هل تحتاج وكالات المعونة الإنسانية إلى المَزيد من ثقافة رُعاة البقر؟
في نهاية العام الماضي، كنت قد تناولتُ العشاء مع مجموعة من عمال الإغاثة رفيعي المستوى، قبل مناقشة في اليوم التالي حول معايير النزاهة وتقاسم المخاطر في منظمات المساعدة الإنسانية.
في ذلك الوقت، قمنا بمناقشة الوجه المتغير للعمل الإنساني على مَر السنين. “لقد ولَّت أيام رُعاة البقر”، كما قال أحد الموجودين، “ومن المُرَجَّح أنني كنت واحداً من هؤلاء.”
لم يكن الرجل بحاجة لأن يوضح لي ما يعنيه بـ “رُعاة البقر”. فأي صحفي سَبَقَ له وأن أمضى وقتاً في مناطق الصراع والأزمات كان سيُصادِفهم: عمال الإغاثة الدؤوبون، الذين يَنْقَضّون بطائراتهم الخفيفة وهم ينظرون حولهم لتحديد ما ينبغي فعله، ثم ينفذون ذلك بالضبط دون طرح الكثير من الأسئلة بالضرورة. في العادة يكون هؤلاء من الرجال ذوي البشرة البيضاء، وعادة ما يكونون مُتفانين جداً في عملهم، وقد يكونون مغرورين بعض الشيء، ويُطلقون تعليقات ساخرة في الغالب.
لكن رُعاة البقر هؤلاء أصبحوا نادرين بعض الشيء في يومنا هذا. وعلى مَر السنين، كان هناك قَدَر كبير من البحث عن الذات بين مُجتمع المساعدة الإنسانية، ليس فقط بسبب الفضائح التي تصدرت عناوين الصحف، مثل تلك المتعلقة بفضيحة تَحَرُّش جنسي طالت عدداً من موظفي منظمة “أوكسفام بريطانيا” في هايتي، ولكن أيضاً لأن وكالات الإغاثة تَعَلَّمت أن عملها سيكون أكثر فعّالية في حال قامت بإشراك الأشخاص الذين تحاول مساعدتهم والاستمتع إليهم.
لقد عاد هذا الحديث إلى ذهني بينما كنت أستَعِد للإصدار التالي من بودكاست “من داخل جنيف” (Inside Geneva). كنت أسأل نفسي: ماذا تفعل وكالات المَعونة لضمان التعامل النزيه؟ من الذي يتحقق من ذلك؟ كيف نعرف أن عمال الإغاثة يَفون بوعودهم حقاً؟ وما هو رأي المجتمعات التي تقول هذه الوكالات أنها تساعدهم بالعاملين فيها؟
معايير أساسية
في الواقع، توجد هناك منظمة غير معروفة كثيراً ولكنها مفيدة للغاية تقوم بِرَصد المعايير المُتَّبعة في عالم العمل الإنساني، تعرف باسم “تحالف المعايير الانسانية الأساسية” (CHS Alliance). وقد تأسس هذا التحالف المُكَوَّن من عدة شبكات عاملة في القطاع الانساني والتنموي في عام 2015، وهو يضم اليوم أكثر من 150 عضواً، معظمهم منظمات تقدم مساعدات إنسانية.
يطلب تحالف المعايير الانسانية الأساسية من وكالات المعونة بالتوقيع على مجموعة من تسعة معايير أساسية، من ضمان تسليم المساعدة بكفاءة، إلى إنشاء قنوات للتعرف على ردود أفعال المجتمعات المتضررة، ووصولاً إلى المبدأ البسيط المتمثل بـ “عدم إلحاق الضرر”. وقد نشر التحالف في شهر أكتوبر دراسة استقصائية استغرقت خمس سنوات حول كيفية التزام وكالات الإغاثة بهذه المعايير. ولمناقشة نتائج الدراسة، جَمع الـ “بودكاست” الخاص بنا المديرة التنفيذية للتحالف تانيا وودرابط خارجي وتشارلز أنطوان هوفمانرابط خارجي كبير مستشاري منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) بشأن المساءَلة.
الحوار كان عميقاً، وآمل أن تَستَمع إليه. وكما اتضح، فأن الخضوع للمساءَلة ليس بالسهولة التي قد نتصورها. وكما تشير تانيا وود بِحَقْ، فإننا “لو فكرنا بالمدارس، أو المستشفيات، أو أي مكان قد يوضع فيه أشخاصاً ضعفاء أو أطفال، فإننا سنكون واثقين تماماً من تلبية هذه المؤسسات لمعايير معينة”. وبالطبع، فإن الشيء ذاته يجب أن ينطبق على وكالات الإغاثة.
