مركز سويسري للوساطة يُسهم في حل خلافات مُزمنة في شمال افريقيا
"المركز السويسري للوساطة في مجال السلام، والحوار وبناء السلام في شمال إفريقيا"... عنوان عريض يختزل أهداف جمعية سويسرية اختارت أن تكون البلدان العربية الواقعة في شمال القارة الإفريقية مجالا لعملها من خلال الوساطة والمصالحة والتقريب بين وجهات النظر بين الفرقاء ومن خلال تكوين عدد من المختصين في مجال الوساطة عبر فروعها المحلية لتوفير الآليات الكفيلة بنزع فتيل التوترات والمساعدة على حل الخلافات التي لا يخلو منها أي تجمّع بشري.
حرصٌ على تمكين الأطراف المحلية
في طريقة عمله، يحرص “المركز السويسري للوساطة في مجال السلام، والحوار وبناء السلام في شمال إفريقيارابط خارجي” على إحالة مُعالجة الملف وإدارة الوساطات إلى الأطراف المحلية. ويؤكد باسكال غيمبرلي أن هذا يندرج ضمن” المبادئ التي نؤسّس عليها عملنا”، ويضيف “عندما نشتغل على إيجاد حل لخلاف منجمي في المغرب أو في تونس مثلا، فإنه من المهم جدا بالنسبة لنا – بالإضافة إلى إسهامنا ببعض التجارب والخبرات – على مسألة “التملك المحلي” للمسار، وعلى أن تنبع الحلول من أصحاب الشأن، أي من السكان المحليين من أبناء المنطقة، على أن يقتصر دورنا على الدعم والإسناد وتقديم المشورة”.
“نحن لا نأتي بأفكار أو حلول مُسبقة ثم نقوم بفرضها بل ننظر كيف تسير الأمور في السياق العملي ثم نتأقلم مع الإحتياجات. هناك أيضا القبول المحلي (بدورنا كوسطاء) وهذا أمر أساسي، حيث يتعيّن تقوية القدرات المحلية وتعزيز استقلاليتها من خلال مُرافقة كل مشروع – مثلما حصل في المغرب وتونس – بعملية تكوين وتأهيل معمّقة في مجال الوساطة مُعترف بها من طرف “الغرفة السويسرية للوساطة التجاريةرابط خارجي“.
يُلفت غيمبرلي إلى أن هذا التكوين “يُشكل جزءا من عملية الوساطة نفسها، حيث نقوم بتدريب المشاركين على تقنيات الوساطة، لكننا لاحظنا أن تطورا جيّدا يحدث في واقع الأمر. في المغرب مثلا، كان لدينا في بداية الدورة مندوبون عن الشركة المنجمية وممثلون عن المجتمع المدني لم تكن لديهم الرغبة في مجرد رؤية بعضهم البعض بسبب حدة الخلافات وحجم التوتر الذي كان سائدا، لكنهم تحولوا إلى أصدقاء في نهاية الدورة. هذا العنصر يُشكل جزءا من الوساطة، وجزءا من التطور الذاتي ومن السعي إلى تفهّم الآخر لأنهم يقومون – خلال عملية التدريب – بتجسيد حالات ومواقف ومُحاكاة نماذج عملية تنطبق على وضعيتهم. المهم هنا هو ما نسميه “تغيير الآفاق”، حيث لا بد في كل عملية وساطة من تغيير النظرة إلى الذات وإلى الآخر، ولا يُمكن الوصول إلى حل إلا من خلال تبادل الآراء وعبر آليات الحوار”.
قبل عام 2016، لم يكن المركزرابط خارجي الذي كان يحمل تسمية أخرى يُركّـز اهتمامه على منطقة جغرافية محددة مثلما يقول مديره باسكال غيمبرلي. فقد أشرف القائمون عليه على “إدارة حوار بين عدد من الفرقاء في منطقة جنوب البلقان”، كما أسهموا بشكل ملموس في “إعداد وبلورة مضامين شهادة ماجستير لعلوم السلام تشترك في تأمينها جامعات بازل وسراييفو وزغرب وبلغراد”، وتابعوا أيضا “مشروع وساطة في أمريكا اللاتينية بشأن خلاف منجمي كانت شركة سويسرية طرفا فيه”.
