ظاهرة الجوسسة الإقتصادية تحت الأضــواء مُجددا في سويسرا
قبل فترة وجيزة، وضعت حالات من التجسّـس المزعوم، التي ربطت بين مُحقِّـقين سويسريين خاصِّـين من جهة، والعملاق النووي الفرنسي "آريفا" وشركة نستلي من جهة أخرى، مسألة "الإستخبارات الإقتصادية" في دائرة الأضواء.
ويتركّـز عالَـم سويسرا الصغير والمتحفظ للإستخبارات التنافسية والشركات الأمنية في مدينة جنيف، بشكل رئيسي، والتي يُـقال بأنها تتمتّـع بهامش من المناورة، بِفَضل إطارها القانوني وتمسُّـكها بالشكليات بدرجة أقلّ، على عكس جارتها الفرنسية.
ومؤخراً، وجدت شركة تحقيقات “ألب سيرفيسيز”Alp Services، التي تتّـخذ من جنيف مقرّا لها، ومديرها ماريو بريرو، نفسها في قلب فضيحة أعمال تدُور حول آن لوفيرغون (الملقبة بـ “آن الذرية”)، الرئيسة التنفيذية السابقة لمجموعة “آريفا”، بالإضافة إلى زوجها أوليفيي فريك وبعض المُدراء التّـنفيذيين للمجموعة.
وكانت الرئيسة التنفيذية المخلوعة لمُجَمَّع صناعة المفاعلات النووية الفرنسي، الذي تُـسيطر عليها الدولة، قد أعلنت في شهر يناير 2012 بأن زوجها كان ضحية عملية تجسّـس من قِبل شركة تحقيقات “ألب سيرفيسيز”، أعْـقبَـتها برفع دعوى قضائية في باريس يوم 8 فبراير الجاري حول أنشطة مزعومة غير مشروعة، قامت بها شركة التحقيقات السويسرية الخاصة.
ورفعت قضية “أريفا” الغِـطاء عن قطاع التحقيقات والتحريات، الذي لا يُعرف عنه الكثير في سويسرا، والذي يتخلَّف وراء البلدان الناطقة بالإنجليزية وفرنسا وألمانيا في استخدام شركات الإستخبار والتحريات، للمساعدة على كسب ميزة تنافُـسية وحماية المصالح التجارية.
منطقة نمُـو
وتوجد في الوقت الحالي نحو 12 شركة ناشطة في هذا المجال داخل الأراضي السويسرية، تتمركز معظمها في مدينة جنيف، بضمنها شركة “ألب سيرفيسيز”Alp Services وشركة “وان إنتيلّيجينس ” One Intelligence وشركة “كرول ” Kroll وكذلك شركة “ديليجينس “Diligence.
وفي مقابلة مع swissinfo.ch قالت هيلين مادينير، الأستاذة في كلية جنيف لإدارة الأعمال والتي أطلقت دورة دراسية حول موضوع الإستخبارات التنافسية في عام 2010: “إنه قطاع ناشئ في طور النُـمو”.
وأضافت أنهم “متحفظون نِسبياً. وبالنسبة للبعض منهم، لا تشكل الإستخبارات التنافسية، سوى جزء من نشاطهم، وقد يكونوا ضالعين في نفس الوقت بأعمال تحريات أو تحقيقات عامة”.
ويرى الأخصائي ستيفان كوخ، بأنّ وجود هذا العدد من شركات التحقيقات في جنيف، يعود بشكل رئيسي إلى ما تتمتّـع به هذه المدينة من مركز دولي وإلى وجود العدد الكبير من المنظمات غيْـر الحكومية والشركات المتعدِّدة الجنسيات فيها، بالإضافة إلى وضعها المُسترخي نوعاً ما.
وكما يفسِّـر كوخ قائلاً: “في فرنسا، هناك نهج رسمي أكثر، في حين تفتقِـر القواعد في سويسرا إلى تأطير أو تنظيم المِـهنة”. وكما يقول فإن “الجميع يفعل ما يحلو له”.
تآمر وشكاوى وتحقيقات
وبالنسبة لقضية مجموعة آريفا، اتهمت آن لوفيرغون، الرئيسة التنفيذية السابقة للمجموعة (والتي تمت إقالتها من منصبها في شهر يونيو 2011)، عددا من موظفيها السابقين بالتجسُّـس عليها، كما ادّعت بأنها كانت ضحية مؤامرة ذات دوافع سياسية، لرفعها عن منصبها.
وجدير بالذكر أن السيدة لوفيرغون، التي تبلغ من العمر 52 عاماً، والتي تلقَّـب في فرنسا باسم “آن الذرية “Atomic Anne، ظلت رئيسة لمجموعة آريفا لمدة عشرة أعوام.
وكان سباستيان دي مونتيسو، رئيس قسم التّعدين في مجموعة “آريفا”، قد أكد مؤخرا قيامه بتأجير خدمات شركة “ألب سيرفيسيس” في عام 2011 للتحقّق من صفقة الشراء الكارثية، التي قامت بها المجموعة الفرنسية بقيمة 1.8مليار يورو (2.1 مليار فرنك سويسري) في عام 2007، عند اقتنائها لشركة “يورامين” Uramin، التي كانت حينئذٍ شركة مبتدئة صغيرة تعمل في تعدين اليورانيوم، بدون إبلاغ السيدة لوفيرغون، التي كانت رئيسته في ذلك الوقت عن إجرائه هذا.
