“الإعتراف” بالجاليات المُسلمة بين الهدف المثالي والواقع القانوني
الهدف المثالي هو أن تكسب الجاليات المُسلمة في سويسرا نفس الاعتراف الذي تتمتع به أبرز الكنائس المسيحية وعدد من الجميعات اليهودية. أما الواقع القانوني، فهو لا يعترف بأي "دين"، وإنما بـ "هيئات دينية" على مُستوى الكانتونات المخولة حصرا بإدارة الشؤون الدينية في سويسرا الفدرالية.
ولعل هذا هو مربط الفرس عند محاولة المرء فهم الأسباب الكامنة وراء عدم حصول أية جمعية إسلامية بعدُ على اعتراف يُقر لها بصبغة المنفعة العامة (وفقا للقانون العام المعمول به في الكنفدرالية).
“هدفنا هو أن يتم الاعتراف بالمجتمع الإسلامي كمؤسسة لها صبغة المنفعة العامة”. هذا ما صرح به في منتصف شهر مارس 2011 الدكتور هشام ميزر، رئيس فدرالية المنظمات الإسلامية في سويسرا بمناسبة الإعلان عن المشروع المشترك للفدرالية وتنسيقية المنظمات الإسلامية في سويسرا، والرامي إلى إنشاء “برلمان مُنتخب” لمسلمي سويسرا سيكون بمثابة الهيئة المُمثلة لجميع الجاليات المسلمة المقيمة في البلاد، والتي أطلق عليها إسم “أمة سويسرا”.
الحصول على اعتراف أفضل من قبل الدولة والشعب السويسريين هو ما تصبو إليه المؤسستان اللتان ترغبان في تحسين صورة الإسلام والمسلمين في سويسرا “لكي لا يخاف السويسريون بعدُ” من أتباع هذه الديانة التي تأثرت بشدة في كافة أنحاء العالم من التبعات السلبية جدا لأحداث 11 سبتمبر الإرهابية.
وفي حديثه إلى swissinfo.ch، قال الدكتور ميزر: “هذه الفكرة هزت بعض العروش بحيث بات الاهتمام بمعرفة بعض التفاصيل كبيرا جدا من قبل وسائل الإعلام والمؤسسات الكنسية وغير الكنسية والأوساط السياسية (…) وما نود الوصول إليه هو الاعتراف بالإسلام كدين يقدم إلى المجتمع السويسري أشياء كبيرة وكثيرة. فكل تنحي عن هذه الصورة، بعدم الإعتراف به كدين له وزنه وقيمته، يخلق أجواء أخرى (سلبية)، والمجتمع السويسري لا يستطيع أن يُبعدنا عن نفسه لفترات طويلة”.
ولكن ماذا يعني الإعتراف بـجمعية دينية كمؤسسة لها صبغة المنفعة العامــة؟
مُكتسبات الاعتراف.. وقيود الشراكة
الخبير السويسري في شؤون الإسلام والأديان د.أندرياس تونغر-زانيتي سلط الضوء في تصريحاته لـ swissinfo.ch على الدلالة القانونية لهذا الاعتراف وما يترتب عنه من مُكتسبات ومن قيود أيضا.
تونغر-زانيتي، وهو منسق مركز بحوث الأديان بجامعة لوتسرن، نوه في البداية إلى نقطة تسهم إلى حد كبير في توضيح مسألة الاعتراف بالمؤسسات الدينية في سويسرا، إذ أشار إلى أن معظم الجاليات الدينية في البلاد، من جمعيات ومؤسسات، هي مُنــَظــّمة على مستوى الكانتونات وفقا لمبادئ القانون الخاص.
