إعـلامٌ بديل حول الهجرة والمهاجرين في سويسرا
يسعى "صوت المهجر"، الموقع الإعلامي الإجتماعي الذي أطلقه برنامج التأهيل والتدريب التابع لمؤسسة استقبال المهاجرين بكانتون فُــو بالتعاون مع شركاء آخرين لأن يكون "صوت من لا صوت له"، وأن يقدّم صورة بديلة عن قضايا الهجرة والمهاجرين في الكنفدرالية.
في جزء منه، يعود الإشعاع المتزايد لهذا الموقع، الذي هو أقرب إلى صحيفة إلكترونية، إلى طرافة الرسالة التي انتدب نفسه إليها، وإلى تمسّكه بضوابط مهنية عالية، وهما ميزتان لا يفوّت القائمون عليه فرصة إلا ويذكّرون بهما.
منذ انطلاقتها، سعت هذه المدوّنة إلى أن تكون أداة فعّالة في التّواصل بين المهاجرين والمجتمع المُضيف بما يسهّل التّفاهم، ويوطّد العلاقات، إلى جانب كونها وسيلة من وسائل التّأهيل والتّدريب والتّطوير وأداة من أدوات الوقاية والعلاج من الإنعكاسات السلبيّة التي عادة ما ترافق ظواهر الهجرة ومفارقة الأحبة والأوطان.
فرصة للتدريب والتأهيل
ولكن، كيف نجحت مؤسسة عمومية متخصصة في استقبال اللاجئين والمهاجرين في تطوير مشروع إعلامي من هذاالقبيل؟ الجواب عن هذا السؤال بالنسبة للسيد عفيف الغانمي، أحد منسقي برامج تأهيل وتدريب المهاجرين بقسم التطوير والإندماج التابع لوحدة التأطير بمؤسسة استقبال المهاجرين بكانتون فو، موجود في القانون المنظّم لهذه البرامج. ويشرح قائلا: “ننظر إلى هذه المدوّنة من حيث هي إجراء من بين اجراءات أخرى ننفّذها في مجال رعاية وتطوير قدرات المهاجرين، و”صوت المهجر” يندرج في هذا الإطار ويمثل محور عمل برنامج التواصل والإعلام كواحد من برامجنا العديدة و المتنوعة”.
أمّا عن الأهداف المرجوة من برامج التأهيل عامة، فهي تتلخص حسب الغانمي في “توفير فرصة للتدرّب على وظيفة، وتجربة عملية للمشاركين بغرض استكمال تكوين مهني سابق، أو تحسين فرص عثورهم على عمل لاحقا، أو تمّلك معارف وخبرات جديدة في أفق عودتهم إلى بلدانهم الأصلية”. ولهذه البرامج أيضا بعد وقائي وعلاجي إزاء الأوضاع النفسية الهشة والسلوكات الإجتماعية المَرَضيّة التي عادة ما تُرافق عدم الإستقرار الإجتماعي والنفسي المنجرّ عن الهجرة من بلد إلى آخر.
في هذا السياق، توفّر مدوّنة “صوت المهجر” فرصة لمحرريها لكي يشعروا بأهميتهم، وإيجابيتهم في الحياة. ذلك أن كل مقال يكتبه المهاجر هو بحسب رئيس تحريرها عمر أودرمات: “عبارة عن مشروع في حد ذاته، لأننا نتمسّك بمستوى عال من الجودة، خاصة على مستوى إتقان اللغة ومهارة الكتابة، وهما شرطان لا يتوفران في بعض الأحيان في بعض المحررين”.
وفي مقال نُشر قبل فترة في يومية “لوكورييه” (تصدر بالفرنسية في جنيف)، كشف أحد المحرّرين في “صوت المهجر” ما تعنيه بالنسبة إليه هذه المدوّنة وكتب يقول: “بعد الإضطهاد الذي عشته في بلدي، في علاقة بمهنتي كصحفي، مثّلت “صوت المهجر” بالنسبة لي علاجا وسندا مكّنني من استعادة الثقة في النفس والعودة إلى الكتابة، وممارسة مهنتي من جديد”.
