثلان نقيضين، لكننا لاحظنا نوعا من التقارب بينهما، وسويسرا تحتل رتبة الوسط بين هذين البلدين”.
ويشير التقرير إلى أن سويسرا تتمسك بوضعها خارج الاتحاد الأوروبي، لكنها، في الوقت نفسه، تتبع عددا كبيرا من التوجيهات الأوروبية. ويضيف سوتر بهذا الصدد: “لقد حدث تقارب أوروبي هائل خلال السنوات القليلة الماضية، وسويسرا لم تعد تلك “الحالة الخاصة” التي كانت أو التي تصورت أنها كانت تُمثل”.
استنتاج مدهش له تفسيرات
من جانبه، قال روني ليفي، الذي شارك أيضا في تأليف هذا التقرير الاجتماعي الثالث من نوعه في سويسرا: “لقد استنتجنا أن توزيع المداخيل وأوجه عدم المساواة بين الجنسين، وعلى مستوى الدخل والتعليم، ظل مُشابها جدا لما كان عليه الوضع خلال العشرين سنة الماضية”.
لكن هذا ليس بمعطى جديد، فمعلوم أن المرأة في سويسرا مازالت تتقاضى راتبا أدنى من الرجل، حتى إن كانا مُتحصلين على نفس التكوين تماما.
في المقابل، كشف هذا الأستاذ الفخري لعلم الاجتماع في جامعة لوزان الستار عن استنتاج مُثير للاستغراب إلى حد ما، مفاده أن المدرسة لا تُوفر تكافؤ الفرص، موضحا أن “المجتمع السويسري أقلّ اعتمادا على الأداء الفردي مما كُنا نعتقد، لأن التكوين أصبح محورا لعدم المساواة بسبب (النهج) الانتقائي للمدارس. (…) فالمدرسة ليست عاملا حاسما لتكافؤ الفرص، بل إن نقطة الانطلاق الإجتماية والثقافية هي التي تحدد النجاح وليس الأداء الفردي”.
ويـُذَكر نص الدراسة في هذا السياق بأن “الحصول على شهادة تعليمية في السلك الثاني (وهو ما يعادل في سويسرا شهادة تكوين مهني أو شهادة التعليم الثانوي الذي يلي سنوات التعليم الإجباري التسع في الكنفدرالية) هو اليوم شرط أساسي للمشاركة بنجاح واستقلالية في حياة البالغين، وفي الحياة المهنية. ومن لا يحصل على تكوين بعد التعليم الأساسي (في سويسرا) يواجه بعدُ خطرا كبيرا قد يقصيه بشكل دائم من سوق العمل وقد يدفعه إلى التهميش”.
ويضيف التقرير بأن “التكوين على مدى الحياة بات ضروريا في هذا العصر الذي يشهد تغييرات اجتماعية وتكنولوجية سريعة تتقادم فيها المعارف والمؤهلات بسرعة أيضا”.
ولدى تحليل الدراسة للمصاعب والعراقيل التي يواجهها الأطفال والشبان لتحصيل “قاعدة التعليم” المتمثلة في شهادة السلك الثانوي، استنتجت بأن “النظام التعليمي السويسري هو أولا، أحد الأنظمة التي تُولد أكبر قدر من الفوارق، وثانيا، أنه يضر بصورة منهجية بمبدأ الكفاءة، وثالثا، أنه يعزز تأثير الأصل الاجتماعي على النجاح المدرسي”.
وينوه التقرير إلى أن “حدة هذه الفوارق تشتدُّ بسبب عروض التكوين في سويسرا المُقننة في نهاية المرحلة الأولى من التعليم الثانوي، وهو ما يعني بالنسبة للتلامذة الأضعف مستوى (من بين المتقدمين بطلب التكوين) مُواجهة منافسة شرسة للحيلولة دون الحرمان من أماكن التدريب النادرة المُتاحة”.
ويعتقد أصحاب الدراسة أن “تطويرا وتوزيعا أكثر إنصافا للعروض وإلغاء آليات الانتقاء في مستوى التعليم الإجباري عوامل قد تزيد من تكافؤ الفرص في المدارس السويسرية”.
وقد استخلص معدو الدراسة بالفعل أن مُستوى تكوين غالبية السويسريين لا يختلف عن أبائهم. فالأطفال الذين يتمتع والداهم بتكوين عال هم أوفر حظا للاستفادة من تكوين جيد وتلقي راتب أعلى في المستقبل. وبما أن مستوى التعليم يحدد مستوى الدخل إلى حد كبير، فإن أوجه عدم المساواة تميل إلى البقاء ثابتة من جيل إلى آخر.
وأضاف البروفيسور ليفي بأن “دور المدرسة ربما عوض الدور الذي كانت تقوم به الخدمة العسكرية قبل عشرين عاما في تحديد المسيرة المهنية للذكور”.
وماذا عن التلامذة الأجانب؟
يُجيب الأستاذ ليفي: “كُلما طالت فترة إقامتهم في سويسرا، كلما ارتفع مستوى تكوينهم. فأولئك المنحدرون من أسر لا تعرف جيدا لُغاتنا (الألمانية أو الفرنسية أو الإيطالية)، لا يحظون بأفضل الفرص، لكن الأمورة آخذة في التحسن بالنسبة لمن يوُلدون في سويسرا”.