لأسباب تتعلق بـ “الضرورة المؤسساتية”، تم اتخاذ قرار بالتركيز على منطقة جغرافية محددة، “فنحن في الواقع هيكل صغير ولكن باهتمامات عريضة جدا وببرامج ممتدة من جنوب البلقان إلى أمريكا اللاتينية إلى شمال أفريقيا، ورأينا أن المسألة بدأت تتضخم خصوصا وأنه يتعيّن علينا في كل مرة – إذا ما أردنا أن نقوم بعملنا بشكل جدي – فهم السياقات والأوضاع الخاصة بكل بلد أو منطقة (لجهة الثقافة، والمجتمع، والهيكلة…)، وهو ما يعني أن نستأنف العمل من الصفر مع كل حالة جديدة سواء تعلق الأمر بالتدريب أو بتأسيس شبكة من العلاقات أو بمعرفة الأشخاص… لذلك رأينا أنه من الأفضل تركيز اهتمامنا على منطقة محددة من أجل إجادة فهمها، وحتى يتسنّى لنا الإستفادة من المعارف المتجمّعة لدينا ومن تراكم التجارب”، كما يقول غيمبرلي.
لقد وقع الإختيار على الشمال الإفريقي بحكمأن “المشروع المتعلق بهذه المنطقة حينها كان الأكثر إثارة للأهمية، كما أنه كان يُوجد لدينا على مستوى الفريق المُسيّر القدر الأكبر من الإهتمام بهذه المنطقة، والعدد الأكبر من الخبرات المتاحة، لذلك استقر الرأي في نهاية المطاف بشكل بديهي على اختيارها”.
سلام سلبي.. وآخرُ إيجابي
في سياق التعريف بنفسه، يُشدد المركز على أنه سويسري وعلى ما يكتسيه ذلك من أهمية للمنهجية التي يتوخاها ولطريقة عمله. فهل يعني هذا وجود فروقات كبيرة بينه وبين مؤسسات مثيلة من فنلندا أو السويد أو المملكة المتحدة أو نيوزيلاندا مثلا؟ بعد لحظات تأمل، يقول غيمبرلي: “حسب رأيي، لا يوجد أي فرق على مستوى الخبرات والكفاءة بما في ذلك الجمعيات المحلية العاملة في المنطقة المغاربية.. في المقابل، ليس لدينا – كفاعل سويسري – أي ماض استعماري، كما أننا نتوفر على تقليد عريق في مجال السلم، مثلما هو الحال في إدارة الإختلافات والفوارق على مستوى الإنتماءات الدينية أو اللغوية على مستوى الكانتونات ومعالجة النزاعات والخلافات منذ زمن بعيد من خلال آليات الفدرالية على مستوى الأدوات السياسية. عموما، لدينا خبرة طويلة في مُعالجة التنوع، فهذا أمر مترسّخ في ثقافتنا، بل ربما في بصمتنا الوراثية (يضحك).. أضف إلى ذلك مسألة اللغة الفرنسية. صحيح أن المغرب العربي يتحدث العربية والأمازيغية لكنه فرنكوفوني أيضا، لذلك يُمكننا العمل (هناك) بالفرنسية أيضا. من جهة أخرى، تحظى سويسرا بقدر كبير من الإحترام والتقدير كطرف مُحايد في المنطقة، إضافة إلى ما تشتهر به عن جدارة بأنها بلد مُحايد وحريص على الإسهام في إحلال السلام”.
في هذا المجال، تلعب الخبرة التي راكمها السويسريون دورا لا يُستهان به حيث “تتحرك برن على محور مهم للترويج للوساطة على جميع المستويات سواء تعلق الأمر بمفاوضات بين الدول أو من خلال المساعي الحميدة أو من خلال الدعم المقدم للمنظمات غير الحكومية”، إضافة إلى نقاط قوة لا يُستهان بها في هذا المجال “فنحن مُحايدون تماما،وأعتقد أن لدينا مصداقية كبيرة على هذا المستوى لأن الشرط الأساسي لنجاح أي عملية وساطة يتمثل في الحياد التام للوسيط”، كما يقول مدير المركز.
