مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل ينجح الإبتكار في إنقاذ الإقتصاد السويسري؟

Keystone

تحتلّ سويسرا بانتظام المرتبة الأولى على قائمة أكثر الدول تقدّما على مستوى الإبتكارات العلمية. ومن العوامل التي تساعد على تحقيق "هذه المعجزة السويسرية": الإبداع، وظروف العمل الجاذبة، ونظام التكوين النموذجي. غير أن تحقيق القيمة المضافة المرجوة لا تتحقق دوما بالضرورة كما يتوقّع المسؤولون.

لاشك في أن العامل المشترك الذي تجمع عليه بشكل جيد الأوساط الاقتصادية والسياسية في سويسرا، أيا كانت توجهاتها الإيديولوجية: هو أنه من أجل البقاء في وضعية تسمح بالمنافسة على المستوى العالمي، ليس أمام  المؤسسات الاقتصادية السويسرية، الموجهة بالدرجة الأولى نحو التصدير للأسواق الخارجية التي تحقق فيها نصف مبيعاتها، سوى خيار الإبداع باستمرار.

هذا الاستنتاج يتردد أكثر فأكثر لا سيما في هذه المرحلة التي يواجه فيها الاقتصادي السويسري محيطا دوليا يمارس ضغوطا متزايدة، إن لم نقل معادية.

فأزمة الديون العمومية في منطقة الأورو جعلت من العملة الفرنك السويسري ملاذا آمنا، مما عمل على رفع أسعار المنتجات السويسرية. أما الامتيازات الضريبية المقدمة للشركات متعددة الجنسيات، والتي أقامت العديد منها مقراتها العامة في سويسرا خلال السنوات الأخيرة، فقد أثارت منذ عدة أشهر غضب بروكسل التي تعتزم وضع حد لما تـعتبره منافسة غير مــُنصفة.

“وظائف الغد”

“الإبتكار هو الوسيلة الوحيدة التي تسمح لسويسرا بالحفاظ على رفاهيتها بشكل مستمر”. هذه القناعة وردت في تقرير مُطول نشرته رابطة الشركات السويسرية “economiesuisse” في شهر مايو 2012. 

وضمن نفس السياق، يضيف فيليب لوبا، وزير الاقتصاد في دويلة فو: “الإبداع اليوم هو ضمان مواطن الشغل للغد، لذلك علينا أن نبقى في طليعة مسيرة التقدم إذا ما أردنا الحفاظ على التفوق الاقتصادي لسويسرا”.  ويرغب هذا الوزير في استثمار حوالي 25 مليون فرنك سويسري إضافية لتحويل دويلته إلى “بطلة الابتكار في سويسرا”.

ولا تشاطر الأوساط الاقتصادية وحلفاؤها في الأوساط السياسية ذلك فحسب، بل إن حتى السكرتير النقابي السابق والممثل البرلماني الاشتراكي جون- كريستوف شفاب، يسهب في نفس الاتجاه بقوله: “ليس أمام اقتصادنا خيارا آخر غير الإبتكار من أجل البقاء على وجه الحياة. وعليه أن يستهدف القطاعات المربحة وذات الجودة العالية، لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة من أجل الحفاظ على مستوى إنتاج ذي قيمة مضافة عالية في سويسرا”. 

وعلى غرار سيليكون فالي (بولاية كاليفورنيا الأمريكية)، تحاول عدة مناطق سويسرية بكافة الوسائل منذ عشرة أعوام جلب عشرات المؤسسات الناشئة أو الشركات المتخصصة جدا في قطاعات واعدة، وفي علوم الاحياء وتكنولوجيا البيئة. وهذا ما ينطبق على كانتون فو الذي يتوفر – من خلال المعهد الفدرالي التقني العالي بلوزان – على أداة فعالة لنقل التكنولوجيا نحو القطاع  الصناعي.

 تصور خاص للعالم

هوغ جانرا، المساعد العلمي لمجموعة الأبحاث في مجال الاقتصاد الاقليمي بجامعة نوشاتيل، يرى بأن الابتكار أصبح منذ بضعة أعوام “العامل الضروري لأية منافسة”، إذ يعتبر هذا الباحث العلمي أنه يعكس “تصورا للتنمية يرتكز بشكل مثالي على التقدم التكنولوجي والعلمي”. لذلك تم اعتماد مفهوم الإبداع بشكل رسمي في الخطاب، بدون أن يتم التساؤل بشكل فعلي حول قيمته الاقتصادية والاجتماعية.

وإذا كانت سويسرا تتصدر دوما الترتيب العالمي في مجال الإبتكار، فإن الفضل في ذلك يعود بشكل كبير لشهادات البراءة التي تقدمها صناعات الأدوية. وينوه جانرا إلى أن “إيداع شهادة براءة لا يعني بالضرورة إبداعا فوريا في مجال من مجالات حياتنا اليومية، لأنه بالإمكان أن يُستغل لعرقلة تطوير استخدامات منافسة جديدة، أو أن يستخدم لأغراض البورصة بالنسبة لمؤسسة من المؤسسات بدون أن أن يكون له تطبيق تجاري ملموس”.

وكما يؤكد على ذلك جون فيلي شفاب، فإن الترتيب الجيد لسويسرا له علاقة أيضا بأزمة الديون العمومية التي تمس العديد من البلدان الأوربية، والتي تجد نفسها في غالب الأحيان مرغمة على تخفيض استثماراتها المخصصة للتكوين والأبحاث. ويقول بهذا الصدد: “يتمتع قطاعنا الصناعي بصحة جيدة لأنه بإمكانه الاعتماد على يد عاملة مؤهلة، والتي تمثل المورد الخام الفعلي لسويسرا. وعلينا أن نستثمر أكثر من أجل الاحتفاظ بتقدمنا في هذه الميادين، وهو ما يرفضه بعض الممثلين البرلمانيين من الأحزاب اليمينية أثناء المصادقة على الميزانيات”.

