“الكثير من جرائم الحرب” مقابل “القليل جداً من العدالة”!
أعلنت آلية التحقيق المُشتركة للأمم المتحدة استنتاجاتها النهائية حول الهجوم الكيمياوى الذى وقع فى شهر أبريل 2017 على بلدة خان شيخون شمال غرب سوريا، والذي أسفَر عن مَصرَع ما لا يقل عن 80 شخصاً.
قال محققون في الامم المتحدة يوم 27 أكتوبر المُنصرم، أن مادة السارين الكيميائية التي تؤثــر على الأعصاب قد استُخدِمَت في الهجوم على بلدة خان شيخون التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، كما أعربوا عن قناعتهم الراسخة بشأن “مسؤولية الحكومة السورية عن هذا الهجوم الجوي”.
هذه الإستنتاجات لم تأت بشكل مفاجئ على الإطلاق، سيما وأن التحقيقات الأولية التي أجرتها منظمة حَظر الأسلحة الكيميائيةرابط خارجي و لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا كانت قد قدَّمت أدلة قوية بشأن ما حدث في خان شيخون بالفعل.
لكن، وحتى مع اتضاح ظروف الهجوم الآن، لا تتوفر هناك إجابة حقيقية حول ما يَتَعَيّن القيام به حيال ذلك. ومعروف، أن الأسلحة الكيميائية محظورة بموجب القانون الدولي؛ كما يُعَدّ اللجوء إلى استخدامها جريمة حَرب. بَيد أنَّ التهمة لم تُوَجَّه إلى أحد، كما أن أحداً لا يَخضَع للمحاكمة. ومع التقدم البطيء جداً في محادثات السلام السورية، فإن مؤشرات تحقيق العدالة في أي وقت قريب تكاد أن تكون معدومة.
إفلات عالمي من العقاب؟
بطبيعة الحال، ليست سوريا سوى مثال واحد على ما يَحدُث في جميع أنحاء العالم. فبالكاد ما يَمُر أسبوع في جنيف، دون أن تُصدر الأمم المتحدة هذا التقرير أو ذاك لِدَقّ ناقوس الخَطَر بشأن الانتهاكات “التي ترقى إلى جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية” التي تحدث في كافة أرجاء المعمورة.
وفي شهر سبتمبر وحده، قَدَّم تقرير حول بورندي صادر عن الأمم المُتحدة أدلة على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية؛ وأمَرَ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدةرابط خارجي بإجراء تحقيق في جرائم الحرب المزعومة في اليمن؛ كما وَصف مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أعمال العُنف التي تُمارَس ضد مُجتمع الروهينغا في ميانمار بـ “المثال الصارخ للتطهير العِرقي”.
وفي 26 أكتوبر أيضاً، وهو ذات اليوم الذى صدر فيه تقرير الأمم المتحدة حول هجوم غاز السارين، أعرَبَ مفوض الامم المتحدة لحقوق الانسان عن غَضَبه بشأن الوَضع الإنساني للمدنيين فى الغوطة الشرقية المُحاصرة بريف دمشق. وبلهجة أشبَه ما تكون بالمُتعبة، ذَكَّرَ زيد بن رعد الحسين، المفوض السامي لحقوق الإنسان الأطراف المُتنازعة بأن “استخدام التجويع المُتَعَمَّد للمدنيين كوسيلة من وسائل الحرب إنما يُشَكِّل انتهاكاً واضحاً للقانون الإنساني الدولي، وقد يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية أو جريمة حرب”.
هل تحدث هناك المَزيد من جرائم الحرب إذن؟ وهل تتفاقم حالات الإفلات من العقاب؟ عند توجيه هذا السؤال إلى فيليب غرانترابط خارجي، مدير منظمة ‘تريال إترناشيونالرابط خارجي’ (Trial International) غير الحكومية [المعنية بالإفلات من العقاب] والتي تتخذ من جنيف مقرا لها، لم يَبدُ متأكداً تماماً.
“يجب أن يكون هناك بعض التحليل العلمي بهذا الصدد”، بحسب المحامي الحاصل على شهادة الدكتوراه في القانون الدستوري. “لا اعتقد أنَّ حالات الافلات من العقاب في تزايد، وعلى الاقل توجد هناك مؤسسات، وعدد متزايد من البلدان التي تتعامل مع هذه المسألة بجدية”.