لكن دي مونتيسو أصرَّ من جهته، بأنه باشر بالتحقيق في هذه الصفقة، لمعرفة ما إذا كان فريك لوفيرغون (زوج آن لوفيرغون) قد “استفاد منها بشكلٍ غير قانوني” وليس للتجسُّس على الحياة الخاصة للأشخاص أو استخدام أساليب غير قانونية، كالتنصُّـت على الهواتف.
وفي 1 فبراير 2012، أعلنت منظمة الشفافية الدولية في فرنسا عن انضمامها إلى منظمة السلام الأخضر “غرينبيس” ومؤسسة “وورلد واتش”، في تقديم شكوى قانونية في محكمة في باريس ضدّ مجهولين على علاقة بقضية آريفا، بعد ظهور تقارير عنها في الصحف الفرنسية.
وكانت صحيفة “جورنال دو ديمانش”، الصادرة في 1 يناير 2012، قد نشرت تقريرا بيّـنت فيه احتمال قيام جماعة من الجواسيس بالتسلُّـل إلى هذه المنظمات الناشطة الثلاثة، بناء على طلب من شركة آريفا، ممّا دفع بالفرع الفرنسي لمنظمة السلام الأخضر بمطالبة النيابة العامة الفرنسية بإجراء تحقيق في هذا الموضوع يوم 3 يناير.
ووفقاً لنفس الصحيفة، فقد كان ضِمن المقترحات العديدة، التي عرضها ماريو بريرو، مدير شركة “ألب سيرفيسيس”، ممارسة “المراقبة الوقائية والتسلل / الضغوط” على هذه المنظمات غير الحكومية الثلاث لقاء مبلغ مالي يتراوح ما بين 40,000 – 60,000 يورو شهرياً، وهو ما تم رفضه.
وفي غضون ذلك، نفى ديفيد بيتون، محامي بريرو، أن يكون موكِّـله قد قام بـ “تعقب أي شخص أو أن يكون قد مارس أي تنصّت غير قانوني على الهواتف”.
اجتياز الخطوط الحمراء؟
من جهتها، قالت المحامية ماري – لوراينغوف، بأنَّ “معظم المؤسسات الكبيرة تستخدِم اليوم شركات الوكالات الإستخباراتية”. وحسب تعبيرها فإن “هذه ليست مشكلة. ولكن ما يجب أن يُحتَرَم، هو الإطار القانوني، وهو ما نجِده غامِضا قليلاً في بعض الأحيان”.
وليس من السهل دائماً إثبات اللحظة المحددة التي تقوم فيها شركات التحري باجتياز الخطوط القانونية أو الأخلاقية الحمراء، أو الوقت الذي قد تتحوّل فيه الإستخبارات الإقتصادية إلى تجسُّـس صناعي.
وفي حين أن بعض الأنشطة، كالتنصُّـت على الهواتف، هي أعمال غير قانونية بشكل واضح في سويسرا، إلّا أنَّ اغتصاب الهوية – كونه مغطّى بحماية المواد الفردية في قانون العقوبات – لا يُعَد جريمة في الكنفدرالية، خلافاً لما هو عليه الحال في فرنسا.
وفي قضية منفصِـلة شهدها شهر يناير الماضي، قادت مجموعة من الناشطين المناهضين للعوْلمة من منظمة “أتاك”، شركة نستلي لصناعة المواد الغذائية، إلى محاكمة تجسُّـس مدنية في مدينة لوزان. وقد اعترفت شركة نيستلي بقيامها باستئجار عون تحري يعمل في مجموعة “سيكوريتاس” للخدمات والاستشارات الأمنية، للقيام بالتجسس على هؤلاء الناشطين، ولكنها دافعت بأن إجراءها الوقائي كان له ما يُـبرِّره بسبب “إعلان منظمة “أتاك” الحرب على شركة نيستلي” في وقت متقارب مع الإحتجاجات الصاخبة، التي صاحبت انعقاد قمّة الدول الصناعية الثمان في إيفيان في فرنسا عام 2003. وينتظِـر كِـلا الجانبين صدور حُـكم في هذه القضية.
ويرى كوخ بأنَّ عملية التسلل، وعلى الرغم من أنها مشتركة، تُعَـدُّ “خارج الإطار الأخلاقي والقانوني”. ويُضيف: “أمّا بالنسبة للقرْصنة، فمن السهل استئجار أحد قراصنة الإنترنت للدخول إلى جهاز كمبيوتر شخص ما وقُرصه الصلب، للحصول على المعلومات ذات الصِّلة من هناك”.
إبقاء العيون مفتوحة
في الوقت نفسه، يرى كوخ أن المراقبة الوقائية خلال التئام المؤتمرات العامة للمنظمات غير الحكومية أو عند المناقشات مع الأعضاء، لا تعتبر إجراءً غير قانونيا، كما أنَّها ليست عملاً تجسُّـسياً.
