الفجوة الثقافية قائمة حتى في مجال الفن الساخر
أعادت الصدمة التي أحدثها الاعتداء الدموي الذي استهدف مجلة "شارلي إيبدو" في يناير الماضي الاهتمام مجددا بالصحافة الساخرة، بما في ذلك في سويسرا. فالضحك والسخرية لا تعترفان بالحدود الثقافية، ولكن تصوير الكاريكاتير، ولأنه يتأسس على رموز محددة، فهو لا يمكن بأي حال أن يكون فنا عالميا أو كونيا.
“منذ قتل الرفاق في “شارلي إيبدو”،رابط خارجي تلقت “فيغوس” (صحيفة سويسرية أسبوعية ساخرة ناطقة بالفرنسية)، دعما وتشجيعا كبيريْن للإستمرار في عملها دون هوادة، ودون خوف او تبديل لخط تحريرها”. وبهذا تشكر هذه الدورية التي يحلو لها أن تقدم نفسها وبتواضع على أنها “دورية صغيرة للرسم الساخر” قرائها والأربع مائة مشترك جديد، الذين أقدموا على الإشتراك تحت تأثير الموجة الجارفة الداعمة لحرية الصحافة التي أعقبت مباشرة الفاجعة التي شهدتها باريس الشهر الماضي.
ويقول لورانت فلوتش، نائب رئيس تحرير “فيغوس”رابط خارجي: “اثنان من المسلحين المختليّن عقليا يحدثون هذا الرعب، ومئات الآلاف من الناس يحتجون. هذا أمر رائع، فحرية التعبير لم يكن لها يوما هذا العدد الكبير من الأنصار”. لكن فلوتش، يستدرك قائلا: “المهم استمرار هذا الدعم!”.
حرية الصحافة و/ أو الرقابة الذاتية
بدوره يأمل دومنيك فون بورغ، رئيس المجلس السويسري للصحافةرابط خارجي، أن تحدث “هذه الحادثة المؤلمة” انطلاقة جديدة لصالح حرية الصحافة التي هي بصدد فقدان أهميتها، ويضيف: “نحن في فترة، أصبحت فيها الرقابة الذاتية حاضرة بقوة … خاصة في الولايات المتحدة حيث يسود الصحافة خطاب المجاملات الذي يتجنّب الإحراج، وهو ما يضفي المزيد من القيمة والتقدير على الخط الذي تبنته شارلي إيبدو”.
المزيد
توبفر.. رائد في مجال الكاريكاتير السياسي
ويذهب فليب كاينيل إلى أن “الرسم أداة دعائية مميّزة لأنه نوع من التفكير البصري، والاستطرادي، والمفاهيمي، الذي يمكن ان يكون تأثيره قويا جدا”. لكن هذا الأستاذ المتخصص في تاريخ الفن بجامعة لوزان ينتقي كلماته بدقة: “الرقابة الذاتية أمر ضروري بالنسبة لنشرية عامة: لا نستطيع ان نقول أو نكتب كل ما يخطر على البال وبشكل عفوي، وعكس ذلك سوف نكون سببا في إثارة جدل غير مدروس. ويقوم الرسم الساخر، وعبر وسائل الإعلام، باللعب على الرموز، وانواع الخطابات، ومصادمة المراجع العامة ببعضها البعض”.
وفي المنابر الإعلامية التي تنشر الرسوم الساخرة، يتمتّع الرسام بمنزلة صاحب الرأي، ويكون مطالبا بتقديم رسم او رسوم متعددة إلى إدارة المؤسسة الإعلامية، والتي من حقها إجازة نشر ذلك العمل او رفضه”. وهكذا حصل، وفقا للورانت فلوتش، أن رفضت “فيغوس” نشر بعض الرسوم، لأسباب مختلفة ومتنوعة. ويلاحظ فليب كاينيل أنه “على عكس ما سبق، يتم نشر الرسوم على الإنترنت من دون أي قيد او رقابة، بطرق تفتقر إلى الوضوح والشفافية، وبمعزل عن أي سياق. وقبل هذا وذاك، صحيفة شارلي إيبدو، هي أسبوعية باريسية، وليست صحيفة عالمية”.