وعندما تحصل جمعية دينية ما على اعتراف يمنحها صبغة “المنفعة العامة” (ضمن إطار القانون العام)، يتم الإرتقاء بوضعها القانوني بحيث تُمنح مكانة خاصة في نظر الدولة والمُجتمع. والدولة هنا تعني دولة الكانتون وليس العاصمة الفدرالية برن، بما أن الكانتونات الست والعشرين التي تتكون منها الكنفدرالية هي المخولة حصرا لإدارة الشؤون الدينية. ولكل كانتون قوانينه ومعاييره وتقاليده الخاصة في هذا المجال.
ويقول تونغر-زانتي ضمن هذا السياق: “التحول إلى هيئة مبنية على القانون العام، يعني أن الجمعية تمثل شيئا يشبه الدويلة (الكانتون)، بحيث تصبح شريكا وثيقا لها، ما يترتب عنه تلقائيا زيادة الولاء لتلك الدويلة. وبالتالي يجب على الجمعية مبدئيا أن تدعم الكانتون ودستوره،… إلخ، بحيث تقف إلى جانبه بشكل وثيق وتدعم النظام القائم فيه”.
وعلى عكس الإعتقاد السائد، لا تتمتع بصبغة المنفعة العامة كافة الكنائس المسيحية أو كافة الجميعات اليهودية في سويسرا. فعلى سبيل الذكر وليس الحصر، حصلت كنيسة المسيح الكاثوليكية التي تضم حوالي 14000 عضو على هذا الإعتراف في 12 كانتونا سويسريا. ومن جانبها، مُنحت الجاليات اليهودية الإعتراف كجميعات لها صبغة المنفعة العامة في خمسة كانتونات فقط: لأول مرة، في بازل عام 1972، ثم في فريبورغ بعد مضي حوالي 18 عاما، ثم في برن بعد حوالي 25 عاما. وفي بداية الألفية الجديدة، منح كانتونا زيورخ وفو للجاليات اليهودية نوعا مختلفا من الإعتراف ذي الطابع العمومي، الذي لا يؤثر على وضعها كجمعية خاصة.
ومن انعكاسات الحصول على صبغة المنفعة العامة التي يشير إليها تونغر-زانيتي، إمكانية اقتطاع الضرائب الدينية للأعضاء في الجمعية، والوصول السهل للمعطيات المُسجلة لدى السلطات بحيث يصبح من حق الجمعية معرفة هوية المُسلمين المقيمين في الكانتون والأشخاص الذين يُقرون في سجلاته الرسمية بأنهم يعتنقون دين الإسلام ولا يريدون “مغادرة” تلك الجالية الدينية (كما يغادر بعض المسيحيين الكنيسة للإفلات من الضرائب الدينية دون التخلي بالضرورة عن معتقداتهم، على سبيل المثال).
وتــُسَهّل صبغة المنفعة العامة للجمعيات الدينية الوصول إلى السجون والمستشفيات ودور العجزة. وهنا يشير الخبير السويسري في شؤون الإسلام والأديان إلى أن إدارات السجون في سويسرا تدرك بأن السجناء المسلمين يفترض أن يستفيدوا أيضا من مساعدة إمام أو شخص يثقون به. ولئن كان يُقر تونغر-زانيتي بأن تلك المساعدة متوفرة بالفعل في بعض الكانتونات، إلا أنه يعتقد بأن تمتع الجمعيات المسلمة بصبغة المنفعة العامة سيرسخ بشدة ذلك النوع من الدعم بحيث سيصبح مؤسساتيا، وستُمنح بموجبه للأئمة نفس حقوق القساوسة أو رجال الدين عموما العاملين في مجال السجون.
لكن التمتع بالاعتراف يعني أيضا التقيد بجملة من القواعد المعمول بها في الكانتون الذي يمنحه، كما يوضح تونغر-زانيتي. ومن أبرز القواعد التي يذكرها في هذا الصدد التقيد بالشفافية المالية واحترام مبدأ المساواة بين الجنسين. وينوه إلى أنه لا يمكن التمتع بصبغة المنفعة العامة وفي الآن نفسه نهج سياسة تهدف إلى تقويض أسس الدولة (كإصدار توصيات بعدم المشاركة في إحدى العمليات الانتخابية على سبيل المثال)، إذ يتعين على الجمعيات التي تسعى إلى هذا النوع من الاعتراف “العمومي” أن تكون معترفة بدورها بسيادة قانون كانتونها، وأن تكون بنفسها قائمة على نظام ديمقراطي.