وفيما يتعلَّق بمواقع العمل، قال المحامي مارك هينزيلين في مقابلة جرت مؤخراً مع مجلة هيبدو L’Hebdoالأسبوعية الناطقة بالفرنسية، فإنَّه وعلى الرغم من حماية القانون السويسري لخصوصية الأفراد، إلّا أن الشركات تملِـك هامشاً للمناورة، إذا ما أرادت القيام بمراقبة الموظفين العاملين لديها.
في نفس السياق، اعترفت أستاذة إدارة الأعمال مادينير بأنَّ هناك مجالاً قانونياً كبيراً للمناورة. كما أصرَّت في الوقت نفسه على التمييز بين أغلبية شركات الإستخبارات التنافسية وبعض الوكالات التي تقدِّم خدمات تحريات أيضا، والتي قد تلجأ إلى نوع من “الفنون المظلمة”، كالتسلل إلى إحدى الشركات والعمل لديها تحت هوية مُـزوَّرة.
وكما قالت: “هذا موجود، ولكنه ليس شيئاً نقوم بتعليمه أو الدّعوة إليه”. وأضافت: “لقد رفعت قضية شركة “آريفا” الحيرة والإرتباك عند العامة حول موضوع الإستخبارات الإقتصادية، الذي يُفتَرَض أن يَدور حول استخدام المعلومات، لِرَفع وتَعزيز القُدرة التنافسية”.
وفقا لدائرة الإستخبارات الفدرالية السويسرية، لا زال التجسّس الإقتصادي يشكل تهديداً رئيسيا للأمن السويسري.
ووفقا للتقرير السنوي لدائرة الإستخبارات الفدرالية، فإنَّ “التجسُّس الاقتصادي، يقوّض سيادة الدولة، كما أنَّ بإمكانه أن يُضعِف القُـدرة التنافسية للشركات التي أقيمت في سويسرا وأن يهدِّد القطاع المالي والصناعة”. ويضيف التقرير: “يبقى هذا التهديد مرتفعاً على الدوام”.
“تبقى البنوك والمؤسسات المالية السويسرية، التي تتخذ من الكنفدرالية مقراً لها، تحت أنظار السلطات الأجنبية وأجهزة المخابرات الخاصة بها”.
“تنشط العديد من أجهزة الإستخبارات الأجنبية في سويسرا، حيث تعمل على جمع المعلومات حول مغتربيها في الشتات ورصدهم، لاستخدامهم كأدوات، لأسباب سياسية داخلية”.
“تحمل مدينة جنيف أهمية خاصة لأجهزة الإستخبارات الخارجية، بسبب احتوائها على العديد من المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية، التي تجتذب الدبلوماسيين ورجال الأعمال والصحفيين وغيرهم من ضباط المخابرات إليها”.
توصَف الاستخبارات التنافسية، بأنَّها العمل على جمع وتحديد وتحليل وتوزيع المعلومات حول أداء المُنتجات والعملاء والمنافسين، بالإعتماد على مصادِر مختلفة، بالإضافة إلى أيٍّ من الجوانب البيئية اللازمة، ومن ثمَّ إعادة بنائها، بحيث تعطي صورة جيِّدة حول أداء الطرف المُنافس وأحواله وخُـططه وظروفه المحيطة، من أجل دَعْم المُدراء في اتِّخاذ قرارات إستراتيجية لمؤسسة ما.
يُنظَر إلى الإستخبارات التنافسية، على أنَّها ممارسة قانونية وأخلاقية، على عكس التجسُّـس الصناعي، الذي يُعتَبر عملاً غيْـر قانوني والذي يعتمِـد غالباً على عمليات غيْـر أخلاقية وغير قانونية، كتقديم الرشوة لسرقة معلومات ما حول طُرُق التصنيع.
يُدار التجسُّس الإقتصادي غالباً من قِبَل الحكومات ويحدث على نطاق دولي، في حين يحدث التجسس الصناعي أكثر ما بين الشركات أو المؤسسات. ويمكن أن يشتمل على الإستحواذ على المِلكية الفكرية، كالمعلومات المتعلِّقة بالإنتاج الصناعي أو أية أفكار غيْـر مطروحة أو تِقَنيات وعَمَليات أو وَصفات وصِيَغ. ويمكن أن يشمل كذلك مُصادرة ملكية المعلومات أو المعلومات التشغيلية. كما يمكن أن يصف التجسّس الصناعي نشاطات مثل سرقة الأسرار التجارية والرشوة والابتزاز والمراقبة باستخدام معدات التقنية الحديثة.
أمّا استخبارات الأعمال (أو استخراج البيانات)، فهو يشير بالأساس إلى تقنيات تستنِـد على الكمبيوتر وهي تُسْتَخدَم لتحديد واستخراج وتحليل البيانات التجارية، مثل إيرادات المبيعات من خلال المنتجات و/ أو الدوائر المعينة أو من خلال التكاليف والمدخولات المرتبطة بها.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.