ووفقا للإحصائيات، فإن حظوظ التلامذة السويسريين المنتمين للطبقة المتوسطة أو العليا للالتحاق بشعبة مُتطلبة جدا في السلك الثانوي تتجاوز نسبة 80%، بينما لم تعد تتعدى 50% بالنسبة للتلامذة الأجانب من الطبقة الاجتماعية الأدنى.
ويُقر الأستاذ ليفي بأن “النظام التعليمي السويسري من بين أكثر الأنظمة انتقائية، لا سيما أن عملية الانتقاء تبدأ في وقت مُبكر جدا (بحيث أن ألمانيا هي البلد الوحيد الذي يتجاوز سويسرا في هذا المجال من بين الدول التي شملتها المقارنة).
كما ذكـّر بأن برنامج التقييم الدولي للطلبة “بيزا” أكد أيضا أن “الأنظمة التعليمية الانتقائية تُعزز تأثير الأصل الاجتماعي على النجاح الدراسي، وأنه كلما كان الانتقاء مُبكرا كلما زاد وزن ذلك التأثير”.
مواقف مُفاجئة
فضلا عن ذلك، يكشف التقرير الإجتماعي لعام 2008 أيضا أن رأي السويسريين في الجاليات الأجنبية (التي تمثل خُمس ساكنة البلاد) أفضل مما هو عليه الحال في كافة البلدان المُقارنة. فقد فوجئ واضعو الدراسة بأن ما يزيد قليلا عن 20% فقط ممن شملتهم الدراسة عبروا عن خشيتهم من تأثيرات الهجرة على الاقتصاد والحياة الثقافية في سويسرا.
وفي محاولة لتفسير هذه النقطة الإيجابية، قالت أورسينا كون، المُشاركة في إعداد الدراسة وأستاذة العلوم السياسية في جامعة نوشاتيل: “إن نسبة البطالة منخفضة في سويسرا، والهجرة ليست ظاهرة حديثة العهد، بل يعود تاريخها إلى الحرب العالمية الثانية”.
من جهته، أعرب الأستاذ كريستيان سوتر عن اعتقاده بأن هذا الموقف الإيجابي من الأجانب قد يكون نتيجة نظام الديمقراطية المُباشرة في سويسرا حيث يصوت الناخبون على جملة من القضايا الهامة. ويجدر التذكير هنا بأن عقدي الستينات والسبعينات شهدا مبادرات شعبية كثيرة حول العدد المتزايد للأجانب في سويسرا، لا سيما بعد تدفق العمال المهاجرين من جنوب أوروبا. لذلك، يرى سوتر بأن سويسرا نجحت في إعطاء مسألة الهجرة شرعية سياسية في وقت مُبكر جدا مقارنة مع باقي البلدان الأوروبية.
وتعلقت مُفاجأة أخرى وردت في التقرير بمجال السياسة: رغم نظام الديمقراطية الُمباشرة الخاص جدا الذي تتميز به، فإن سويسرا ليست بطلة في المشاركة السياسية، بحيث صُنـِّفت بعد السويد، بمعدل نشاط سياسي للمواطنين شبيه بنتائج البلدان الخمسة الأخرى التي شملتها المقارنة.
وأخيرا، يظل الوعي البيئي للسويسريين مرتفعا جدا (على أساس مقارنة بين 1994 و2007)، بحيث “أصبح أكثر براغماتية”، على حد تعبير الأستاذ كريستيان سوتر. وأكدت الدراسة أن “غالبية سكان سويسرا (أكثر من أربعة أخماس الأشخاص المُستجوبين) تدرك جيدا حجم المشاكل البيئية وخطورة التغيير المناخي. وحتى الهوة التي كانت توجد في الماضي بين السويسريين المتحدثين بالألمانية ونظرائهم الرومانديين (الناطقين بالفرنسية) في المجال البيئي يبدو أنها باتت من صفحات الماضي”. كما أشارت الدراسة أن “درجة الوعي والسلوك البيئي مرتفعة أكثر لدى النساء”.
سويس انفو
أنشئت بدعم من الكنفدرالية لأداء مهمة تقديم الخدمات والأبحاث ودعم تثـمين المعارف.
من بين أنشطتها، نشر التقرير الاجتماعي لسويسرا الذي صدر لأول مرة في عام 2000، في إطار برنامج الصندوق الوطني للبحث العلمي “سويسرا الغد”.
يُنشر هذا التقرير كل أربعة أعوام باللغتين الفرنسية والألمانية. ولأول مرة، نُشر هذا العام أيضا بالانجليزية.
التقرير مُقسم إلى 5 مواضيع تتضمن 75 مؤشر؛ والمواضيع الخمسة هي: توزيع الثروات، والتنوع الثقافي، والاندماج الاجتماعي، والمشاركة السياسية، والتكامل البيئي.
يشارك في تمويل المؤسسة السويسرية للأبحاث في مجال العلوم الاجتماعية الصندوق الوطني للبحث العلمي وكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة نوشاتيل.
في عام 2008، تضمن التقرير الاجتماعي لسويسرا لأول مرة مقارنة دولية مع فرنسا وألمانيا وانجلترا والسويد وإسبانيا والولايات المتحدة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.