وفي هذا السياق، يُشدّد أودرمات على أن “هدفنا في النهاية أن ينجح المحرر الذي خاض هذه التجربة في الحصول على فرصة تدريب مهني في إحدى وسائل الإعلام، ولم لا الحصول على عقد عمل، وتمكينه من بطاقة صحفي”.
يمتد تاريخ “صوت المهجر” على فترة تزيد عن 12 عاما، حيث كانت البداية في شكل صحيفة ورقية تحمل اسم “طالب اللجوء”، ثمّ تحولت إلى “صوت المهجر” من أجل الإنفتاح على المهاجرين عامة.
ظلت هذه الصحيفة تطبع وتوزّع وتشارك فيها جميع الجهات المعنية باستقبال المهاجرين في الكانتونات الروماندية أي الناطقة بالفرنسية وهي: جنيف وفريبورغ وفو وفالي ونوشاتيل وجورا.
مع مرور الوقت، انسحبت من المشاركة في المشروع كل من فريبورغ، ثم الجورا، وجنيف، وفالي لأسباب تخص كلاّ منها، مما أدّى إلى توقّف الصحيفة عن الصدور في شكلها الورقي في بداية 2010. واشتمل آخر عدد ورقي منها ملفا حول اللاجئين.
في عام 2010، تقررّ تحويل صوت المهجر إلى “مدوّنة إلكترونية” للتخفيف من تكلفة الطباعة، وتم تحويل جزء من المصارف السابقة إلى أجور تُصرف للعاملين في هذا المجال وموارد لتطوير هذا البرنامج.
نجح كانتون فُـو في إعادة ربط التنسيق مع الشركاء السابقين في كانتوني نوشاتيل وفالي، وبالتالي أصبح للمدوّنة ثلاث هيئات تحرير، مما عزّز التعاون وحسّن مردوده.
بمرور الوقت، تحولت المُدونة إلى وسيلة اتصال مباشرة تُفسح المجال أمام اللاجئين والمهاجرين المُقيمين بسويسرا للتعبير عن أنفسهم بكل حرية وبلغات متعددة، وتقوم على التفاعل والمشاركة وتقدّم مجموعة واسعة من التحقيقات الصحفية والتغطيات الإخبارية الجادة.
الحاجة للتواصل
الدافع الآخر لإطلاق “صوت المهجر” يتمثل، بحسب رئيس تحرير الموقع، في “تقديم خطاب آخر حول ظاهرة الهجرة، خاصة وأن وسائل الإعلام تتحدث كثيرا على المهاجرين، وعادة ما يكون ذلك في سياقات سلبية، دون أن تمنحهم حق الكلام”. وفي العادة، تتوقّف وسائل الإعلام عند ما هو سطحيّ وظاهري، مثل العنف والإتجار في المخدّرات،… دون أن تغوص في ما وراء الظواهر، وتتوقّف عند أسبابها العميقة.
من جهة أخرى، لا تكتفي المدوّنة بكشف ما يبدو مغالطة في ما تقدّمه وسائل الإعلام التقليدية، بل تحاول أيضا لفت الأنظار إلى الوجه الآخر للهجرة، كالتأكيد على الثراء الذي يكتسبه المجتمع السويسري نتيجة تنوّع الثقافات، والمكاسب التي يحصل عليها اقتصاد البلاد بفعل إسهام المهاجرين والإنفتاح عليهم، خاصة وأن حوالي ربع السكان في سويسرا من أصول أجنبية.
لكن الأمر لا يتعلّق فقط بالتخاطب مع الخارج، فالمهاجرون أيضا في حاجة للتواصل فيما بينهم. وبالفعل، تحوّلت مدوّنة “صوت المهجر” خلال مسيرة السنوات الثلاث الماضية إلى نافذة يعبّر من خلالها المهاجرون بكل حرية عن مشاغلهم وتطلعاتهم، وكانت بمثابة “عملية تصحيح لوضع غير سليم، يكثر فيه الكلام عن المهاجرين، دون أن تعطى لهم الفرصة للكلام عن أنفسهم أو مخاطبة الرأي العام”، على حدّ قول عمر أودرمات.