الإبتكار كجزء من التقاليد

رابطة الشركات السويسرية تحرص على التذكير بأن القطاع الخاص، وليس الدولة، هو الذي يتحمل نحو 73% من نفقات البحث العلمي والتطوير. وتعتقد المنظمة أيضا بأن تفعيل الأفكار الجديدة في المؤسسات يتوقف على عاملين أساسيين: روح المؤسسة، وتقاليد التجديد فيها. وتضيف الرابطة أن “هذا الإستنتاج يتعارض مع الفكرة السائدة التي تزعم أن الشركات المبتدئة في سويسرا هي التي تبدع أكثر”.

مع ذلك، يتوسع في كافة أرجاء سويسرا انتشار الشركات الحاضنة، وهي عبارة عن هياكل يتم تقييم نتائجها بالإعتماد على عدد الشركات الجديدة التي ترى النور من خلالها. ويشرح هوغ جانرا قائلا: “تلتجئ الكانتونات بكثرة لتطوير هذه الأداة عن طريق بواسطة السياسة الإقليمية للكنفدرالية. فالجميع يرى أنها الوسيلة المناسبة المؤدية إلى الإبتكار”.

ويبدو أن هذه السياسات العمومية ناجمة عن تصور للإبتكار يقتصر على زاوية التقدم التكنولوجي، رغم أنه يشتمل على أبعاد أوسع بكثير يعسُر تحديد حجمها في أغلب الأحيان رغم أنها أساسية. ويعتبر الباحث من نوشاتيل الذي سلط الضوء في أطروحة الدكتوراه على دواليب النظام المؤدي إلى خلق القيمة في صناعة الساعات السويسرية بأنه “لا يمكن شرح نجاح صناعات الساعات، والجبن، والشكولاتة في سويسرا فقط وفقا لهذا التعريف الضيق للإبتكار”.

ويضيف قائلا: “إن ما يسمح بالترويج لصورة الأصالة والتقاليد لهذه المنتجات هو جملة من الملفات الرمزية التي تسهر على إعدادها إدارات التسويق، ولكن أيضا المؤرخون، والصحفيون، والساهرون على المجلات التي تشرف عليها شركات صناعة الساعات. وهذا هو القطاع الذي يجسد موطن الإبتكار بالنسبة لقطاع صناعة الساعات”.  وهذا ما يدفع جون- كريستوف شفاب للقول: “يجب أن نكون مبدعين مع الحفاظ على التقاليد. فالتقاليد تعرف تطورا ولكن يجب البحث عن الوسيلة لجعلها دائما جذابة”.

احتلت سويسرا للعام الثاني على التوالي المرتبة الأولى عالميا في مجال الإبتكار، وفقا للترتيب العالمي لـ 141 دولة، والذي تم نشره في شهر يوليو من قبل المعهد الأوروبي للإدارة والأعمال، والمنظمة العالمية للملكية الفكرية. وتأتي بعدها على التوالي كل من السويد، وسنغفورة، وفنلندا، ثم بريطانيا.

يعتبر نظام التكوين المزدوج (في المدرسة ثم في المؤسسة)، والتعاون الوثيق بين القطاع الخاص والقطاع العام، وظروف العمل الجذابة، من العوامل الأساسية التي ثمنها الساهرون على الدراسة لشرح مستوى الأداء الذي تتمتع به سويسرا.

تحتل سويسرا منذ عام 2009 المرتبة الأولى في الترتيب العالمي للقدرة التنافسية، وهو التقرير الذي يسهر على إعداده منتدى دافوس الاقتصادي العالمي. وقد اعتمد المنتدى في تصنيفه على عوامل القدرات التكنولوجية، ونجاعة سوق العمل، ووجود  معاهد البحث العلمي التي تعتبر من أحسن معاهد العالم، وكذلك صلابة نظام الملكية الفكرية.

يتم الحديث في سويسرا عن الابتكار، وفقا لكتابة الدولة للشؤون الاقتصادية (SECO)، عندما يؤدي الإبداع إلى تطوير منتوج أو تطبيق يتم تسويقه فعليا. أي أن البعد الاقتصادي الفعلي أمر ضروري في هذه العملية.

ويتم في سويسرا دعم عملية الابتكار خصيصا بخلق الظروف الإطارية الملائمة. وتؤكد كتابة الدولة للشؤون الاقتصادية، بأن “فتح الأسواق أمر أساسي لأن ذلك يشجع العملاء الاقتصاديين على إيجاد حلول مبتكرة من أجل الاحتفاظ بالقدرة التنافسية وتطوير عملية الابداع العام في الاقتصاد”.

وهذه النظرة الليبيرالية تجد في المقابل من يطالب بضرورة تزويد المؤسسات باليد العاملة المدربة جيدا، وهو “الشرط الذي لا بد منه لضمان انتاج يتعدى المتوسط، وبالتالي العمل على تحقيق إبداع متفوق”.

وترى كتابة الدولة للشؤون الاقتصادية بأنه “في هذا الإطار، على الدولة أن تسهر على توفير تكوين عمومي لليد العاملة يكون من الطراز الأول”. لذلك ستخصص الحكومة للفترة ما بين 2013 – 2016 حوالي 26 مليار فرنك سويسري لدعم التكوين، والبحث العلمي، والإبتكار. وهو ما يمثل زيادة سنوية في القروض بمتوسط 3،7%.

(ترجمه من الفرنسية وعالجه: محمد شريف)

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية