نحو إعادة الإعتبار “للأطفال – الرقيق” في سويسرا
تستعد الكنفدرالية لردّ الاعتبار لعشرات الآلاف من الأطفال الذين سلّموا إلى مزارعين أو حُبسوا في مراكز إدارية إلى حدود عام 1981. ولئن رحبت العديد من المنظمات المدافعة عن هؤلاء الضحايا بذلك، فإنها تطالب بتقديم تعويضات مالية لهم، لكن هذه المعركة ستكون صعبة بلا شك.
ويقول بول ستوتسمان: “لقد ولدت بدون أب، وسلّمتني أمّي إلى جدّتي. وعندما توفيت جدّتي، سلّموني إلى راهبات، قمن هنّ بدورهنّ بتسليمي إلى مزارع. كان عليّ حلب الأبقار قبل الذهاب إلى المدرسة، وكان يعاملني بقسوة. كنت لا أساوي شيئا”.
هذا الرجل المنحدر من فريبورغ، والبالغ من العمر 72 عاما، هو واحد من 100.000 طفل وُضعوا في مراكز إيواء أو سلموا لعائلات تقوم على رعايتهم وتنشئتهم طوال القرن التاسع عشر والقرن العشرين في سويسرا. وقد تعرّض هؤلاء الأطفال، الذين كان ينظر إليهم على أنهم يد عاملة رخيصة، إلى الضرب أحيانا، وكانوا يعانون من سوء التغذية، ومن الإستغلال الجنسي. أما “الأمهات العزبات” أو “المهمّشين” ، فقد سجنوا دون محاكمة أو أودعوا في مصحات الأمراض العقلية حتى الثمانينات من القرن الماضي. وصادف أن أعطت السلطات الضوء الأخضر في بعض الأحيان لخصي هذه الفئة أو تعقيمها ضد الإنجاب، كما سمحت بالتبنّي القسري للأطفال.
مع بداية الألفية الثالثة، بدأت وسائل الإعلام في نشر بعض الشهادات، ما دفع بعض البرلمانيين لإثارة هذا الموضوع. ولسنوات طويلة، تقاذفت الكنائس والبلديات والكانتونات والحكومة الفدرالية المسؤولية عما حدث، في حين هوّن البعض من خطورة سوء المعاملة التي تعرّض لها الأطفال المنسيون. لكن الأمور بدأت تتحرّك بسرعة بداية من عام 2010، وبعد تدخّل العديد من قوى الضغط، حصل العديد من الأشخاص الذين تعرّضوا للإعتقال الإداري بسجن Hindelbank ببرن على اعتذار رسمي من كل من الحكومة الفدرالية وحكومة الكانتون.
وها قد حدث ما لم يكن متوقّعا. فقد تمت دعوة كل ضحايا “الإكراه مقابل الحصول على المساعدة” إلى حفل لإحياء تلك الذكرى يوم 11 أبريل في برن، بحضور وزيرة العدل والشرطة، سيمونيتا سوماروغا، وممثلين عن مؤسسات الدولة الفدرالية والكنائس والكانتونات والمدن واتحاد المزارعين السويسريين،…. يوم تاريخي تجتمع فيه كل الأطراف المعنية لأوّل مرة. كما سيكون من بين الحضور النائب البرلماني السابق الذي عيّنته السيدة سوماروغا للإشراف على عملية التحكيم في العلاقة بين الضحايا والمؤسسات التي شاركت في انتهاك حقوقهم.
مخجلة جدا أم مؤلمة جدا
يقول فالتر زفالن، رئيس جمعية “شبكة الطفولة المسلوبة” تأسست في عام 2008: “في ذلك الوقت، كان ينظر إلى إساءة معاملة الأطفال كأمر عاديّ، والفقر كعيب لابد من معالجته بالعمل. في يوم من الأيام، دعاني هؤلاء الأشخاص، ولقد تأثّرت كثيرا بالقصص التي رووها لي، والتي لا أستطيع روايتها مرة ثانية”. ويقدّر عدد هؤلاء الاطفال بعشرة آلاف نسمة، لكن عدد اعضاء هذه الجمعية لا يتجاوز الاربعين. ويضيف زفالن: “كثيرون يمنعهم الخجل من التعريف بأنفسهم، ويخشون آلام الماضي فيتجنبون فتح جراح الماضي”.