الشرط الأساسي لنجاح أيّ عملية وساطة يتمثل في الحياد التام للوسيط
في أدبيات المركز يتكرر الحديث أيضا عن الهدف المتمثل في “العمل من أجل تعزيز السلم”، لكن بلدان شمال افريقيا – على عكس دول المشرق العربي – لم تشهد منذ عشرات السنين حروبا بالمعنى الحرفي للكلمة. صحيح أنها سجلت حدوث انتفاضات شعبية وهبّات جماهيرية وعمليات إرهابية هنا وهناك ومحاولات تمرد مسلح أحيانا، لكنها لم تكن مسرحا لمواجهات عسكرية بين جيوش نظامية منذ ستينيات القرن الماضي. فما المقصود إذن من “بناء السلام” في هذه المنطقة من العالم؟ يُجيب باسكال غيمبرلي: “في العديد من الأحيان، يظن الناس أن السلام يعني عدم وجود حروب، لكن هذا المفهوم يُوصف من طرف بعض الباحثين بـ “السلم السلبي”، أما السلم الإيجابي فهو أمر أكثر شمولية، ويعني – حسب إحدى التعريفات الرائجة – أنه يُوجد لدى كل كائن بشري وكل مجتمع القدرة على تحويل نزاعاته وتجاوزها بطريقة إيجابية من أجل بلورة واقع جديد والسير نحو وضع جديد وأفضل.. إذ لا مفر من أن نستوعب أن المشاكل والنزاعات مسألة بشرية كما أنها طبيعية، وأنه من الممكن أن تُساعدنا على التحسّن والإرتقاء”.
هناك أيضا “الوقاية من العنف” التي تندرج ضمن الأهداف التي يسعى المركز إلى تحقيقها من خلال عمله، لكن ظواهر العنف التي تشتكي منها المجتمعات المغاربية والعربية عموما هذه الأيام عادة ما تكون نتيجة لتراكمات طويلة من مخلفات عنف منهجي مارسته قوات الإحتلال في الفترة التي سبقت حصول هذه البلدان على استقلالها أو من عنف وبطش السلطات الحاكمة في هذه الدولة أو تلك. كيف يُساهم “المركز السويسري للوساطة في مجال السلام، والحوار وبناء السلام في شمال أفريقيا” في الوقاية من العنف في البلدان المغاربية؟ يعود غيمبرلي للتذكير بأن الأمر يتعلق مُجددا بمفهوم السلم.. “ذلك أن العنف هو نقيض للسلم السلبي (أي غياب العنف وعدم وجود الحرب) في حين أن السلم الإيجابي لا يعني مجرد غياب الحرب بل عدم وجود ظلم أو انتهاكات، وقدرة المجتمعات على الإدارة البناءة للخلافات والنزاعات، وعلى هذا المستوى نُسهم في الوقاية من اندلاع العنف. نحن لسنا في مقاربة أمنية تستدعي التدخل الفوري للحيلولة دون اندلاع مواجهات أو صدامات هنا أو هناك، بل في مسار طويل المدى، حيث نقوم بإتاحة الآليات ووسائل العمل. في المغرب مثلا، قمنا بتكوين عشرين وسيط بدأوا بعدُ في العمل، حيث ساهم أحدهم مؤخرا في إدارة خلاف يتعلق بالأراضي الجماعية (60% من مُجمل الأراضي الصالحة للزراعة في المغرب جماعية)، ومن خلال ما يقوم به الوسطاء الذين تدربوا وأتقنوا الآليات والمقاربة نقوم فعلا بالوقاية من العنف بشكل مُسبق”.