ثم يوضّح بأن “شارلي إيبدو” تتنزّل ضمن التقاليد الخاصة “بالصحافة الفرنسية التي اختارت منزعا فوضويا إلى حد ما، خاصة في السنوات الأولى من القرن العشرين، وباستعمال خطاب شديد العنف، لا يجد له رواجا الآن”. وفي سويسرا، نشرية “فيغوس” التي تعيد، وعلى نطاق واسع، نشر الرسوم التي نشرتها شارلي إيبدو، أنشأت بمبادرة من الرسام الفرنسي باريغ، وهي محاولة لاستنبات الفن الساخر الفرنسي في التربة السويسرية.
نقد الأشياء بدلا من السخرية منها
في تلك الفترة، لم تقدم “فيغوس” على نشر الرسوم الساخرة من النبي محمّد، ويرجع لورانت فلوتش ذلك “لأن تلك الرسوم لم تبد لنا مثيرة للضحك، او أمرا يقضي أن نقتدي به. فالإحتجاج والسخرية هما ما يحرّكنا في الأساس. ووظيفة أي رسم هو الإبلاغ، وليس فقط السخرية. ولكن احداث صدمة لدى مجموعة معينة ليس هو المعيار. وكذلك نحن حريصون من جهة اخرى على ألا نقدّم شيئا “لا قيمة له”. وبإمكان المرء أن يكون جريئا من دون أن يكون مبتذلا، أو أن يكون شرسا وناعما في نفس الوقت”.
وفي هذا الصدد، يتميزّ تمشي المناطق السويسرية الناطقة بالألمانية تقليديا بالتراضي وباللطف، وفقا لبعض الناطقين باللغة الفرنسية. كيف ينظر رئيس تحرير «Nebelspalter»رابط خارجي ، الصحيفة الساخرة الرئيسية الناطقة بالألمانية؟ يجيب ماركو راتشيلّر: “الإستفزاز والوقاحة هي من البدائل المتاحة، ولكن بالإمكان قول الكثير من الأشياء ما بين السطور، وليس هذا ألطف، ولكن اكثر مكرا في بعض الاحيان. نظامنا الإجتماعي في سويسرا يختلف كثيرا عن النظام الفرنسي، وعملية اتخاذ القرار، وخيار التوافق، والديمقراطية المباشرة، إلخ…وبالإمكان تصوّر كل شيء إلا أن يكون نظامنا شبيها بالنظام المتبع في البلدان المجاورة”.
ثقافة ساخرة مختلفة
هذا الأخير يشير ايضا إلى وجود اختلاف ثقافي، ويقول: “الفن الساخر في سويسرا الناطقة بالفرنسية، وبالأحرى في فرنسا، هو اكثر عنفا، واكثر ميلا إلى الصدام منه في سويسرا الناطقة بالألمانية. في صحفنا، الصحافة الاستقصائية منفصلة عن مقالات الرأي وعن رسوم الكاريكاتير، على خلاف ما يحصل بالنسبة للصحف الناطقة بالفرنسية”.
أبرز المنابر الإعلامية الساخرة في سويسرا
“فيغوس” (12.000 نسخة): صحيفة اسبوعية ناطقة بالفرنسية، أنشأت عام 2009 على يد باريغ (إبن الرسام الفرنسي المشهور بيام) بالتعاون مع لورانت فلوتش، وباتريك نوردمان.
«La Tuile»، نشرية شهرية (2500 نسخة)، أنشأت في عام 1970 في كانتون الجورا بمبادرة من بيار أندري – مارشوند.
«Nebelspalter »: نشرية شهرية باللغة الالمانية يصدر منها 21000 نسخة، أنشأها عام 1875 جون نوتزلي في زيورخ على شاكلة نشرية “بونش” الإنجليزية.
«La Distinction» (التميّز): تصدر مرة كل شهريْن منذ عام 1987، وهي مجلة نقدية في المجالات الإجتماعية والسياسية والأدبية، والفنية والثقافية عموما، وتمنح سنويا جائزة عمدة شامبينياك للجملة الأكثر سخافة تكون قد نطقت بها شخصية عامة.
«Il Diavol” : تصدر مرة كل شهريْن، بمعدّل 4000 نسخة كل عدد، وقد أنشأها في التيتشينو عام 1991 أعضاء من الحزب الإشتراكي المستقل، ويشارك فيها ويديرها الرسام كورادو مورداسيني.
وتضاف إلى كل ذلك النشريات الخاصة بالكرنفالات، والتي تظهر في الأسواق في العادة في شهر فبراير من كل عام.