وتُعتَبَر منظمة ‘تريال إترناشيونال’ الحقوقية واحدة من المنظمات غير الحكومية التي تحاول جَمع الأدلة حول مُرتكبي جرائم الحرب المزعومين، واستخدام القانون المتاح لتقديمهم للعدالة. وتتضمن الطرق المُستخدمة لتقديم المتهمين للعدالة المحاكم الجنائية الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أو المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، وتطبيق عدد متزايد من البلدان لمفهوم “الولاية القضائية العالمية”، [وهي إحدى الأدوات الأساسية لضمان مَنع الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنسانية وتجريم مُرتكبيها وقمعها] التي تعَتَبر بعض الجرائم من الجسامة بحيث يمكن للدول المطالبة بمُحاكمة أحد المتهمين أمام محاكمها بِصَرف النظر عن جنسيته، وبغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة المزعومة، أو تسليمه إلى دولة طرف معنية أخرى لمحاكمته.
حالات معقدة
في الوقت الراهن، تعمل ‘’تريال إنترناشيونال’ على قضية كهذه بالضبط هنا في سويسرا. ويدل تعقيد وعُمُر هذه القضية على مدى الصعوبة التي يمكن أن تكتنفها العملية القانونية المحيطة بجرائم الحرب المزعومة.
ففي عام 1982، وقبل عقود طويلة من الهجوم بغاز السارين على بلدة خان شيخون، وقعت هناك جرائم حَرب مزعومة أخرى في مدينة حماة السورية، عندما قام الجيش السوري بقيادة العقيد رفعت الأسد – شقيق الرئيس السوري السابق حافظ الأسد وعَمّ الرئيس الحالي – بتطويق مدينة حماة وقصفها بالمدفعية ومن ثَمَّ اجتياحها عسكريا، وارتكاب مَجزَرة مُرَوِعة لِقَمع إنتفاضة قام بها معارضون من أهالي المدينة.
وكما أشارَت التقارير، أسفرت هذه المجزرة عن قتل آلآف الأشخاص من أهالي المدينة، كان غالبيتهم من المدنيين. واليوم يعيش رفعت الأسد في فرنسا، كما كان يتردد على سويسرا بانتظام في الماضي. وقد قامت منظمة ‘تريال إنترناشيونال’ بِجَمع أدلة عن هذه الحملة العسكرية الإنتقامية من عدد من شهود العيان والضحايا، وأعطتها لمكتب المدعي العام السويسريرابط خارجي، الذي فتح تحقيقا بالموضوع في ديسمبر 2013.
مع ذلك، لم تحرز القضية تقدماً لحد الآن، الأمر الذي اعتبرته ‘تريال إنترناشيونال’ مُخيباً للآمال، ودعاها إلى تحدي الادعاء العام علناً والمطالبة بالعدالة لموكليها الشهر الماضي.
لكن النيابة العامة الفيدرالية تقول أن القضية مُعقدة وسوف تستغرق بعض الوقت، لأن الأحداث وقعت “منذ زمن بعيد”. ولكن بعض الضحايا المزعومين يعتقدون ان مُعاناتهم مُهمَلة. ومع وصفه إجراءات التحقيق السويسري بـ “المتلكئة” حتى الآن، قال فيليب غرانت “أن هذا [التماهل] يبعث رسالة خطيرة إلى الأطراف المُتحاربة اليوم في سوريا. ومن المهم أن يكون واضحاً تماماً بالنسبة لهؤلاء أنهم لن يفلتوا من يَد العدالة”.
نجاح في ليبيريا
على الجانب الآخر، إستطاعت منظمة ‘سيفيتاس ماكسيما’ التي يقع مقرها في سويسرا أيضاً، تحقيق نجاح مؤخراً بتقديمها بعض مُنتَهكي حقوق الإنسان إلى المحاكمة. وتجتهد هذه المنظمة [التي تقوم بتقديم التمثيل القانوني المُستَقِل لضحايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية] باقتفاء آثار مُجرمي الحرب المُشتبه فيهم، والذين يلجأ العديد منهم إلى الفرار من بلدانهم عقب انتهاء الصراع. وكانت المنظمة قد توصلت إلى أن ‘أمير الحرب’ الليبيري محمد جباته المعروف باسم “جنغل جابّاه” (Jungle Jabbah) كان موجودا في الولايات المتحدة، ومُنِحَ حق اللجوء فيها منذ عدة سنوات.
