75 عاما من الشراكة الإجتماعية… بين الحقيقة والأسطورة
تماما مثلها مثل النظام الفدرالي، والتقاليد الإنسانية، والحياد، تعتبر الشراكة الإجتماعية أيضا واحدة من الدعائم التي تقوم عليها الخصوصية السويسرية. وبعد مرور 75 عاما عن توقيع أوّل اتفاق في مجال العمل بين النقابات والأعراف، يمرّ هذا النموذج اليوم باختبار عسير.
في أواخر شهر اكتوبر 2012، وبمقرّ فدرالية الأعراف بكانتون فو، الواقع في بتولوشينا، شارك أرباب العمل، والنقابات، وجامعيون، وسياسيون في مناقشة مستقبل العلاقات الإجتماعية في سويسرا. وقد تميّزت أعمال المؤتمر بالتبادل السلس لوجهات النظر، وبالإتفاق حول عديد النقاط، وبالسعي المشترك للحفاظ على النموذج المعتمد منذ 75 عاما. فهل نرى في هذا التوافق الإجتماعي الذي حلّ محلّ الصراع الطبقي أحد العناصر المكوّنة للحمض النووي المحدد للخصوصية السويسرية، أو إحدى الأساطير التي تم الإحتفاظ بها بعناية منذ 1937، العام الذي شهد توقيع أوّل اتفاقية اجتماعية بين النقابات ومنظمة الأعراف في قطاع صناعة الساعات؟
لكن المؤرخ أوليفيه مويلي، يرد بأن “الأمر يتعلّق بحالة تتويج لظاهرة تأسست عبر مراحل تعلمت عبرها سويسرا إدارة نزاعاتها، وابتكار الحلول المفيدة لها”. ويلفت المؤّرخ الأنظار إلى أن الصراعات الدينية التي عرفتها سويسرا الحديثة منذ تأسيسها في عام 1848 قد أعقبتها صراعات اجتماعية أجبرت الجميع على إيجاد سبل جديدة لإرساء علاقات مع الطرف المقابل. ثم يضيف: “في مرّات عديدة كان يمكن أن تكون فكرة سويسرا أو الفدرالية في حد ذاتها فكرة مدانة”.
هذه الإتفاقيات هي نص قانوني صادقت عليه المنظمات النقابية الممثلة للعمال من جهة والأعراف من جهة أخرى. وهي تحدد الظروف التي يُؤدى فيها العمل في وظيفة معينة، كما تنظّم العلاقة الثنائية بين الشركاء الإجتماعيين.
تشتمل كل اتفاقية جماعية على أحكام معيارية، خاصة في مجالي الأجور وساعات العمل، فضلا عن الأحكام التعاقدية المتعلقة بحقوق وواجبات كل الشركاء المتعاقدين، مثل ضرورة احترام التوافق والسِلم في مجال العمل.
في الواقع الملموس، يخضع واحد من اثنيْن فحسب من إجمالي الإجراء في سويسرا للإتفاقيات الجماعية في ميدان العمل. وعلى سبيل المقارنة، تبلغ هذه النسبة 2 من 3 في ألمانيا و4 من 5 في إيطاليا، أما في النمسا، فتكاد تشمل كل العمّال.
في المقابل، يحتكم النصف الثاني من العمال والأجراء السويسريين الذين لا تشملهم هذه الإتفاقيات الجماعية، حصريا إلى قانون العمل الفدرالي، الذي لا زال أقل تطوّرا مقارنة بما عليه الأمر في معظم البلدان الأوروبية.
من جهته، يرى كريستوف رايمون، مدير مركز الأعراف، الأمر نفسه تقريبا: “السِلم الوظيفي واتفاقيات العمل الجماعية اللتان تشكلان الركيزتيْن في هذا المجال لم تكونا نتيجة نظام معيّن أو منظومة فكرية بعينها، بل هما وليدتا ممارسة وتجربة. لقد سمح هذا النموذج من التفاوض حول حلول تأخذ بعين الإعتبار واقع كل قطاع اقتصادي على حاله، من دون تدخّل الدولة. واليوم توجد 620 اتفاقية عمل جماعية يخضع لها 1.8 مليون عامل في سويسرا”.