ورغم الطابع التدريبي لهذا المشروع، نجحت مدوّنة “صوت المهجر” في الظفر باحترام القراء والمتابعين، نتيجة تمسّكها بما يسمّى “ميثاق النشر” الذي تنص إحدى فقراته على “ضرورة الابتعاد عن التسيس والإنتماءات الحزبية، وضرورة احترام أدبيات المهنة الصحفية ومبادئها الواردة في (بيان الواجبات والحقوق) الصادر عن الإتحاد السويسري للصحافيين”.
النسخة الإلكترونية هي الشكل الأمثل
نظرا للظروف الخاصة للمحررّين المشاركين في هذا العمل، اختار هذا المنبر الإعلامي التحوّل من صحيفة ورقية إلى مدوّنة إلكترونية، ويعدّد أودرمات مزايا ومبررات هذا الإختيار فيقول: “توفّر المدوّنة لنا مرونة لا تتيحها الصحف الورقية، وتسمح لنا بنشر المادة الإخبارية متى نريد من دون مواعيد زمنية مضبوطة رغم أننا نحرص على الانتظام والإنضباط”.
وفي الواقع، فإن “صوت المهجر” أقرب إلى الصحيفة الإلكترونية منه إلى مواقع التواصل الإجتماعي، وفضلا عن ذلك، فإن المدونة “تسمح لنا بإشعاع أوسع لأن ما ننشره يمكن متابعته والإطلاع عليه في العالم أجمع، ولسنا مجبرين على الإقتصار على الجمهور السويسري”، مثلما يقول أودرمات.
من جهته، يشير عفيف الغانمي إلى أن المدوّنة “توفّر مرونة من حيث طول المقالات وقصرها، وتجنّبنا ضغوط ومتطلّبات متابعة المستجدات أوّلا بأوّل، ما يسمح لنا بالتركيز أكثر على الجودة ، ويساعدنا على التعامل مع محررين يمرون بأوضاع غير مستقرة، كأن يقرر مثلا البعض منهم فجأة مغادرة سويسرا، وقد ينقطع البعض الآخر بعد العثور على عمل قار، أو على إثر قبول مطلب اللجوء بشأنهم أو صدور قرار بطردهم إلى بلدانهم”.
ومن خلال سماحها للكثيرين بالكتابة والتفاعل مع ما يُنشر، وفرت هذه المدونة الإلكترونية فرصة لتبديد بعض الأفكار المسبقة وكسر الصور النمطية حول المهاجرين لدى الجمهور، كما ساعدت من جهة أخرى على ربط عرى التواصل بين المهاجرين في ما بينهم من خلال تقديم نماذج لتجارب ناجحة أبطالها مهاجرون مقيمون في سويسرا.
التزام المهنية والموضوعية
لا تكتفي “صوت المهجر” بالدفاع عن صورة المهاجرين، بل تسعى إلى تقديم رؤية أخرى لقضايا المجتمع عامة من منظور المهاجرين. ويؤكّد الغانمي أن “انتماء الكاتب إلى فئة المهاجرين، يمنح هذا الموقع الإلكتروني ميزة لا تكون متاحة لغيره من وسائل الإعلام، أوّلا لقرب هؤلاء الكتاب من مصدر المعلومة، وثانيا، للثقة التي يحظون بها لدى المتعاونين معهم في إنتاج تقاريرهم”.
المتصفح لموقع “صوت المهجر” يلاحظ أيضا التميّز اللافت في اختيار كتاب المقالات المنشورة لنهج التحقيق الصحفي حول ظواهر اجتماعية معقّدة مثل الإستغلال الجنسي لأشخاص في أوضاع اجتماعية هشّة، ويعلّق عمر أودرمات على هذا المقال تحديدا فيقول: “لقد نجح كاتب المقال في كشف العديد من الحقائق الخفية، التي لا يراد لها ان تظهر على السطح في سويسرا”.
إضافة إلى ذلك، تتميّز المادة الإعلامية المنشورة باللجوء المكثّف لتقنية الحوار المباشر، وإعطاء الكلمة للمعني بالأمر. ومن ذلك التحقيق الصحفي حول ظاهرة تهريب المهاجرين عبر تركيا واليونان، أو عرض سيرة فتاة رواندية جاءت إلى سويسرا هربا من أتون حرب الإبادة التي تعرض إليها شعبها، فرفعت التحدي حيث درست علوم التمريض، وحصلت على عمل في المستشفى الجامعي بلوزان، ثم خصّصت جزءً مهما من وقتها لمساعدة المهاجرين على الإندماج وتخطي المصاعب، بما يؤكد أن الدافع الأساسي لهذا العمل يتلخص في “إعطاء الكلمة لمن لا صوت له”.
