أيهما أولا: الديمقراطية أم الأمـن؟
إنها ليست المرة الأولى التي تطرح فيها أفكار تُـوصف عادة بأنها "معادية للديمقراطية" في الشرق الأوسط، لكنها إحدى المرات القليلة التي تمثل فيها تلك الأفكار تحديا حقيقيا.
فعلى الرغم من أنه لا يوجد تناقض بين الديمقراطية والأمن، بل على العكس، يمثل الإصلاح السياسي أهم أسُـس الاستقرار الأمني، فإن ما أفرزته التطورات السياسية داخل دول الإقليم مؤخرا من مشكلات أمنية، أدّى إلى إثارة قضية تتعلق بالاختيار (ولو مؤقتا) بين الديمقراطية أو الأمن.
لقد طرحت الأمور بتلك الصورة في عقود ماضية، كانت التنمية Development، تمثل فيها عنوانا لحركة الإقليم، عندما أثيرت إشكالية “الخبز أو البنادق”، وظهرت وقتها نظريات تتحدث عما إذا كان يجب إنفاق الموارد المحدودة المتوافرة على التنمية الاقتصادية أم شراء الأسلحة، إلا أن حدة الصراعات في الإقليم لم تتِـح الفرصة للقيام بذلك، وكان من الصعب اعتبار نفقات الدفاع فرصة ضائعة في ظل تلك الأوضاع.
لكن المسألة كلها أصبحت أكثر تعقيدا في الوقت الحالي. فقد ارتبطت موجة التحول الديمقراطى Democratization في الإقليم منذ بدايتها قبل 5 سنوات تقريبا، بسجالات حادة، ظهرت خلالها سلسلة من الأفكار المتتالية، التي لم تكن تعبر في الواقع عن مجرّد تحليلات نظرية، وإنما عن تيارات سياسية وجماعات مصالح، وجدت نفسها في مواجهة رياح عاتية تهبُّ من كل اتجاه، سواء من خارج الدول أو داخلها.
كانت المناظرة الصاخبة الأولى، التي تفجَّـرت عقِـب ظهور المشروع الأمريكي لإقامة الشرق الأوسط الكبير، حول ما إذا كانت الإصلاحات السياسية يمكن أن تفرض من الخارج أم أنها تنبع فقط من الداخل، هي أشهر تلك النقاشات التي شغلت المنطقة طويلا، وتم خلالها صك تعبيرات (مثل بيدي لا بيد عمرو، نحلق لأنفسنا قبل أن يُحلق لنا)، وكيل اتهامات، وانتهى الأمر، إن كان قد انتهى، باقتناع مَـفاده أن التحول من الداخل هو الأكثر أمنا، مع اقتناع موازي بأن معظم التحولات التي جرت، قد تمَّـت عمليا بسبب ضغوط الخارج.
أفكار حادة
في الوقت نفسه، كانت بعض الأفكار قد بدأت تظهر داخل الدول، على استحياء في كثير من الأحوال، إذ أنها لم تكن من النوعية التي يمكن طرحها علنا ببساطة أو الدفاع عنها بسهولة في مواجهة المثقفين المتحفزين أو الشارع المحتقن، لكنها كانت تعبِّـر عن توجُّـهات مستقرة لدى كثير من النخب السياسية، أهمها فكرتين:
الأولى، أنه لا يوجد طلب على الديمقراطية. فاستطلاعات الرأي العام التي جرت داخل بعض الدول، كانت تشير إلى أن أولويات الناس غير سياسية في الأساس، وتركِّـز على مشكلات كالبطالة والأجور والأسعار وربَّـما الصحة والتعليم، ثم تأتي مفردات العملية السياسية، واستنتج البعض أن الديمقراطية هي واحدة من مطالب جماعات المثقفين أو “بورجوازية المدن”، وليس المواطنين العاديين.
الثانية، وهي الأسوأ، ترتبط بما صرّح به بعض المسؤولين أحيانا، وردّدته لفترة تيّـارات فِـكرية وسياسية عربية، من أن الشعوب لا تزال غير مؤهلة أو بتعبير أقل وطأة “غير مستعدة بعد” للديمقراطية، التي تتطلّـب، وفقا لذلك، درجات من التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، التي يؤدي عدم توافُـرها إلى مخاطِـر صعود المتطرفين وشراء الأصوات، وربما “اختراق الدولة”.
ولقد واجهت مثل تلك الأفكار قَـصفا مدفعيا مُـضادا، كان من السهل معه وأدها عبر مفاهيم تؤكِّـد أن المشكلات قد تكون اقتصادية، لكن حلها سياسي، وأنه بدون الإصلاح السياسي، لن تحل المشكلات غير السياسية، وأن هناك نماذج لدول في شرق أوروبا، وحتى إفريقيا جنوب الصحراء، تقدمت بسرعة في اتجاهات ديمقراطية، وما إلى ذلك، بحيث لم تعد تلك النوعية من التقديرات تتردّد كثيرا.
