أي مضاعفات للحرب ضد العراق في بريطانيا؟
تمر السياسة البريطانية بمأزق كبير، يوشك معها رئيس الوزراء توني بلير، وحزبه العمالي الحاكم، على خسارة سيطرتهما على الحياة السياسية.
وتراهن الحكومة العمالية على إمكان تحقيق انتصار عسكري ضد العراق لتبرير صحة مواقفها الحالية واستمرارها في مسايرة الموقف الأميركي.
تمر السياسة البريطانية بمأزق كبير، يوشك معها رئيس الوزراء توني بلير، وحزبه العمالي الحاكم، على خسارة سيطرتهما على الحياة السياسية.
وتراهن الحكومة العمالية، التي هزّتها خلافات متكررة بسبب الموقف من الحرب على العراق، على إمكان تحقيق انتصار عسكري ضد العراق، يشبه إلى حد كبير الانتصارين اللذين تحققا في كل من كوسوفو وأفغانستان من قبل، لتبرير صحة مواقفها الحالية واستمرارها في مسايرة الموقف الأميركي، على حساب كل الاعتبارات الأخرى، بما في ذلك الرأي العالم الداخلي والحلفاء التقليديون للمملكة المتحدة.
وتمتد النزاعات المرتبطة بقضية الحرب على العراق الى مختلف مكونات الحزب العمالي، الذي شهد انقساماً في الرأي، نجح بلير في تهميشه، إلا أنه لم ينجح في تبديده، وسط اتهامات له بالديكتاتورية وتجاهل مبادىء العمل الديموقراطي.
حرب العراق ستترك بصماتها
يتعين على رئيس الحكومة البريطانية توني بلير أن تُكلل سياسته المتعلقة بالعراق بالنجاح، ليضمن قدرته على بقائه في السلطة. وترتبط بمآل الحرب قضايا عدة، في ظل اكفهرار الجو الاجتماعي في البلاد، والمخاوف المحتملة من حدوث ركود اقتصادي في الشهور المقبلة، بعدما كانت بريطانيا، تحظى خلال السنين الماضية، بفترة ازدهار تحسدها عليه بقية الدول الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا، أكبر اقتصاد أوروبي.
ويخشى المراقبون من أن يؤدي تورط بريطانيا، التي أرسلت تعزيرات تقدر بنحو 40 ألف جندي وأكثر من 75 طائرة مقاتلة، وأسطولاً يضم 17 سفينة قتال رئيسية للمشاركة في الحرب على العراق، إلى سقوط بلير وتنحيه عن الزعامة العمالية.
وفي حال تكبدت القوات البريطانية خسائر كبيرة خلال العمليات العسكرية، أو فشلت الحرب على العراق في تحقيق الغاية المرجوة منها، فإن خليفة بلير المحتمل، وهو وزير المال غوردون براون، سيحتل زعامة العماليين. ويقول المراقبون إن براون معروف بميله الى التمهل في دخول الوحدة النقدية الأوروبية. وسيعني وصوله الى سدة الزعامة العمالية أن حرب العراق ستترك بصماتها على علاقة بريطانيا بأوروبا.
وكانت العلاقات بين لندن والعواصم الأوروبية الأخرى شهدت خلال الشهور الماضية تبايناً متزايداً في وجهات النظر، بسبب الموقف من العراق، وصل الى حد الخلاف مع فرنسا وألمانيا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى.
وتتابع حليفات المملكة المتحدة بعين الريبة انقياد بريطانيا الطوعي واستعدادها، منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، لمسايرة الموقف الأميركي وقبول أي تشدد تظهره الادارة الأميركية على الساحة الدولية، في وقت بات حجم الموازنة العسكرية الأمريكية يثير قلق البلدان الصناعية من مدلولاته، إذ تتجاوز موازنة البنتاغون الموازنات العسكرية المجتمعة للدول الخمس عشرة التي تتلو الولايات المتحدة في حجم الانفاق العسكري في العالم.