ولا توجد دراسة وطنية شاملة حول هذه الظاهرة لأن الأرشيف موزّع بين الكانتونات، والبلديات، والمؤسسات، وربما تعرّض إلى الإتلاف. ولهذا السبب تبقى الشهادات الشفوية عمليا المصدر الوحيد الذي يحظى بالثقة. ولسد هذا النقص، كوّن فالتر زفالن مكتبة من 620 كتابا تتضمّن شهادات من بلدان أوروبية مختلفة. وقد أوضح هذا الأخير: “أن الوضع متشابه في بلدان اخرى، وأيضا هناك، الوثائق حول “الطفولة المسلوبة” أقلّ مما هي في سويسرا، ولكن الأدلّة متناسقة سواء كانت هذه الشهادات من ألمانيا وبولندا او من تشيكوسلوفاكيا والنرويج”.
المزيد
طفولة مسلوبة في مراكز إيواء سويسرية
سنوات من الضغط
يشير بيار أفانزينو، أستاذ سابق بالمدرسة العليا للعمل الإجتماعي بلوزان وخبير مؤلف للعديد من الدراسات إلى أنه “لا يمكن القول أن هذه المشكلة لم تكن موجودة. فالكثير من العائلات لديها أقارب تعرّضوا إلى الإكراه مقابل الحصول على مساعدة. ويضيف هذا المؤرّخ: “في عام 1987، أُعيد تأهيل الأطفال الغجر الذين اختطفوا من آبائهم وأمهاتهم، وحصلوا على تعويضات مالية. هذا الامر كان سهلا، لأن عملية “أطفال الغجر” (1926 – 1972) أشرفت على تنفيذها الحكومة الفدرالية. فالأرشيف كان محفوظا مركزيا، إلى درجة انه كان من المستحيل على الحكومة أن تفلت من تقديم الاعتذارات والتعويضات!”.
تطلّب الأمر بالنسبة للأطفال المسخّرين أو الأطفال الذين أخضعوا إلى الحجز الإداري ممارسة ضغوط لعدة سنوات، وتنظيم إضرابات جوع واللجوء إلى المحكمة الاوروبية لحقوق الإنسان، وكذلك تهيئة معرض يتنقّل من مكان إلى آخر عبر سويسرا منذ 2009، لكي تقدّم بعض الكانتونات مثل برن ولوتسرن وفريبورغ وتورغاو اعتذاراتها في النهاية.
ويُطالب إلتماسان برلمانيان بتقديم جبر معنوي للأضرار و إطلاق برنامج للبحوث الوطنية، لكن أحزاب اليمين، وكذلك أغلبية أعضاء اللجنة القانونية بمجلس النواب، يرفضون الحديث بشكل قاطع عن جبر ماديّ للأضرار.
المليارات المثيرة للجدل
قدمت الصحيفة اليومية الشعبية “بليك” بالتعاون مع الخبير الاقتصادي في أحد البنوك الكبيرة أرقاما تفيد بأن “العمل المجاني الذي أداه الأطفال قد جنت منه الزراعة ما بين 20 و65 مليار فرنك. ويعيش حوالي 10.000 من أولئك الأطفال – الرقيق لا يزالون على قيد الحياة، ومن المفترض أن يحصلوا على 1.2 مليار فرنك”.
ويرى فالتر زفالن أن هذا الرقم المقترح “واقعي” وبالنسبة له “إذا احتسبنا معدّل ما يقارب عن تسع سنوات من العمل، نجد 16,000 فرنك في الأربعينات يقابلها حاليا 120.000 فرنك سويسري”. ويعترف اتحاد المزارعين السويسريين بهذا “الفصل المظلم من تاريخ سويسرا”، لكنه غير مستعد لتقديم اعتذارات أو تعويضات. ويقول جاك بورجوا، رئيس هذا الإتحاد: “من الصعب، إن لم نقل من المستحيل، بعد هذه السنوات الطويلة تحديد مبلغ كتعويضات إجمالية لا تأخذ بعيْن الإعتبار أوضاع أولئك الأطفال، وهي أوضاع تختلف من حالة إلى أخرى”.