تخلّـت مثل تلك الأفكار عن موقعها في الفترة التالية، لنوعية أخرى من المواجهات الجادة التي تُـهيمن على الساحة السياسية حاليا داخل كثير من دول المنطقة، مثل العلاقة بين الدّين والدولة، بفعل صعود قوة التيارات الإسلامية، فهناك صِـدامات ومواجهات وتوتُّـرات حقيقية في بعض الحالات، ومخاوف حادّة من خلط الدّين بالسياسة، ونقاش حول الضمانات الخاصة بالحفاظ على “مدنية” – وليس بالضرورة علمانية – الدولة في حالات أخرى، وهي قضايا تعاملت معها بعض الدول بحدّة، وتعاملت معها دول أخرى بهدوء، لكنها ظلت معلقة.
صوت الأمن
علاقة الأمن – مثل علاقة الدّين – بالديمقراطية، واحدة من المعضلات الجادة التي تصاعدت أهميتها خلال الفترة الأخيرة في ظل نفس السِّـمات، فهي مسألة حسّاسة للغاية، وتحمل معها مخاطر حدوث انقلابات حقيقية، ولا يمكن تجاهلها أو التعامل معها باستخفاف، خاصة في ظل تأثيرات النموذج العراقي.
فرغم أن حالة العراق لا تمثل تجربة تحول ديمقراطي معتادة، وإنما تجربة “انهيار دولة” إثر غزو أجنبي واحتلال، إلا أنها أفرزت داخل العراق أقوالا تقرر أن “أيام صدّام كانت أفضل”، وأصبحت تمثل خارج العراق هاجسا مقيما، تغذّيه مظاهر دموية يومية لنتائج فراغ أمني غير محدود.
إن أهمية نموذج العراق، حسب تعبير لإياد علاوي، رئيس الوزراء العراقي الأسبق، هو أنه كشف للجميع قيمة وجود الدولة، خاصة مؤسساتها الأمنية، وأنها إذا انهارت، فإنه من الصعب إعادة بنائها مرة أخرى، وأنه بدون الاستقرار الأمني، لن يتم التمكّـن من القيام بأية مهمة أخرى تتعلّـق بالسياسة أو الاقتصاد وقد ينهار المجتمع. والدرس الذي تعلّـمته الأطراف الأخرى من ذلك (حتى لو لم يكن دقيقا على الإطلاق)، هو أنه يجب عدم السماح بتأثر “الدولة”، أيا كان الثمن.
يمكن القول بقدر كبير من الثقة أن المسألة الأمنية قد أصبحت إحدى المحدّدات الرئيسية المؤثرة في عملية التحول الديمقراطي الراهنة في المنطقة، نتيجة عاملين مكملين لبعضهما، هما:
1 – أن التطورات السياسية الداخلية التي شهدتها معظم دول المنطقة، أيا كانت تسميتها، قد ارتبطت بمشكلات أمنية كبرى، فهناك دول أوشك بعضها على التفكك والتقسيم أو الاقتتال الداخلي، وتنهار المعادلات القديمة بين أغلبيات وأقليات سكانها، ودول تعمل قوى المعارضة فيها على إضعاف حكوماتها بإسقاطها أو خلق كيانات موازية داخلها أو تعتقد أن هناك فرصة قريبة للقفز على السلطة فيها، ودول أصبحت إدارة سياساتها العامة أو نمط حياة مواطنيها اليومية تعاني من اضطرابات مُـزمنة بفعل الاحتقانات السياسية.
2 – أن هياكل النظم في الدول العربية تترك منذ البداية مجالا واسعا لتأثير مؤسسات الأمن على إدارة العملية السياسية، وأنه أحيانا تتحكم العقلية الأمنية بشكل شِـبه كامل في التعامل مع ما يدور، بكل ما تحمله من تقديرات وهواجس. وقد أدّت الضغوط الخارجية على الدول والتقلبات الحادة في الإقليم، والتدخلات الواضحة من جانب دول مجاورة في شؤونها الداخلية، والحراك السريع داخل الدول ذاتها، إلى تصاعد نفوذ ما أصبح يُـسمى “قطاع الأمن” في إدارة شؤون الدول، بأكثر مما كان عليه في السابق.
يمكن الجدال هنا أيضا حول ما إذا كانت حالة عدم الاستقرار الأمني ترتبط بالتحول الديمقراطي كعملية لا يمكن تجنبها أم بالطريقة التي تدير بها الحكومات ذاتها تلك العملية أو بظواهر لا علاقة لها بالديمقراطية أصلا أو حول ما إذا كانت مؤسسات الأمن هي التي أصبحت تُـعرقل بالفعل عملية الإصلاح السياسي أم أن هناك بعض القوى السياسية الدافعة في اتجاه التغيير لا تتصرف بالمسؤولية أو العقلانية الكافية، لكن النتيجة لن تتغير، فالعامل الأمني أصبح – مثل العامل الديني – حاكما على الساحة.