وبينما نجد رساما ضمن طاقم العمل في أغلب الصحف الروماندية، تكاد تنفرد صحيفة “تاغس أنتسايغر” عن بقية الصحف في المنطقة الالمانية بنشر رسم كاريكاتير كل يوم يحمل طابعا تحريريا. أما أسبوعية “نويه تسورخر تسايتونغ آم سونتاغ” فتطلب بانتظام رسوما من شابّات، الذي ينتمي إلى المنطقة الفرنسية. لكن ليس أكثر من ذلك. ويضيف ماركو راتشيلّر: “رسامو الكاريكاتير الرومانديون يحظون باحترام وشهرة كبيريْن في سويسرا الناطقة بالألمانية لأنه ينظر إليهم بصفتهم صحفيين كاملي الشروط داخل هيئات التحرير”.
في المجال الثقافي الفرنسي عموما نجد أسماء لامعة في مجال الرسم تسمح للاجيال المتعاقبة من رسامي الكاريكاتير بالتعلّم والإسهام في إثراء هذا الفن، الذي لا يحتلّ مساحة مهمّة في الثقافة الجرمانية.
على الرغم من هذه الإختلاف في ثقافة الرسوم الساخرة بإمكان «Nebelspalter» أن تفخر بأنها أقدم صحيفة ظهرت في العالم، حيث أنها تظهر في الأسواق مرة كل شهر وبدون انقطاع منذ عام 1875. وهذه إحدى الخصوصيات السويسرية، يضاف إليها أيضا أن سويسرا تسجّل رقما قياسيا في عدد المنشورات بالمقارنة مع عدد السكان.
العديد من الرسامين البارزين
بالإضافة إلى ذلك، تعتبر سويسرا في وضع جيّد من الناحية السياسية، لأنها لا تمارس الرقابة. ويقول فليب كاينيل: “حرية التعبير مكفولة بمقتضى الدستور منذ عام 1848”.
ويشير كاينيل إلى أن “الكاريكاتير السويسري ليس باهرا او مدهشا مثل الكاريكاتير الإنجليزي او الفرنسي. فلم تعرف سويسرا مشاهير في هذا المجال مثل دومياي. ولكن منذ أربعة عقود، ظهر إلى الوجود عدد هام من كبار الرسامين الذين تفاعلوا أيضا مع الأحداث الدولية”.
وفي محاولة منها لإختراق الحدود الثقافية، تشارك نشرية «Nebelspalter» في تنظيم معرض “أرسم” رابط خارجيمنذ 2007، ويؤثثه قرابة خمسين رسام كاريكاتير يأتون من مختلف مناطق البلاد، ويقدّم كل واحد منهم أفضل أربعة رسوما انجزها خلال تلك السنة”.
لا توجد معايير دقيقة في سويسرا
يكفل الدستور حرية التعبير، وتفرض المحكمة الفدرالية الإعتراف بالفن الساخر، على ألا يتجاوز “بشكل غير مسموح به الحدود التي يضعها هذا الفن لنفسه”. وقد كان هناك محاولات لفرض رقابة مسبقة على هذا النوع من الرسم في بدايات القرن العشرين وخلال الحرب العالمية الأولى (اتخاذ مواقف متطابقة مع مواقف المناهضين). ولكن حرية التعبير أصبحت مكفولة منذ 1848.
تعّرف السلطات المستقلة المتكفلة بالبت في الشكاوى المتعلقة بالإنتاج السمعي البصري الفن الساخر بأنه “طريقة معينة في التعبير لا يتطابق فيه الشكل مع الرسالة المقصود إبلاغها”، أي أن للجمهور التعرّف على الطابع الساخر في أي نص او صورة.
يذكّر دليل المجلس السويسري للصحافة بأن أخلاقيات المهنة تنطبق ايضا على الموضوعات الساخرة . في عام 2006، أصدر المجلس موقفا بشأن رسوم الكاريكاتير الخاصة بالنبي محمّد للرسام الدنماركي “يولاندس- بوستن”، والتي اعادت نشرها “شارلي إيبدو”. ورأى المجلس آنذاك أنه يجب ان يكون بالإمكان توضيح “الصراع الخطير” بين حرية الراي واحترام الاديان من خلال “صور واقتباسات توضح بعناية في سياقها”، ولكنه كان يرى مشكلا في نشر تلك الرسوم خالية من أي تعليق.
(المصدر: الفن الساخر أما القضاء)
(نقله من الفرنسية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.