إصدار الدستور .. بداية الطريق!
أجمع عموم القطريين على أن إقرار الأمير حمد بن خليفة آل ثاني للدستور الدائم للدولة يُـعتبر "منعطفا تاريخيا ومحطة انطلاق جديدة في مسيرة قطر الحديثة".
وفيما حفلت الصحف القطرية غداة الإعلان عن إقرار أول دستور مكتوب للبلاد بشهادات شكر من كل الشرائح الاجتماعية والمهنية، ينتظر البعض المرور إلى مرحلة التطبيق.
بقياسات التناسب، فإن قطر، هذا البلد الخليجي الأصغر، ذي المذهب الوهابي، أحدث اختراقا لافتا في فترة تاريخية تحفل بأخبار الإرهاب والتطرف في شبه الجزيرة العربية.
ورغم أن المسيرة نحو الإصلاح والتحديث ما تزال بصدد التبلور في منطقة تنوء بأخبار القتل والدمار، فإن كثيرين ما زالوا يفضلون الانتظار وعدم التماهي مع الإعلانات المتواترة لعلامات التطوير في البلاد.
لكن، قبل أيام من إصدار أمير قطر للدستور الدائم، كان قد أصدر قانونين لافتين، أحدهما يتعلق بالحياة “الجمعياتية”، والثاني بالحياة النقابية، وأقر الأمران الأميريان حياة “جمعياتية” حرة، وأخرى نقابية تناطح – على الورق – أعتى التقاليد في هذا المضمار.
فقد تم السماح بتكوين اتحادات عمالية تتكون من مواطنين ومقيمين بشروط سهلة نسبيا، ومنها تم الإقرار بإمكانية قيام “الاتحاد العام لعمال قطر”.
وإلى ذلك، تم السماح للمقيمين بحق امتلاك العقارات السكنية والاستثمارية في البلاد، مما صور أسبوعين من القرارات التي من الممكن أن تقلب وجه قطر رأسا على عقب من الناحية القانونية الصرفة.
أما عمليا، فلم تمر أيام على إصدار قانون الجمعيات، حتى أصدر ثمانون شخصا ينتمون إلى هيئة التعليم بيانا يشير إلى قيام “جمعية المعلمين” كبادرة عملية لقانون الجمعيات في انتظار ما سيأتي لاحقا.
“من هنا نبدأ”
لكن موافقة الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني على الدستور الذي أقره عموم القطريين بأغلبية ساحقة إبان استفتاء شهر أبريل 2003، شكّـل منعطفا استثنائيا في تاريخ البلاد، واعتبرته الأغلبية “ميلادا حقيقيا للديمقراطية والحرية، وخطوة رائدة نحو ترسيخ دولة المؤسسات وبناء المستقبل الأفضل”، حسب ما أتت به الصحف القطرية.
وقد صبت جل آراء المستطلعين في أن الدستور القطري جاء شاملا في مواده، ويمثل ضمانا للمجتمع، كما يكفل الحقوق والواجبات للمواطنين والمقيمين على أرض الدولة. ورأى البعض أن هذه الخطوة ستدفع بالجميع نحو تجسيد المكتوب إلى واقع مما سيجعله مؤسسا حقيقيا للمجتمع في القرن الجديد، خاصة وأن الدستور لبّـى حاجة المستويات والفئات المختلفة في المجتمع القطري.
ولعل أدق تعبير على ما استجد، قول الدكتور محمد المسفر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة قطر لسويس انفو “من هنا نبدأ”، معتبرا أن إصدار الأمير للدستور الدائم محطة انطلاق نحو الحياة الديمقراطية المنفتحة، ومنضما إلى مجموعة من الشخصيات القطرية التي أكدت على أن المهم الآن هو البدء بالعمل على الآليات التنفيذية للتطبيق حتى يتحول الدستور إلى إطار عام وعقد اجتماعي فاعل.
وفي هذا السياق، قال الشيخ الدكتور ثقيل بن ساير الشمري، رئيس محكمة الاستئناف الشرعية إن إصدار الدستور الدائم لدولة قطر يُـعتبر خطوة رائدة في طريق بناء الدولة العصرية باعتبار انه أبو القوانين، وذكّـر أن الدستور القطري تميّـز بالنص صراحة على هوية الدولة الإسلامية والعربية، وأوضح أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي لتشريعاتها، وأن نظامها ديمقراطي، ولغتها هي العربية، وشعبها جزء من الأمة العربية.