أما بيار أفانزينو، فيرتابه الشك، ويقول: “لابد من ضغوط سياسية قوية، ولا أرى ذلك في المستقبل المنظور، فالمسألة إلى حد الآن لم تتجاوز حدود بعض الأشخاص. وهذه الظاهرة التاريخية لا يوجد أدنى توافق حولها، وأعتقد أن هؤلاء الاطفال –الرقيق لا يساوون شيئا بالنسبة للسياسيين. ولكن إذا أردنا أن نقوم بشيء من اجل هؤلاء، فلابد من التحرّك بسرعة، لأن هؤلاء الضحايا بصدد الاختفاء بسرعة”.
وبالنسبة لبول ستوتسمان، هل سيذهب إلى برن يوم 11 أبريل”، يجيب المعني بالأمر بصوت لا يخفي ما يخالجه من تردد: “ليس لديّ الشجاعة لمواجهة الأضواء. ثم انا الآن لديّ حياة جيّدة ، وكل ما جرى هو جزء من الماضي البعيد، لقد تغيّر الوضع الآن”.
لم تخضع عملية رعاية الأطفال وتربيتهم خارج نطاق الأسرة إلي الدراسة والتمحيص العلمي حتى الآن. ولكن السلطات تعترف الآن بأنه، وحتى سنة 1981، بتعرّض أحداث وشبان إلى الإكراه مقابل الحصول على المساعدة، وقد اودعوا في مؤسسات خاصة أو لدى مزارعين خواص.
1944: نشرت الأسبوعية الشهيرة «Die Nation» تقريرا حول مركز سوننبرغ لإيواء الفتيان (كانتون لوتسرن)، أعدّه الصحفي السويسري بيتر سورافا والمصوّر الصحفي بول سين. وتم عقب نشر التقرير غلق هذه المؤسسة وإدانة مديرها بإساءة معاملة أولئك الفتيان.
1974: نشر الصحفي والسياسي آرثر هونيجر “الصعود”، وهي رواية في صورة سرد جزئي للسيرة الذاتية للأطفال الذين أخذوا من عائلاتهم قسرا، وأودعوا في مؤسسات مغلقة أو سلموا لمزارعين كيد عاملة رخيصة. وقد بيع من تلك الرواية ازيد من 100.000 نسخة.
1981: بعد سبع من المصادقة على الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، تمت إضافة أحكام جديدة للتشريعات السويسرية حول منع الإكراه والإجراءات القسرية مقابل الحصول على المساعدة.
1991: أصدر المؤرّخ البرنوي ماركو لوينبرغر، وكان أبوه أحد الذين تعرّضوا للإكراه وللإجراءات التعسفية في الصغر، دراسة موسعة حول الموضوع، وهي الدراسة التاريخية الفريدة من نوعها حتى الآن.
1999: إطلاق مبادرة برلمانية تدعو للتعويض ماديا لضحايا التعقيم القسري، لكن لم يحدث شيئا من ذلك حتى الآن.
2009 – 2013: يحتوي المعرض المتنقّل “الطفولة المسلوبة” على أزيد من 300 شهادة وصور تعود إلى عقود مضت. وقد نظّم هذا المعرض في أزيد من 12 مدينة سويسرية وزاره إلى حد الآن أزيد من 85.000 زائرا.
في عام 2010، في سجن النساء بهيندلبانك (برن)، وردّا عن التماس برلماني، اعتذرت وزيرة العدل والشرطة آنذاك إيفلين فيدمر- شلومبف عن اخضاع الأبرياء للإعتقال الإداري دون أي وجه حق.
2011: إدراج التماسيْن برلمانيين: الأوّل، لإعادة تأهيل الأشخاص الذين أخذوا من أهليهم بموجب قرار إداري، والثاني، الداعي إلى إجراء دراسات تاريخية حول ما حدث بالضبط، ومطالبة الحكومة الفدرالية بتقديم اعتذار للأطفال الذين أخضعوا لإجراءات إكراه مقابل حصولهم على المساعدة. وحتى كتابة هذا التقرير، تقدمت الكانتونات التالية : برن، لوتسيرن، فريبورغ، تورغاو، باعتذارات رسمية إلى الضحايا.
(نقله من الفرنسية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.