كيف تتم الأمور عمليا؟
عمليا، هل يُبادر المركز بالإتصال بالجهات التي اندلع بينها الخلاف ويعرض خدماته عليها أم أن المبادرة تنطلق من إحدى الأطراف المتنازعة أم من جهات رسمية كوزارة الخارجية السويسرية مثلا؟ يجيب مُحاورنا: “في الواقع، يُمكن القول أن الجواب يتشكل من مزيج من الحالات الثلاث. لنأخذ مثلا أكبر مشروعين نشتغل عليهما حاليا في المغرب الأقصى، وآخر في قفصة بتونس. ففي إطار الخلاف المنجمي في إيميضر (جنوب شرق المغرب)، كان لديّ أصدقاء شخصيون وأعضاء في منظمة غير حكومية كانت طرفا في إدارة هذه الوضعية الخلافية. وبمناسبة إحدى زياراتي إلى المغرب، تبادلنا أطراف الحديث ومن خلال النقاش اكتشفوا طبيعة عملي وقالوا نحن بحاجة لمثل هذا بالفعل. وعندها بدأنا في تنظيم دورات تدريبية لفائدتهم. لقد كانوا هم الوسطاء، أما نحن فاقتصر دورنا على تقديم الدعم من خلال التكوين وشرح كيفية سير عملية التفاوض”.
“أما في تونس، فقد أتيحت لنا في عام 2016 فرصة لقاء في جنيف في إطار الأمم المتحدة مع رباعي الحوار الوطني الحائز على جائزة نوبل للسلام (الإتحاد العام التونسي للشغل والإتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والعمادة الوطنية للمحامين التونسيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان) وتبادلنا أطراف الحديث حول الأوضاع في محافظة قفصة والأزمة القائمة في منطقة الحوض المنجمي، وكان من رأيهم أن تدخّل هيئة سويسرية مُحايدة (تقدم من خارج الإطار المحلي تماما) يُمكن أن يكون مُفيدا في التوصل إلى حل. وبالفعل تحولنا على عين المكان في نوفمبر 2016 لتحليل الوضع، ثم عرضنا تصورنا لمشروع يُحدد كيفية عملنا على وزارة الخارجية السويسرية التي وجدت أنه مثير للإهتمام”، ومن ثم قررت المساهمة في تمويله.
السلم الإيجابي لا يعني مجرد غياب الحرب بل عدم وجود ظلم أو انتهاكات، وقدرة المجتمعات على الإدارة البناءة للخلافات والنزاعات
تجربة ناجحة في المغرب
في المغرب الأقصى، شارك المركز في إدارة وساطة بشأن خلاف مزمن كان قائما بين السكان وشركة منجمية تستخرج الفضة في جنوب شرق البلاد. يقول باسكال غيمبرلي: “في الواقع، يتعلق الأمر بشركة منجمية خاصة («إيميتير ميتالورجيك» (IMITER METTALURGIC CO)، المملوكة لـ “مجموعة مناجمرابط خارجي” التابعة بدورها لمجموعة “أونا” التي يُعدّ العاهل المغربي مالكها الرئيسي – التحرير)، وقد تمت دعوتنا من طرف منظمة غير حكومية وهي النسيج الجمعوي للتنمية والديمقراطية في زاكورةرابط خارجي (Razded) التي كانت قد بدأت بعدُ في مُعالجة هذا النزاع عن طريق الوساطة لأنها تحديدا من المنظمات التي تعمل من أجل الترويج لحقوق الإنسان والتنمية كما أنها بنّاءة إلى حد كبير في مقاربتها. فقد كانت على تواصل مع مسؤولي الشركة ومع السكان في نفس الوقت، لذلك كانت في وضعية جيدّة (مع أنه يُفترض من الناحية الإيتيقية أن يكون الوسيط مُحايدا تماما) رغم أنها لم تكن مُحايدة بشكل كامل (بحكم أنها جمعية تُعنى بتحسين ظروف السكان وبالتنمية في المنطقة)، لكنها تصرفت بطريقة سمحت لها بلعب دور الوسيط المقبول. هنا، قمنا بتوفير الإسناد (Mediation support) لهذه المنظمة – الوسيط، حيث قمنا (بعيدا عن الواجهة) بتنظيم دورات تدريبية تتعلق بأدوات وآليات الوساطة لفائدة مسؤولين في الشركة المنجمية ونشطاء جمعويين وحتى مواطنين عاديين.. لقد اقتصر دورنا على الدعم والإسناد، أما عملية الوساطة فقد أنجزها النشطاء بأنفسهم”.