وقال، إن صدور الدستور دليل على أن الدولة عازمة على أن ترسي نظامها على أسس مؤسسية راسخة صحيحة وعصرية تنطلق من مبادئ الشريعة الإسلامية وتراعي ظروف المجتمع القطري، وفي الآن نفسه، تراعي متغيرات الحياة العصرية وتأخذ بما هو مفيد ونافع من تجارب الآخرين، بما لا يتعارض مع قيم ومبادئ ودين وتقاليد الشعب القطري.
وأشار الدكتور الشمري إلى أن صدور الدستور يُـجسد الخطوات المدروسة التي تسير عليها قطر “تجاه الحرية المنضبطة والديمقراطية التي تتناسب مع أوضاعها الاجتماعية وتركيبتها الأسرية والعائلية والقبلية في منطقة الخليج عموما، وفي قطر خصوصا”.
ومن ناحيته، أكّـد الدكتور يوسف عبيدان، أحد أعضاء لجنة إعداد الدستور وأستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر أن صدور الدستور بمرسوم أميري يـُعتبر أمرا هاما، ويُـمثل تتويجا لمرحلة هامة من مراحل التطور السياسي والدستوري في قطر، “ذلك التطور الذي سيمنح الفرصة للجميع لممارسة الديمقراطية عن طريق المشاركة الشعبية في المجالات السياسية التي يُـعتبر البرلمان المنتخب أهم مضمونها وجوهرها”، حسب تعبيره
وأضاف الدكتور عبيدان أن النص على البدء بالعمل به بعد مرور سنة من نشره إنما يدل على “حِـكمة الأمير التي قضت بالبدء في الخطوات الدستورية بطريقة متأنية ومتدرجة، ترسي دعائم الديمقراطية الصحيحة وتجنب التجربة عوامل الهزات”، مضيفا أن الاتجاه يسير على شاكلة الدساتير المعاصرة التي تُـعطي فترة زمنية لإصدار القوانين المكملة التي يُـراد منها صيانة المكاسب الدستورية التي يُـمارس الشعب خلالها الديمقراطية بالأسلوب الذي يُـحقق الغاية المرجُـوة منها.
تفعيل مبكر
أما الدكتور عبد الحميد الأنصاري، عميد كلية الشريعة السابق فيؤكد أن هذا الدستور حظِـي بموافقة شبه إجماعية في الاستفتاء الشعبي العام في أبريل 2003، فكان ترقّـب صدوره من قِـبل المواطنين أمرا بالغ الأهمية، حيث أن الأمير هو وحده المُـخوّل بإصداره حسب المادة «141» من الدستور، لذلك فإن يوم الإصدار يُـعتبر “يوما تاريخيا في تاريخ قطر السياسي” على حد تعبيره.
ويذهب الأنصاري إلى القول أن الدستور القطري بعد إقراره شعبيا وحتى قبل صدوره رسميا، “فإنه شهد تفعيلا مستمرا لبعض نصوصه، متمثلا في تفعيل مبكر للمادة (19) الخاصة بتكافؤ الفرص بين الجنسين والمساواة الإيجابية عندما عيّن الأمير، ولأول مرة على المستويين القطري والخليجي، سيدة قطرية وزيرة للتربية والتعليم بحقيبة كاملة، ثم بتعيين سيدة قطرية مديرة للجامعة وعميدة للكلية، إلى توفير ضمانات عديدة لحقوق المرأة وحقوق الإنسان بصفة عامة، عدا مشاريع القوانين الجديدة التي تأخذ دورها تباعا، ومن أهمها قانون الجمعيات، وقانون العمل”.
سيب
ومع كل هذه الشهادات الإيجابية، فإن قطر تبدو اليوم في بداية طريق التحرك نحو إصلاح دستوري، صادف انعقاد قمة الثماني، وهو ما بدا للبعض “رسالة قطرية” مفادها بأن الإصلاح الذاتي قد بدأ بدون “روشيتة” خارجية.
يُشار أيضا إلى أن العاصمة القطرية قد احتضنت عشية التئام قمة الثماني في “سي أيلاند” مؤتمر “الديمقراطية والإصلاح في الوطن العربي”، الذي افتتحه الأمير حمد بن خليفة آل ثاني مفندا مبررات تأجيل الإصلاح، واختم هذا المؤتمر جلساته بإصدار «إعلان الدوحة للديمقراطية والإصلاح» الذي تضمن أحد عشر مطلبا يتصدرها تحويل الممالك العربية إلى ملكيات دستورية، وتفعيل الجمهوريات العربية.