“لا بد من إيجاد قاعدة ننطلق منها”
ولا تخفى عن الدكتور هشام ميزر طبيعة انعكاسات هذا النوع من الاعتراف بالمجتمع الإسلامي المنشود، إذ يقول في تصريحاته لـ swissinfo.ch: “لا تغيب عن أذهاننا بأن الاعتراف قد يقيد المسلمين (…) بحيث نفقد القدرة على التحرك بالحرية التي نتصورها في المجال الإسلامي. ونحن ناقشنا هذا الموضوع داخليا بين المؤسستين وقلنا إن هذا الاعتراف سيأتي علينا بالخير مثلما قد يأتي علينا بالويل”.
ولكن ذلك لا يثبط عزيمة المؤسستين الإسلاميتين اللتين أنشأتا لجنة مؤلفة من اختصاصيين في القانون العام ومن فقهاء وإسلاميين وإعلاميين وسياسيين لتطوير الوضع القانوني للـ “المجتمع الإسلامي المقبل” في سويسرا. وكــُلفت اللجنة بالتأكد من أن الكيان الجديد سوف يحترم القانون الفدرالي ويستجيب للمعايير المعمول بها في الكانتونات السويسرية الستة والعشرين.
ويقول الدكتور ميزر في هذا السياق: “نحن أردنا الانتقال من مرحلة إلى أخرى، والعمل ليس فقط لليوم وإنما أيضا للأجيال القادمة، ولذلك لا بد من إيجاد قاعدة ننطلق منها”. وتبدو جلية الرغبة في “رد الاعتبار” للجاليات المُسلمة من خلال مشروع “أمة سويسرا” ومن خلال تصريحات الدكتور ميرز الذي يضيف: “عندما ننظر للتطورات التي شهدتها السنوات العشر أو الخمسة عشرة الماضية، نجد بأن الإنسان المسلم كان يشعر وكأن عليه أن يعتذر لكونه مسلما، ووصل به الأمر لدرجة الاختباء والشعور بالإحباط، فليس لدينا وسيلة في هذا المجتمع لاستعادة قيمتنا الإنسانية إلا الحصول على الاعتراف، ليس الاعتراف المخبأ وإنما الاعتراف المُصرح، مع حرية التمتع به”.
ولا تغيب أيضا عن رئيس فدرالية المنظمات الإسلامية في سويسرا أن مسألة الإعتراف هاته على مستوى الكانتونات لا تتم بين عشية وضحاها قائلا: “بعض السياسيين (السويسريين) يقولون لنا أنتم تريدون أن تتسارع الأمور (…) انظروا إلى اليهود الذين احتاجوا لـ 300 سنة أو 200 سنة ليُعترف بهم، والكاثوليك الذين انتظروا 400 سنة قبل الاعتراف بهم في زيورخ مثلا من طرف البروتستانت، أو الكنسية الكاثوليكية التي لم يتم الاعتراف بها إلا في أواخر القرن الماضي. لكننا انطلقنا من هذه الخطوات لإيجاد الطريق الأنجع بالنسبة لنا كمسلمين، بطريقة وأفكار وهوية إسلامية، نستطيع أن نسير فيها. لذلك قمنا بالإستماع إلى المؤسسات الدينية الأخرى للتعرف على مسيراتها في هذا الإطار، بما جنته من فوائد أو مضار”.
اتفاق حول الغاية وتساؤلات حول الوسيلة
الدكتور هشام ميزر والخبير تونغر-زانيتي يتفقان على أن السعي إلى الاعتراف بالجاليات المسلمة هدف مشروع، وأن الاعتراف الحقيقي يأتي أولا من المُجتمع، لكنهما يختلفان حول الوسيلة الكفيلة ببلوغ الاعتراف القانوني.