في نهاية المطاف، أسفرت الوساطة عن نتائج جيدة كما يوضح غيمبرلي، حيث “يُمكن القول بأن التجربة كانت أنموذجا رائعا. فقد تم التوصل إلى اتفاقيات بين الطرفين شملت إنفاق ملايين الفرنكات السويسرية، دفعت نصفها الشركة المنجمية وتكفلت “المبادرة الوطنية للتنمية البشريةرابط خارجي” بتأمين شطرها الثاني. فقد تم بعد التفاوض الذي شمل عقد العديد من الجلسات مع شتى الفعاليات والأطراف المعنية من طرف الوسيط، إلى بلورة اتفاق تنموي ذو طابع اقتصادي واجتماعي، ورغم بعض الإنتقادات أو المؤاخذات فإن عملية تطبيقه لا زالت مستمرة حتى الآن. لكن دعني أذكر بعض الأمثلة العملية التي وردت في الإتفاق: فقد تم تأسيس تعاونية نسائية تقوم باستخدام الكميات المتبقية من معدن الفضة المُستخرج من المنجم والتي لا تستطيع الشركة الإستفادة منها من أجل تحويلها إلى حلي. وهذا أمر رائع! صحيح أن هذا النشاط لا يُوفر المئات من مواطن الشغل، لكنه يسمح بتوفير مورد رزق للبعض من سكان المنطقة ويُؤسّس لتعاونية نسائية نشطة”.
وماذا عن الأزمة المستمرة في الحسيمة منذ شهر أكتوبر 2016؟ هل طلب من فرعكم المحلي في المغرب القيام بوساطة هناك؟ يُجيب مدير المركز: “إلى حد هذه اللحظة لم يطلب أحد منا ذلك. أبلغنا المعنيين أننا مستعدون لذلك. لا بد من القول بأن المنطقة المغاربية، التي يُمكن القول أنها شقيقة أوروبا إلى حد ما تعز علينا جميعا – أنا شخصيا وبقية أعضاء الجمعية والهيئة المديرة – وبحكم تجاربنا ومساراتنا المهنية والحياتية فنحن نظل تحت الطلب وعلى استعداد للمساهمة في التوصل إلى حل. في الأثناء، أظن أنه تم تشكيل ائتلاف لمنظمات المجتمع المدني في الحسيمة، وهم يتوفرون على عدد من الخبرات المشهود لها في مجال الوساطة.. وفي جميع الأحوال، يظل مركزنا جاهزا لدعم الوساطة (على مستوى المنهجية والمسار)”.
في تونس لا زلنا في بداية المشوار..
في محافظة قفصة التونسية وفي منطقة الحوض المنجمي الواقعة جنوب غرب تونس، يُذكّر باسكال غيمبرلي بأن “تاريخ اندلاع الأزمة التي أسفرت عن سقوط ضحايا هناك يعود إلى عام 2008، حيث يذهب البعض إلى أنها مهّدت لاندلاع شرارة الربيع العربي (من سيدي بوزيد المجاورة لها في 17 ديسمبر 2010 – التحرير)، وبما أننا اشتغلنا على نزاع منجمي في المغرب أثار هذا الملف اهتمامنا وتواصلنا على هامش لقاء نُظم في إطار الأمم المتحدة في جنيف مع رباعي الحوار الوطني الذين رحّبوا بالفكرة ورأوا أن دخول فاعل سويسري مُحايد على الخط قد يُسهم إيجابيا في حلحلة الموقف. إثر ذلك، تحولنا في خريف 2016 على عين المكان حيث نظم لنا فرعنا المحلي (مثلما هو الحال في المغرب) الكثير من اللقاءات في العاصمة وفي قفصة مع حوالي 30 – 40 شخصا من ممثلي الشركةرابط خارجي والسلطات والنقابات والمنظمات غير الحكومية ومن هيئات المجتمع المدني عموما. إجمالا، كان الجميع يقول لنا: إن المسألة مُعقدة جدا ولكن لم لا؟ فلديكم التجربة التي خضتم في المغرب، كما أنكم تقدُمون من خارج المنظومة المحلية، وقد تأتون ببعض الأفكار الجديدة.. لم لا؟ إثر ذلك، قمنا بإعداد مشروع وعرضناه على وزارة الخارجية السويسرية التي وافقت على تمويله وطلبت منا في وقت لاحق وضعه موضع التنفيذ”.