فضيحة غريبة
وأثار تقريرمؤلف من 19 صفحة نشرته رئاسة الوزراء البريطانية يوم الثلاثاء 4 فبراير الماضي، وقالت إنه يقدم معلومات دقيقة استقتها أجهزة الاستخبارات البريطانية عن مشاريع التسلح وأنشطة التخريب التي يمارسها النظام العراقي، اضطراباً في الأوساط البريطانية بعدما تبين أن التقرير يحتوي على معلومات مضللة، ويفتقد أقل قدر من الدقة والموضوعية اللتين يدعيهما.
وكان وزير الخارجية الأمريكي كولن باول قال في خطابه أمام مجلس الأمن يوم الأربعاء 5 فبراير، إن هذا التقرير البريطاني يعد عملاً جيداً، مثنياً على ما فيه من معلومات.
لكن ما انقضت ساعات حتى تبين أن 11 صفحة من التقرير، أي من صفحة 6 إلى صفحة 16، إنما هي عبارة عن نص مقتطع من تقرير أعده طالب جامعي أمريكي من نورث كارولاينا، قبل سنوات، خلال إعداده رسالة الدكتوراه في جامعة بريطانية، ويتضمن دراسة عن وضع القوات العراقية لدى غزو الكويت قبل 12 عاماً، من دون أن يكن للتقرير أي علاقة بوضع العراق الحالي.
ونقل معدو التقرير في رئاسة الحكومة التقرير بكل حذافيره، بما في ذلك الأخطاء المطبعية التي شابته. كما اعتمدوا مقتطفات من تقريرين صحافيين، أحدهما من “جاينس ديفانس ريفيو” الدفاعية البريطانية المتخصصة، من دون الاشارة إلى مصدر النص، ومع تحريف الفقرات لتظهر النظام العراقي بأبشع صورة، كأن تبدل عبارة “دعم تنظيمات المعارضة في البلدان المجاورة” إلى “دعم التنظيمات الارهابية”، وغيرها.
وترك المسؤولون في رئاسة الحكومة الجمهور يقتنع في البداية بأن المعلومات الواردة في التقرير إنما مصدرها معلومات سرية جديدة واردة من أجهزة الاستخبارات ومن عملاء سريين استطاعوا الوصول الى داخل النظام العراقي وتقديم صورة جديدة عنه، في حين أن الأمر في نهاية المطاف كان مجرد عملية تلاعب بالمعلومات، واستخدام تقارير عادية منشورة وتقديمها على أنها معلومات جديدة، لا على أنها تعود إلى أكثر من 13 سنة مضت.
ودفع هذا الأمر المراقبين الى التساؤل عمّا إذا كان بعض أطراف الحكومة البريطانية يعاني بدوره من التشويش والتضليل، وعمّا إذا كانت هناك أطراف داخل الحكومة ترغب في التأثير على الأعضاء الآخرين في الحكومة عبر إعطائها معلومات مضللة.
وقال المعلقون، إن هذه القضية أظهرت أن حكومة بلير يائسة، ولا تتورع عن شيء من أجل تبرير سياستها ضد العراق، وإن كان ذلك يعني الكذب بشكل مفضوح، وتهديد سمعة المؤسسات السياسية في البلاد، وسمعة أعلى مركز لصنع القرار التنفيذي.
قوات عاجزة
ويقدر عدد القوات البريطانية الموجودة في الخليج حالياً بنحو 40 ألف جندي نظامي وجندي احتياط، منهم نحو ثمانية آلاف يعملون في سلاح الجو. وأشارت مذكرات وزارة الدفاع الموزعة على الجنود، بوضوح، الى أن القوات البريطانية قد تبقى في العراق لمدة ثلاثة أعوام، وأنها ستعمل على حماية الخطوط الخلفية للقوات الأمريكية المهاجمة، وستتولى الاشراف على بعض القطاعات داخل العراق بعد احتلاله، وتقسيمه إلى مناطق إدارية مختلفة.