نموذج للنجاح؟
إذا كان العديد من المتدخلين، بما في ذلك، أعضاء في حكومات محلية لعدد من الكانتونات، مثل باسكال بروليس (فو)، وإيزابيل روشا (جنيف)، قد ربطا بين السِلم في مجال العمل، والرفاهية التي تعيشها البلاد، والإستقرار السياسي في سويسرا، فإن بيرنارد ديغن، وهو مؤرّخ من بازل، حاول ليّ عنق بعض الأفكار الشائعة. وبالنسبة إليه، فلا صحة لما يُشاع من أن سويسرا بلد رائد في مجال الشراكة الإجتماعية حيث يقول: “في بداية القرن العشرين، لم توقّع على الإتفاقيات الجماعية للعمل سوى الشركات الصغرى في مجال المهن والحرف. وعدد المشروعات التي وقعت على اتفاقيات مماثلة كانت أكثر من ذلك وأهم في بريطانيا وألمانيا”.
كما أنه لا يمكن – بحسب هذا المؤرّخ – إقامة علاقة سببية بين الازدهار والسِلم الإجتماعي: “بعض البلدان جابهت عددا كبيرا من الإضرابات، وأشير هنا إلى فرنسا في الستينات، لكنها سجّلت نسب نموا أعلى من تلك التي حققتها سويسرا”. وبطريقة تتسم بشيء من الإستفزاز، يرى المؤرّخ أن “عمليات التفتيش العسكرية للأسلحة والتجهيزات قد كلفت سويسرا عددا من أيام العمل تفوق بالتأكيد ما تسببت فيه الإضرابات العديدة في بلدان أخرى”.
من ناحيته، يؤكد هنري – جون طولون، المستشار في مجال التفاوض، أن السِّلم في مجال العمل يُوحي له أكثر بمعادلة الردع النووي، ويقول: “الأعراف يخشون من أن يتم تعطيل نشاط مؤسساتهم، والعمال قلقون من احتمال قيام الشركات بترحيل نشاطها إلى الخارج. حالة من الخوف والرعب تهيمنان على الجميع”.
تحوّلات عميقة
إيف فلوكيغر، الأستاذ بجامعة جنيف، يعتقد بدوره أن السِلم في ميدان العمل، إلى جانب التنويع الإقتصادي، ومعدلات الإنتاجية المرتفعة، قد ساعدت سويسرا على مواجهة الأزمة الإقتصادية بشكل أفضل من جيرانها: “هناك رابط قوي بين نسب البطالة ومعدلات الأجور، وهو ما يسمح بتحسين القدرة التنافسية ويساعد على امتصاص الصدمات. ويعود هذا الأمر في جزء كبير منه إلى اللامركزية في المفاوضات حول الاجور”.
أما اليوم، فيتفق الأعراف والنقابيون على السواء على أن الرؤية الواقعية بشأن الشراكة الإجتماعية التي من المفترض ان تفضي إليها المفاوضات تعترضها مصاعب جمة. ويرى أليخاندرو بيليسّاري أن التحوّلات العميقة التي شهدها ميدان العمل (توسّع قطاع الخدمات، والهشاشة، واستخدام العنصر النسوي وإستغلاله، والتنقّل الحر، على وجه الخصوص) خلال العشرين سنة الأخيرة، فضلا عن عمليات تمويل النشاط الإقتصادي والتي شهدت انزياحا ايديولوجيا في اتجاه الليبرالية الجديدة، كل ذلك أدى إلى إدخال الفوضى وعدم الإنتظام على الدوائر النقابية، وكذلك على مستوى منظمات الأعراف.