مخارج طوارئ
أدّى هذا الوضع إلى إفراز توجُّـهات ترتبط بالعلاقة بين الديمقراطية والأمن، وبدأت نتائجها في الظهور على الساحة السياسية الإقليمية في شكل نقاشات نظرية وإجراءات عملية، وتتمثل الفكرة الرئيسية، التي بدأ عدد كبير من المقالات في المساس بها، هي أنه ” لا ديمقراطية بدون دولة”، ويُـقصد بذلك، دولة قوية ذات سيادة يمكن أن تقوم بمهامها المعروفة، كحفظ الأمن.
وبعيدا عن التأصيلات النظرية المعقدة ذات العلاقة بأزمة الدولة في المنطقة، ارتبطت الانعكاسات العملية لتلك الفكرة بميول نهائية لترسيخ فكرة التغيير من داخل الدول أو الإصلاح من أعلى بالتعاون مع النخبة الحكومية وإعادة الاعتبار لأشكال الإصلاح غير السياسية (الاقتصادية، والإدارية .. إلخ).
لكن الأهم، هو الوقوف في وجه محاولات الإصلاح الجذرية والتحفظ النسبي على استخدام “الشارع” على نطاق واسع في الضغط السياسي، مع هجوم على كل أشكال العسكرة، كالميليشيات المسلحة أو الأسلحة الصغيرة، بل أصبحت مجرّد رموز العسكرة، ولو بارتداء زي شبه عسكري، في بعض الدول تثير حساسيات.
فعدم التأثير على استقرار الدول، أصبحت مسألة أساسية، وتبلورت بعض الخطوط الحمراء داخل الدول، فيما يتعلق بالعلاقة بين السياسة والأمن.
والمشكلة، أن ثمّـة مبالغات حادة، تؤدّي إلى سلوكيات شديدة الشطط، بوعي أو بدون وعي، ترتبط بسيناريوهات غير متصورة أحيانا لضعف الدولة أو فراغ السلطة أو قوة المعارضة أو انتشار الفوضى.
في نفس الوقت، تبلورت توجهات تتعلّـق بما أصبح يُـسمى الإصلاح الأمني، في ظل اقتناع لدى تيارات دولية ومحلية، بأن الإصلاح السياسي لن يكون مُـمكنا دون إصلاح أمني، ولا ترتبط تلك العملية عادة بمقترحات خشنة يمكن أن تستفِـز مؤسسات الأمن، كالحديث عن الميزانيات المعتمدة أو الممارسات المتجاوزة، وإنما بدعم تلك المؤسسات ذاتها لتكون أكثر قدرة وفعالية في أداء مهامها وتقديراتها على أسس مهنية، وتوعية البرلمانيين مثلا بكيفية تعديل التشريعات الخاصة بها، وما إلى ذلك.
المحصّـلة النهائية، هي أن الأمن قد أصبح أحد عناصر معادلة الديمقراطية في الإقليم، ورغم أنه ليس مرجَّـحا أن تصل الأمور في معظم الحالات إلى تلك الخيارات الحادة المفهومة في العراق وفلسطين مثلا تحت عنوان: ديمقراطية أم أمن؟ فإن المؤكَّـد أن عملية التحول الديمقراطي قد بدأت تتباطَـأ في ظل المخاوف الأمنية في منطقة الشرق الأوسط.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
إذا كانت القوى السياسية والأيديولوجية العربية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي قد سعت للبحث عن سند سياسي وأيديولوجي، وحلفاء من خارج الحدود الضيقة لأوطانها، مثل الأمميات المتعاقبة، والهياكل العالمية التي كانت تطوف حول موسكو أو الصين، وكذلك الشأن بالنسبة لمنظومة الأحزاب الاشتراكية، فإن عديد القوى السياسية والمدنية ذات التوجه الديمقراطي هي حاليا بصدد التعرف على شبكات ومنظومات عالمية تعمل منذ عشرات السنين على دعم التحولات الديمقراطية.
فإلى جانب الفضاءات التي نشأت على هامش مسار برشلونة للشراكة الأوروبية المتوسطية، هناك “الحركة العالمية للديمقراطية” التي تضم ممثلين عن قرابة مائة دولة، أو “المنتدى العالمي للمنظمات غير الحكومية الموازي للمؤتمرات الحكومية لمجتمع الديمقراطية” الذي تنشطه العديد من دول الجنوب، مثل الشيلي والهند وبلغاريا.
في الوقت الراهن، يصعب الحكم على مستقبل كل هذه المبادرات. فهل ستصمد أمام الصعوبات التي يشكو منها العالم العربي وعوائقه السياسية والفكرية؟ وهل ستنجح في أن تحمي نفسها من الهيمنة والتوظيف المتعدد الاتجاهات؟
إنها أسئلة ستُـجيب عنها الأشهر، وربما السنوات القادمة. لكن المؤكد أن هذه المبادرات جزء من محاولات الخروج من النفق، وأن مصيرها سيكون مرتبطا حتما بمدى قدرة المنطقة على إنشاء حركات اجتماعية جديدة وبلورة تفاهمات فكرية ومقايضات سياسية تاريخية وجوهرية.
(المصدر: من تقرير لصلاح الدين الجورشي – سويس انفو بتاريخ 2 أكتوبر 2006)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.