لعل الأهمّ من كل ما سبق، هو أن المنخرط في هذه التجربة يمتلك في نهاية المطاف جملة من المهارات والخبرات في مجالات الكتابة الصحفية والتواصل واستخدام المعلوماتية، بما يُفيده إما في مواصلة التجربة من خلال الإنخراط في سوق الشغل، أو إطلاق مدوّنة خاصة به في سويسرا أو في بلده الأصلي كما تمكّنه من بناء شبكة من العلاقات، وتعلّمه احترام الوقت، والقدرة على أخذ المبادرة، وكل ذلك مدعوم ومُوثّــق بشهادة يمنحها إياه قسم التطوير والإندماج (التابع لوحدة التأطير بمؤسسة استقبال المهاجرين بكانتون فو).
منذ انطلاقة هذه المدوّنة الإلكترونية، واصلت تطوّرها وتوسّع انتشارها. . وتشرف عليها اليوم ثلاث هيئات تحرير كانتونية، تنسّق أعمالها وتتكامل أفكارها ومشروعاتها. مما ساعد على استمرار تجدد محتويات هذه المدوّنة. وهنا حصيلة موجزة لما تمّ انجازه في عام 2012:
خلال العام المنقضي، نشرت مدوّنة “صوت المهجر” 74 مقالا، بعضها في شكل تحقيقات صحفية عميقة وذات مهنية عالية، جميعها حول موضوعات على علاقة بقضايا ملف الهجرة على المستويين الوطني (السويسري) والدولي، مثل ظاهرة البغاء القسري و الإتّجار في البشر في سويسرا، والتغطية الواسعة لأعمال قمة الفرنكفونية التي انعقدت في شهر أكتوبر 2012 بكنشاسا، وظاهرة تهريب المهاجرين والمخاطر الجمة التي تحيط بها.
تحاول مدوّنة “صوت المهجر” تنويع منتوجها الإعلامي حيث شهد العام الماضي انتاج أفلام وثائقية قصيرة، مثل الفيلم الذي أنتجه السيد كيرتيغان سيفاكومار بإمضاء سارة باج ،وهو أحد محرري المدوّنة، حول تحويل حائط أحد مراكز الإيواء بكانتون فالي إلى قطعة فنية رائعة، من طرف بعض طالبي اللجوء المقيمين بمونتاي.
المشاركة الفاعلة في إذاعة “قافلة الأحياء” FM التي نظمتها العام الماضي مدينة لوزان، وكانت فرصة ممتازة للعاملين في “صوت المهجر” للقيام على انجاز التغطيات الإخبارية عبر الإذاعة من خلال إجراء حوارات على الهواء مباشرة مع العاملين في المرافق الخاصة برعاية المهاجرين.
كما يتابع العاملون في هذه الوسيلة الإعلامية دورات تكوينية مستمرة في مجالي المعلوماتية والإنتاج السمعي البصري ومتعدّد الوسائط، إلى جانب تعلّم تقنيات الإنتاج الصّحفي و التدرّب عليها هذا، و يحضون بإحاطة متواصلة من طرف مرؤوسيهم و يشاركون بفعالية في الجلسات الدّورية لأسر التّحرير عل المستوى الكانتوني أو تلك التي تجمع الهيئات التّحريريّة الثّلاث.
ترافق هذا التطوّر بتوسّع انتشار وإشعاع مدوّنة “صوت المهجر”، وما يدلّل على ذلك، الزيادة المنتظمة لزوّار هذا الموقع الإلكتروني، فبينما كان عدد الزوار في السنة الأولى لانطلاق المدوّنة وبالتحديد في شهر أغسطس 2010، 3.348 زائرا، بلغ هذا العدد 25.316 زائرا في شهر نوفمبر 2012، وقد بلغ الرقم الإجمالي لعدد الزوار منذ انطلاقة المدوّنة 445.536 زائرا.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.