وبغية بلوغ هدفها، تعيَّن على ‘سيفيتاس ماكسيما’ أن تثبت أن جباته كَذَبَ على سلطات اللجوء والهجرة الأمريكية بشأن مشاركته في الحرب الأهلية في ليبيريا. ولتحقيق ذلك، سافر 20 شاهداً من ليبيريا إلى الولايات المتحدة، حيث قَدَّموا أدلة مُروعة تثبت تورط جباتة في القتل والاغتصاب وأكْل لُحُوم البَشَر.
وفي يوم 18 أكتوبر، وجدت محكمة أمريكية أن جباته مُذنب في تُهمَتي إحتيال، بالإضافة إلى تُهمَتين تتعلق باليمين الكاذب. ولم تكن جريمته في الولايات المتحدة متعلقة باقتراف جرائم حرب، ولكن بتقديم طلب لجوء يستند إلى معلومات كاذبة، تدعي إنتماءه إلى الجهة المُضْطَهَدة وليس المُضْطَهِدة. لكن جباته أدين مع ذلك، وهو يواجه عقوبة السجن لمدة تصل إلى 30 عاما.
وفى بيان أعلنته بهذه المناسبة، أعتبرت منظمة ‘سيفيتاس ماكسيما’ هذه القضية في غاية الأهمية لانها تؤشر “المرة الاولى التى استطاع فيها الضحايا الليبيريون الإدلاء بشهاداتهم حول الفظائع التى تعرضوا لها خلال الحرب الاهلية الليبيرية الاولى فى محاكمة علنية وعادلة”.
الضحايا بحاجة إلى الصبر
ورغم النتائج المتباينة جداً لحالتي رفعت الأسد ومحمد جباتة، لكنهما تمثلان مؤشرا على شيء واحد، هو أن إقامة دعوى قضائية على أعمال العُنف الوحشية المروعة، التي لا يستغرق تنفيذها غالباً سوى دقائق معدودة، يمكن أن تستغرق عقوداً.
أما المحامي الأمريكي ريد برودي من منظمة ‘هيومن رايتس واتشرابط خارجي’ واللجنة الدولية للعدالةرابط خارجي فيرى أنَّ “معظم الأشخاص يُفلتون من العقاب في النهاية”. وبدوره عمل برودي مؤخراً في محاكمة تاريخية تخص الرئيس التشادي السابق حسين حبري. وكما أشار، كانت هذه “محاكمة قادها الضحايا”، عَزَمَ خلالها الاشخاص الذين عانوا تحت حكم حبري على تحقيق العدالة.
وبعد سنوات من المحاولات القانونية في بلجيكا وتشاد – والعديد من التأخيرات – أحيل حبري أخيراً إلى محكمة خاصة بالسنغال في العام الماضي. وقد أدين الرئيس التشادي السابق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وحُكِمَ عليه بالسجن المؤبد. وهذه هي المرّة الأولى التي يُحاكم فيها رئيس دولة في محاكم دولة آخرى.
ويرى برودي أنَّ هذه القضية وتلك التي قدمتها منظمتا ‘تريال إنترناشيونال’ و‘سيفيتاس ماكسيما’، هي مؤشر إيجابي يُظهر أنه، وعلى الرغم من إفلات العديد من مُجرمي الحرب المُشتَبَه بهم، إلّا أنَّ الموقف تجاه مثل هذه الجرائم اليوم هو أشد وطأة، وبأن البُنية التَحتية لِدَعم مُقاضاة هؤلاء تزداد صرامة نتيجة لذلك. وكما قال مؤكداً: “انها اشارة الى ان المجتمع الدولى مستعد لملاحقة المسؤولين قضائياً”.
ويؤمن المحامي المُتَخَصِّص في حقوق الإنسان أن كل هذه الاعمال الورقية في جنيف تُسفر عن شيء ايجابي. وكما قال: “تعكس جميع هذه الاعلانات والتقارير الصادرة من جنيف المبدأ القائل بأن إرتكابك لمثل هذه الجرائم يجب يُخضِعُك للعدالة”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.