وبعدما كان رئيس الوزراء توني بلير واضحاً في تأكيده الشهر الماضي أن أي إرسال للقوات البريطانية سيخضع لتصويت برلماني، فإن وزير الدفاع جيوفري هون ألغى هذا التعهد الخميس الماضي بإعلانه أنه لن يجري مناقشة الأمر في البرلمان لأن الهجوم قد يقتضي الاحتفاظ بعامل المباغتة والمفاجأة، وهو ما ردت عليه إحدى النائبات في البرلمان بالاشارة إلى أن الجميع يعرف بوجود القوات البريطانية والأمريكية في المنطقة، وأن عامل المباغتة ليس له بالتالي أي قيمة، وليس هناك أي مبرر يمنع العودة إلى البرلمان للتصويت على إرسال قوات بريطانية إلى مسرح عمليات خارجي.
واعتبر قرار وزارة الدفاع يوم الخميس إرسال 75 طائرة قاذفة و27 طائرة هيلوكوبتر تضاف الى 25 طائرة قاذفة موجودة في المنطقة، ومعها شاحنات صواريخ وقنابل ذكية موجهة، بمثابة تأكيد على أن القوات البريطانية باتت على وشك البدء بالعمليات العسكرية الى جانب القوات الأمريكية.
لكن القوات البريطانية تفتقد إلى المعدات الحديثة اللازمة لخوض القتال وإلى عتاد يستطيع أن يؤمن لها الحماية اللازمة أثناء المعركة، إلى حد أن الجنود غالباً ما يضطرون الى شراء عتادهم الفردي بأنفسهم. كما أن القوات تعاني من ضعف في معداتها الالكترونية، لا سيما معدات الاتصال التي تعطلت من قبل أثناء حرب كوسوفو، ما اضطر الضباط البريطانيين الى استخدام الهاتف الجوال للاتصال بوحداتهم، في عز احتدام المعركة، وطلب الدعم المدفعي أو الجوي.
كما تعاني القوات البريطانية من عدم قدرة دبابات القتال الرئيسية من طراز “تشالنجر” والمدرعات والمركبات الأخرى التي سيستقلها الجنود والتي سيبلغ عددها 350 مدرعة ودبابة قتال تساندها 6 آلاف مركبة عسكرية، على العمل في البيئة الصحراوية الصعبة داخل العراق، ومن تعطل محركاتها بعد وقت قليل من بدء تشغيلها بسبب تسرب الرمال الصحراوية البالغة الانزلاق.
ويقول المراقبون، إن تدني مستوى التجهيزات القتالية البريطانية قد يُفسر تفضيل المخططين العسكريين الأمريكيين تكليف القوات البريطانية بمهام حراسة واحتلال اداري، بدل تركها تشارك في الهجمات في خطوط القتال الأولى، حيث ينتظر أن تدور معارك ضارية، لا سيما عند أطراف المدن العراقية، حيث ينوي الجيش العراقي التصدي للقوات المهاجمة.
من سيدفع الثمن؟
ويخشى المحللون من أن تؤدي حرب العراق الى انعكاسات داخل بريطانيا، وعلى صعيد علاقة بريطانيا ببقية دول الاتحاد الأوروبي.
ففي حال عجزت الويات المتحدة من تحقيق انتصار عسكري حاسم في العراق، وفي حال طالت الحرب في ظل سقوط خسائر بشرية كبيرة كل يوم في صفوف المدنيين العراقيين، فإن الأرجح أن المجتمع الدولي الذي لن يبارك الحرب منذ بدايتها، سيتدخل لتقديم حل يتيح وقف المجزرة الكبيرة.