تشارلز أنطوان هوفمان يتفق مع هذا الرأي. وقد كانت اليونيسف أول وكالة تابعة للأمم المتحدة يتم “تقييمها” من ناحية المعايير الانسانية الأساسية من خلال مبادرة ضمان الجودة الإنسانيةرابط خارجي [وهي مراقب مُستقل للقطاع الإنساني والتنموي]، وهي عملية يصفها هوفمان بـ “القوية”. ومثل العديد من المنظمات الإنسانية المشاركة الأخرى، أحرزت اليونيسف نتائج جيدة في الإستفادة من التجربة وتحسين الأداء، ولكنها كانت أقل كفاءة عندما تعلق الأمر بالتواصل والمشاركة وآليات الشكاوى والتعقيبات.
ضغط من الجهات المانحة
الصورة التي تتكشف لنا هي واحدة تُسَلَّط فيها الضغوط من قبل المانحين لرؤية النتائج، والتي يُمكن أن تأتي على حساب الاستماع إلى مُجتمع ما وتقديم ما يحتاجه حقاً – بحسب هوفمانّ. “أعتقد أن هناك ضغطاً متنامياً لإظهار النتائج والأثر … ومن الجيد أنه يدفع وكالات الإغاثة لتحقيق أكبر قيمة مقابل المال. ولكن علينا أن نكون حذرين بعض الشيء، ففي بعض الأحيان يكون هناك خطر يتمثل في تفضيلنا للنتائج الواضحة للغاية والأشياء التي يمكن قياسها بسهولة أكبر”.
يقدِّر دافعو الضرائب في البلدان المانحة الغنية أشياء مثل تثبيت 20 مرحاضاً في منطقة تعرضت لزلزال، أو تسليم آلاف اللقاحات إلى بلد تفشى فيه وباء فيروس الإيبولا. لكن هناك أسئلة أخرى خلف تلك الإحصائيات المرضية، تحتاج وكالات الإغاثة إلى تخصيص وقت لمناقشتها مع المجتمع المحلي. على سبيل المثال: هل ثُبِّتَت المراحيض في مكان يشعر الجميع فيه بالأمان عند الاستخدام؟ هل يفهم الناس الغرض من لقاح ما؟ لقد تسبب عدم التعامل مع المجتمعات المحلية بشأن السؤال الأخير بالذات بحدوث مشاكل خطيرة في مكافحة مرض فيروس إيبولا.
الاعتراف والرفض
في عام 2020، الذي سيُسَجَّل في التاريخ بلا شك باعتباره عام الوباء العظيم، تَتَعَرَّض وكالات الإغاثة الكبيرة إلى ضغوط مُتنامية لمواجهة الأزمات العالمية والتوَصُّل إلى حلول. وقد أصبح الوضع اشبه بكأس السُم بالنسبة لمنظمة الصحة العالمية، التي شهدت – على الرغم من جهودها لتقديم المشورة والدَعم للدول المتضررة – رفض الولايات المتحدة لعملها، مع انسحاب واشنطن رسمياً من عضويتها ومعها ملايين الدولارات.
في الوقت نفسه، تم الاعتراف ببرنامج الغذاء العالمي كمُساهم في السلام، مع حصوله على جائزة نوبل للسلام لهذا العام (2020). وفيما قد يكون رداً على الموقف الأمريكي، قالت لجنة نوبل بوضوح إنها استندت في قرارها جزئياً إلى حقيقة أن “الحاجة إلى التضامن الدولي والتعاون مُتعدد الأطراف باتت أكثر وضوحاً من أي وقت مضى”.
في نهاية المطاف، ورغم أن عُمّال الإغاثة ليسوا بِقديسي العصر الحديث، لكنهم أيضاً ليسوا بالأشخاص البيروقراطيين الذين يهدرون المال كما يريدنا البعض أن نُصَدق. الأخطاء قد تُرتَكَب، والانتهاكات قد تحدث، ولا بُد من التصدي لهذه الحالات والتعامل معها بـ “عدم التسامح المُطلق” الذي وَعَدَت به جميع وكالات الإغاثة.
في الختام، تتمثل الوظيفة الأساسية للعمل الإنساني في إنقاذ الأرواح وحماية الفئات الأكثر ضعفاً، وهي مهمة نجحت فيها بشكل عام. مع ذلك، يجب ألا نَعتَد بأنفسنا أكثر مما ينبغي، وعلى رعاة البقر ان يواصلوا سعيهم في البحث عن الذات.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.