ومن جانبه، أكّـد الدكتور حسن الأنصاري، مدير مركز الخليج للدراسات أن إقرار الدستور الدائم هو ثمرة عملية الإصلاح التي بدأها الأمير، وقال: “إن الدستور هو إطار عام وعقد اجتماعي لابد من تطوير الأدوات التنفيذية لتطبيقه بعد عام من الآن، حيث أن المواد والتشريعات الواردة فيه فيما يتعلّـق بالجمعيات الأهلية وغيرها بحاجة للأدوات التنفيذية، ومن المهم البدء الآن بالعمل على إصدار قانون الانتخاب الذي يُـحدد طريقة الانتخابات وآليتها والعمل بها وجميع الإجراءات الأخرى المتعلقة بالانتخابات والأطر الديمقراطية التي أقرتها إرادة الشعب من خلال الاستفتاء على الدستور”،
وأضاف عميد كلية الشريعة السابق أن “العملية الديمقراطية لن تتم بين ليلة وضحاها، إذ لابد من استكمال التشريعات اللازمة لتطبيق بنود الدستور على أرض الواقع”، وهو ما يفسر إلى حدّ ما الإشارة التي وردت في أمر الإصدار إلى أن الدستور لن يدخل حيز التنفيذ إلا بعد سنة من الآن.
.
براغماتية وتحديات
ومما تقدم من الشهادات، يبدو واضحا أن القيادة القطرية قد أقرت نظريا حياة دستورية متطورة مع إعلان النية عن تأثيث “البيت الديمقراطي” خلال عام من الآن، وهي بذلك تفتح الشهية أمام مجتمع متكون من 130 ألف مواطن يتمتعون بثروة نفطية وغازية طائلة تسمح بتسيير الحياة السياسية المتطورة جنبا إلى جنب مع حياة اقتصادية واعدة بالرفاه، حيث تشير الأرقام المتوقعة إلى أن المواطن القطري سيُـصبح عام 2005 أغنى أغنياء العالم على مستوى الدخل الفردي الذي سيُـناهز حينها الخمسين ألف دولار سنويا!
هذا الرقم يشرح إلى حد كبير الالتفاف الشعبي حول اختيارات الأمير، رغم أن عموم القطريين يميلون إلى انتقاد السياسات الأمريكية في فلسطين والعراق في مجالسهم، في حين أن بلادهم تحتضن القاعدة الأمريكية العسكرية الأكثر تقدما في الشرق الأوسط، وهم يستعيضون عن ذلك بإيمان شبه جازم بأن أميرهم “يقودهم إلى الخيارات الصائبة في عالم اليوم” مثلما يتردد في أحاديثهم.
كما لا يتوانى القطريون بمختلف شرائحهم عن بذل الغالي والنفيس من أجل تنظيم حملات التبرع السخية للشعبين العراقي والفلسطيني في محاولة واضحة لإقامة “توازن براغماتي” بين الواجب القومي وبين ضرورات مسايرة المعادلات الدولية التي لا تنصف الجانب العربي.
لكن قطر التي تبدو أسطع الأمثلة على البراغماتية العربية اليوم، لا تهمل الجانب الاستراتيجي الذي يؤثث لمستقبل “ثوري” على المستوى التعليمي بإنشائها للمدينة التعليمية الضخمة، التي استطاعت بوفرة الأموال والرؤية الإستباقية، شراء حقوق تدريس تسع من أشهر الجامعات العالمية كخيار جديد يُـغاير المناطحة العسكرية والسياسية مع الغرب عبر التعويل على أجيال عربية متعلمة أحسن تعليم لكي تحسن استغلال الدستور، وهو ما سيضع السلطات القطرية آجـلا في مواجهة جيل لن يرضى بمجرد الإعلان عن الإصلاح والتحديث كشعار ترفعه اليوم.
فيصل البعطوط – الدوحة
دولـة قطر:
المساحة: 11.437 كلم2
عدد السكان: حوالي 700.000
القطريون: حوالي 170.000
نظام الحكم: ملكي
رئيس الدولة: حمد بن خليفة آل ثاني
تولى السلطة خلفا لوالده في انقلاب أبيض تم يوم 27 يونيو 1995
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.