وتملك القوات الأمريكية قوة نارية موجودة في منطقة الخليج تعادل عشرة أضعاف ما كانت تملكه في حرب تحرير الكويت، في وقت لم يعد الجيش العراقي الحالي يمثل أكثر من عُشر قوته السابقة.
ولكن القادة العراقيين يراهنون على أن بوسع بلدهم الصغير أن يتحدى القوة العسكرية الأمريكية الساحقة، من خلال استدراج الفرق الأمريكية إلى حرب مدن مميتة، ستؤدي في الوقت ذاته الى خسائر بشرية كبيرة محتمة في صفوف المدنيين، مهما استخدمت في حسمها أسلحة ذكية.
وفي هذه الحالة، فإن عجز الولايات المتحدة عن فرض حل بالقوة سيؤدي الى انتهاء أطروحات الادارة الأمريكية الحالية، التي روجت نظرية الهيمنة الأحادية وفكرة التفرد، وسيؤدي الى السعي الى حل جماعي متعدد الأطراف.
وفي حال صدقت التوقعات بخصوص عودة نشاط فلول “طالبان” و”القاعدة” داخل أفغانستان، ونيتهم شن هجمات واسعة النطاق خلال الربيع المقبل تستهدف إفشال المشروع العسكري الأمريكي في هذا البلد، فإن الوضع الذي ينتظر العالم سيكون انهيار الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد الارهاب، بسبب تحويلها الجهد الرئيسي الى الحرب في العراق من دون أن يكون لذلك علاقة بالبحث عن معالجة أسباب التطرف، وإنما فقط العقيدة الايديولوجية المتشددة التي تحكم صقور الادارة الأمريكية.
ويقول المحللون في لندن، إنه إذا أتى حل العراق على يد المجتمع الدولي، أو عجزت الولايات المتحدة عن ابقاء العراق موحداً وتركته في حالة تشبه وضع الصومال، فإن تأثير ذلك سيكون مدوياً على السياسة العالمية، وستُحاصر السياسة الأمريكية على الساحة الدولية وستسقط إدارة الرئيس بوش في الانتخابات المقبلة لتظهر إدارة أمريكية مكانها أقل تشدداً وأكثر مراعاة للوضغ الدولي.
أما الثمن الذي ستدفعه بريطانيا فسيكون عالياً، لا سيما داخل الاتحاد الأوروبي على رغم المصالح الاستراتيجية التي تربط لندن ببقية بلدان الاتحاد.
ويقول المراقبون، إن انهيارالسياسة الأمريكية، ومعه مفاهيم الأحادية الأمريكية، سيُسقط خيارات التبعية البريطانية تجاه الولايات المتحدة بدرجة كبيرة، وسيؤدي الأمر الى إعادة رسم للسياسة البريطانية برمتها، باتجاه أكثر مسايرة لحليفاتها الأوروبيات.
وينبّه المحللون إلى أن القوات البريطانية المرسلة الى الخليج لا تحظى بدعم قوي في بلادها في حال خاضت الحرب المتوقعة على العراق، وهو أمر يعيد الى الأذهان تجربة مماثلة عرفتها بريطانيا عام 1956 حينما قاد توني إيدن، رئيس الوزراء آنذاك، بريطانيا لخوض حرب السويس التي كانت تلقى بدورها معارضة شعبية واسعة.
وبعد هزيمة القوات البريطانية في السويس واضطرارها الى الانسحاب من دون تحقيق طموحها في مصر عن خطوة تأميم قناة السويس، سقطت حكومة إيدن، بسبب مراهناتها الخاطئة.
والسؤال الذي سيحسمه إنجلاء غبار المعارك في العراق هو: هل يدفع بلير وحزبه الحاكم ثمن الحرب غير الشعبية ضد العراق؟ أم ينجح في هذه الحرب ليتحول الى بطل أثبت أنه قادر على تحدي كل معارضيه والاستمرار في قناعاته حتى النهاية؟.
هذا ما ستكشفه الأيام.
ابراهيم الشريف – لندن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.