“في اللحظة الراهنة، يواصل غيمبرلي، لا زلنا فعلا في بداية المسار، حيث تتسم الأمور بقدر كبير من الحيوية.. فبالنسبة لنا كانت الفكرة الأصلية تتمثل في تنظيم منتدى في قفصة بمشاركة جميع الأطراف المعنية من أجل وضع جرد كامل للأوضاع القائمة (ما الذي يشتغل بشكل جيد؟ ما الذي لا يسير كما ينبغي؟ ما هي الأمور المستعجلة؟…)، إلا أنه اتضح لنا بعد زيارتنا الثانية التي قمنا بها في شهر يناير 2017، أن هذا لن يكون مُمكنا، وأن هذه المقاربة ليست فكرة جيدة، حيث نُخاطر بفتح “صندوق الشرور” وبعدم القدرة تاليا على إغلاقه بله التحكم فيه. لذلك غيّرنا الأسلوب، وبدأنا بتنظيم منتديات للمجتمع المدني في المعتمديات (أي مديريات أو أقضية) الأربع المعنية (الرديف، المظيلة، أم العرائس، المتلوي) تضم ممثلين عن منظمات المجتمع المدني في كل واحدة منها نظرا لأن المشاغل تختلف من معتمدية إلى أخرى (الصحة في المتلوي، التنمية والتشغيل في الرديف، مثلا)، كما أن أسلوب رفع المطالب يتسم بالإختلاف، فهناك من يُطالب بأساليب نضالية قوية تصل إلى حد تعطيل النقل الحديدي، وهناك من يميل أكثر إلى اعتماد الوسائل الحوارية. لذلك، لا بد من التوصل في بداية الأمر إلى رؤية يُشاطرها ممثلو المجتمع المدني، لأنه لا جدوى من الوصول إلى مفاوضات في ظل وجود اختلافات فيما بينهم. لذلك بدأنا في شهر مايو الماضي بتنظيم هذه المنتديات الأربع، لكن الطريق لا زال طويلا”.
في إطار مقاربته الحريصة على “التملك المحلي”، دخل “المركز السويسري للوساطة في مجال السلام، والحوار وبناء السلام في شمال أفريقيا” على خط هذه الأزمة كما يقول مديره “كوسطاء بشكل ما، حيث تحولنا على عين المكان، وأجرينا لقاءات مع الأطراف المعنية”. ومع أن البعض انتقد دخول “طرف أجنبي” على الخط في خلاف محلي ولاحظ آخرون أنه كان من المفترض أن يقوم فاعلون محليون بهذا العمل “لكننا لم نتعرض لانتقادات متشنجة جدا، بل لاحظنا قدرا كبيرا من الإنفتاح. وأظن أن مُقاربتنا أسهمت في حسن القبول بنا. فقد دخلنا كوسيط ولكن دون أن نكون على علم مُسبق إلى أين نحن سائرون، أما الآن وبعد تنظيمنا لمنتديات المجتمع المدني، فسوف نأخذ ممثلا عن كل طرف: ممثل عن كل مكون من مكونات رباعي الحوار الوطني، وممثل عن شركة فسفاط قفصة (التي تُشرف على تسيير وإدارة المناجم في المنطقة – التحرير) وممثل عن السلطة المحلية (الوالي أو المعتمد، لم يتقرر بعد)، ومُمثليْن عن المجتمع المدني في كل معتمدية (8 في المجموع)، وهكذا سنقوم بتشكيل لجنة توجيهية (Steering committee) تتركب من 20 شخصا، وهي التي ستقوم بدور الوسيط، وعندها نعود نحن لممارسة دور الداعم والمُساعد”.