كذلك ينتهي بيار – ميشال فيدوداس، الأمين العام لفدرالية رجال الأعمال بكانتون فو، إلى نفس النتيجة تقريبا حيث يقول: “إن دور المقاول لم يعد يتجاوز مجرّد المحاور المالي، دور المرتزق. هذا التطوّر يهدد السِلم في مجال العمل ويضع الشراكة الاجتماعية في خطر”، ويضيف فيدوداس أن “ما يعزّز من جاذبية سويسرا ليس انعدام الإضرابات بل توفّر سوق عمل حرّة تسمح للشركات الأجنبية بتشغيل اليد العاملة والتخلّي عنها على النحو الذي تراه مناسبا”.
تسييس المفاوضات الإجتماعية
من جهة أخرى، يؤيد أليخاندرو بيليساري الرأي القائل بأن تدويل رأس المال وإدارة الشركات (50% من الشركات السويسرية يرأسها مسؤولون أجانب)، قد أدى إلى نشوء الصراعات من جديد، ويشير ممثل اتحاد النقابات العمالية في هذا السياق إلى قرار الإغلاق الأخير لموقع شركة “ميرك – سيرونو” في جنيف. ولمواجهة هذا النقص في مجال الشراكة الإجتماعية يرى أنه “يجب علينا أن نلتجئ أكثر فأكثر إلى (استخدام) أدوات الديمقراطية المباشرة”.
هذا التسييس للحوار الإجتماعي وهي ظاهرة أصبحت واضحة على وجه الخصوص من خلال العديد من المبادرات الشعبية (التي تطالب مثلا بإقرار إجازة سنوية بستة أسابيع، أو تقنين اعتماد حد أدنى للأجور، أو الدعوة إلى الحد من الفجوة بين الأجور)، لا تعجب بالمرة سابين فون دير فايد، من فدرالية الشركات في الأنحاء السويسرية المتحدثة بالفرنسية، التي تعتبر أن “تحويل النقاش من المفاوضات الإجتماعية إلى الحقل السياسي يُلحق الضرر بكلا الطرفيْن: النقابات والأعراف. ففي تلك الحالة، يفقد الجانبان نقاط قوة في المفاوضات. وهذا من شأنه أن يُقوّض في المستقبل السلم الإجتماعي”.
1936: خلال الأزمة الإقتصادية العالمية، قامت الحكومة السويسرية بتخفيض قيمة الدولار بنسبة 30%، وسمحت لوزير الإقتصاد بلعب دور الوسيط في النزاعات حول الأجور في ميدان العمل.
15 مايو 1937: توقيع أوّل اتفاقية جماعية وطنية بهدف تحقيق الاستقرار والسِلم في مجال العمل بين الفدرالية السويسرية للعمال في مجال المعادن والساعات، ومنظمات الأعراف ورجال الأعمال، ما وضع حدا لإضراب دام شهريْن. وتعهّدت الأطراف الموقعة على تلك الاتفاقية باحترام نظام يضمن الإستقرار والسلم الوظيفي. فرجال الأعمال يلتزمون بعدم تعطيل حركة الإنتاج، كغلق المصانع، والعمال يلتزمون بعدم اللجوء إلى الإضرابات.
19 يوليو 1937: تم توقيع اتفاقية كذلك بين منظمة الاعراف في مجال تصنيع المعدات والمعادن من جهة والنقابات من جهة اخرى.
1941: مرسوم من الحكومة الفدرالية يفرض إجبارية توقيع اتفاقيات جماعية في مجال العمل في القطاعات الأخرى.
أصبح الحق في الإضراب لأوّل مرة جزءً من الحقوق الأساسية في التعديل الدستوري الذي وافق عليه الشعب في استفتاء عام نظّم سنة 1999.
في عام 2012، بات أزيد من 70% من المشروعات وأكثر من 85% من العمال النشطين في ميدان صناعة الساعات والتكنولوجيات الدقيقة مشمولين باتفاقيات جماعية.
(نقله من الفرنسية وعالجه عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.