فبينما يشدد تونغر-زانيتي على أن عملية الاعتراف بالجاليات الدينية كجمعيات لها صبغة المنفعة العامة لا تتم في الكنفدرالية انطلاقا من رأس الهرم إلى القاعدة، بل من الأسفل (من الكانتونات) إلى الأعلى (على المستوى الفدرالي)، وأن برن الفدرالية لن يمكنها أبدا التدخل لإجبار أي كانتون على الاعتراف بهذه الجمعية أو تلك، فإن الدكتور ميزر يظل على قناعة بأن “الفدرالية هي التي تضع سكة الحديد التي يسير عليها القطار، وهي التي ترسم الإطار”. ويؤكد ضمن هذا السياق قائلا: “نحن نعلم أن (إدارة) تسعين في المأئة من أمور الحياة اليومية المتعلقة بالدين تقع ضمن صلاحيات البلديات والكانتونات، هذا أمر مفروغ منه، ولكن الفدرالية هي التي تمنح الإطار”.
فهل سيتمكن مشروع برلمان المسلمين المنتخب من إحداث ثورة حقيقية في الأسس المُنظمة للشؤون الدينية في سويسرا الفدرالية؟ الدكتور ميزر يقول بوضوح: “نحن لا نريد أن نقدم إليهم حزمة من المطالب لإجبارهم على تغيير الدستور أو ما إلى ذلك، بل نقوم بعمل يتطلب نظرة غير مسرعة (…) ونطرح جملة من التساؤلات من قبيل: إلى أين نريد أن نصل في غضون ثلاث أو خمس سنوات. وهذه أشياء لا بد من مناقشتها ومعرفة إمكانيات تحقيقها، هل هي واقعية أم لا؟”.
وبينما يستمر عمل المؤسستين الإسلاميتين للتمييز بين الممكن والمستحيل في مشروعهما، يواصل الدكتور ميزر طرح نفس السؤال على المشككين في نجاعة السبيل الذي تسلكه المؤسستان من أجل الإعتراف بـ “أمة سويسرا” قائلا: “ماذا تنوون تقديمه أنتم للجاليات الإسلامية؟ ما هو البديل؟”
يبلغ عدد المسلمين في سويسرا، بحسب آخر إحصاء فدرالي (أجري عام 2000)، 310000 نسمة ويرجح الخبراء أن يصل عددهم في الوقت الحاضر إلى 400 ألف شخص.
تضاعف عدد المسلمين عدة مرات في السنوات الأخيرة، خاصة بعد انفجار الوضع في الإتحاد اليوغسلافي سابقا ولجوء عشرات الآلاف من البوسنيين وألبان كوسوفو إلى سويسرا.
90% من المسلمين في سويسرا ينحدرون من تركيا ومنطقة البلقان، في الوقت الذي لا تزيد نسبة العرب عن 6%.
أوصت دراسة حول المسلمين في الكنفدرالية، أنجزتها “مجموعة البحث حول الإسلام في سويسرا” (GRIS) سنة 2005، بضرورة الاعتراف رسميا بالدِّين الإسلامي باعتبار أنه أصبح الدِّين الثاني بعد المسيحية، وتشجيع المسلمين على التكتُّـل داخل اتحادات على مستوى الكانتونات وتعزيز إجراءات اندماج هذه الأقلية.
يمثل الشبان المسلمون، الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما، نصف الجالية المسلمة تقريبا، فيما لا تتعدى نسبة الحاصلين على الجنسية السويسرية 11,75% من مجموع الجالية المسلمة في سويسرا.
يقيم معظم أبناء الجالية المسلمة في المدن والمراكز الحضرية وينتمون للجيل الثاني من الأجانب الذي يشمل الإيطاليين والإسبان والبرتغاليين والصرب أساسا.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.