إقبال متزايد على الوساطة والتحكيم
من خلال هذه التجربة القصيرة في مجال الوساطة في المنطقة المغاربية، توصّل باسكال غيمبرلي إلى أن “الوساطة مترسّخة في الثقافة المغاربية وفي الثقافة الإسلامية عموما”، ويُضيف بأنه “على عكس الشائع بأن أول “وسيط رسمي” Ombudsman ظهر في السويد، فقد اكتشفتُ في سياق بحث قمت به أن ملك السويد استنبط الفكرة إثر زيارة قام بها إلى الدولة العثمانية حيث كانت هذه الوظيفة موجودة منذ فترة”. وبحكم أن الوساطة تُشكل “موقفا” و”ثقافة” في واقع الأمر، فإن “ما يُمكن أن نُساهم به نحن يظل مرتبطا بأخلاقيات المهنة والتقنيات ونوعية الأسئلة التي يتعيّن طرحها وسير العملية” بشكل عام.
في السياق، يعتقد غيمبرلي أن الوساطة والتحكيم ستكون “أكثر حضورا مستقبلا في المنطقة سواء جاءت الطلبات من طرف الحكومات أو من جانب المؤسسات الإقتصادية أو من منظمات المجتمع المدني”، بل لا يتردد في القول بأنها “بصدد التحول إلى ظاهرة شبه كونية.. صحيح أن الإنسانية عرفت الوساطة والتدخل لحل المشاكل منذ القدم، لكن الآليات الحديثة والأخلاقيات الجديدة لهذه الحركة تمت بلورتها منذ منتصف القرن الماضي انطلاقا من الولايات المتحدة ثم تطورت في أوروبا..”.
أما اليوم، فإن مدير “المركز السويسري للوساطة في مجال السلام، والحوار وبناء السلام في شمال أفريقيا” يُلاحظ توجّها عاما إلى “المزيد من الوساطات بين الدول وهو ما يقوم به الدبلوماسيون أساسا، وهناك أيضا الوساطات بين المجموعات سواء كانت مسلحة أم لا أو بين الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات الإقتصادية عموما وهو صنف من الوساطة يشهد تطورا هائلا نظرا لما فيه من فوائد جمّة تسمح بتجنب العديد من الخسائر الفادحة بالنسبة للشركات والمجتمعات والدول على حد السواء، وتفادي الكثير من العنف والمعاناة ومن تراكم الملفات أمام المحاكم”، على حد قوله. وبحكم ما تشهده المنطقة المغاربية منذ سنوات من توترات اجتماعية ونزاعات شتى محلية وجهوية وإقليمية، يبدو أن أوراشا ضخمة تنتظر “المركز السويسري للوساطة في مجال السلام، والحوار وبناء السلام في شمال أفريقيا” وجهود الوساطة والتحكيم بمختلف أصنافها في هذه المنطقة المضطربة نسبيا.
ماذا عن بقية بلدان الشمال الإفريقي؟
نظم “المركز السويسري للوساطة في مجال السلام، والحوار وبناء السلام في شمال أفريقيا” دورة تكوينية لعدد من المواطنين الجزائريين لكن لا زال من غير الواضح ما إذا كانت هناك متابعة للمسألة أم لا.
في ليبيا، هناك نشاط لا بأس به لعدد من الفاعلين السويسريين، لكن المسألة تظل مرتبطة بالنسبة للمركز بتوفر الموارد المالية والبشرية، إضافة إلى أن “درجة المخاطر ومستوى العنف لا زال مرتفعا جدا” في هذا البلد المغاربي.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.