إصلاح البيت العربى .. من مع ومن ضد؟
منذ سقوط العراق تحت سطوة الاحتلال الأجنبي والحديث لم ينقطع عن ضرورة إصلاح الجامعة العربية، باعتبار أن غياب هذا الإصلاح كان سببا مباشرا لوصول الوضع العربى إلى نقطة أدنى من الصفر.
بيد أن الحديث المسهب والغامض أيضا عن الإصلاح شيء، واتخاذ القرار بتطبيقه شيء آخر تماما.
ما حدث في اجتماعات وزراء الخارجية العرب بالقاهرة تحضيرا لقمة تونس، يكشف تلك المفارقة بكل جلاء وحزن معا. إنها ببساطة شديدة معضلة غياب الإرادة السياسية الجماعية، وهي الأصل في الداء وأصل الدواء معا.
سبع مبادرات .. تضارب أم تكامل
حسب المعلن، كانت هناك سبع مبادرات عربية لإصلاح النظام العربي وتنشيط الجامعة العربية، ووضعِ أسس جديدة لإدارة العلاقات العربية-العربية، وإنشاء مؤسسات إقليمية جديدة تحت مظلة الجامعة تهدف إلى معالجة اوجه القصور التي باتت واضحة للجميع.
كانت آخر هذه المبادرات ما عُـرف بالمبادرة الثلاثية، المصرية – السعودية – السورية، وقبلها مبادرة الأمانة العامة للجامعة التي لم تكن سوى تلخيص وتجميع الأفكار والمبادرات التي طرحتها دول عربية طوال العام المنصرم، ووضعتها بتصرف الأمانة العامة للاهتداء بها في وضع تصور متكامل.
وهنا، يطرح التساؤل نفسه، لماذا قدمت الدول الثلاث هذه المبادرة وهي تعلم أن هناك مبادرة أو بالأحرى تصور مقترح من قبل الأمانة العامة قائم أساسا على أفكار عربية وردت من أكثر من بلد عربي بما فيها الدول الثلاثة ذاتها؟
ليست هناك إجابة شافية عن الأسباب، لكن الأمر من الناحية العملية شكّـل نوعا من الازدواجية التي أجهدت الجميع، وأثارت الحساسيات، وطرحت التساؤلات، وفرضت قدرا من اللغط حول الدوافع، وكأن الوضع العربي بحاجة إلى مزيد من الحساسيات.
وفي ضوء الحساسيات المعروفة سلفا بين الكبير والصغير، بين القديم الراسخ والجديد الوافد، يُـمكن فهم بعض المواقف من قبيل، لماذا يرفض البعض مثلا اقتراح إنشاء برلمان عربي ـ كما حدث في اجتماعات البرلمانيين العرب في دمشق ـ وفقا لنسبة عدد السكان، كأن يمثل كل مليون نسمة عربية بنائب واحد.
ففي هذه الحالة يكون لمصر مثلا 70 نائبا، وللسعودية حوالي 20 نائبا، وللعراق 25 نائبا وللجزائر 24 نائبا وهكذا. في حين أن الدول الأخرى التي يقل عدد سكانها عن المليون نسمة، وكلها دول تقع في منطقة الخليج، قد لا تصيب سوى نائبا أو نائبين على الأكثر.
المشكلة هنا أن الذين قدموا الاقتراح أو صاغوه بهذه الروح، لم يكن هدفهم إنشاء برلمان عربي بالفعل، بل كان هدفهم إجهاضه بكل سهولة ويسر، وإلا لماذا لم يقدموا فكرة أكثر جاذبية بأن يكون هناك برلمان عربي يعكس أوزانا نسبية لثلاث شرائح مثلا من الكتل السكانية، كدول كبرى سكانيا يكون لها عشر نواب، وأخرى متوسطة سكانيا يكون لها سبع نواب، وأخرى صغيرة سكانيا ويكون لها ثلاث أو أربع نواب، بحيث لا تكون الفوارق كبيرة على الأقل في مرحلة أولى يكون هدفها تشكيل مؤسسة برلمانية عربية تجتمع على مناقشة الأوضاع العربية، ويكون لها مهمة التشريع في بعض المجالات والموافقة ـ بعد التمحيص والمناقشة ـ على مواقف عربية جماعية تجاه بعض القضايا.
نفسية جماعية رافضة
ما حدث بالنسبة لإجهاض مشروع برلمان عربي يشمل خلفية لما جرى في اجتماعات وزراء الخارجية العرب، وكلاهما يعكس نفسية رافضة للتطوير والإصلاح لمنظومة العمل العربي المشترك.
فالوثيقة التي لم تعلن رسميا بعد، والتي توصل إليها الوزراء العرب بشأن مبادرة إصلاح الجامعة العربية، وتُعد من وجهة نظرهم سرا حربيا، سوف تُـعرض على القادة في قمة تونس المقبلة نهاية مارس الجاري، وقد تسرب منها ما يفيد بأن الإجماع كان على تهميش التطوير، وليس تفعيله.
فكل الأفكار الكبرى والجريئة والرئيسية لأي تطوير وإصلاح تم تأجيل البت فيها تحت دعوى إجراء المزيد من الدراسات على أن تقدم إلى قمة الجزائر عام 2005، وإذا ما أقِـرّت آنذاك، فسوف يتطلب الأمر عاما آخر حتى تتحول إلى آليات ومؤسسات فعلية.
ومن قبيل ما تم تأجيله، أو بالأحرى تجاهله، إنشاء مصرف عربي للتنمية، ومحكمة عدل عربية، ومجلس أمن عربي، ومجلس ثقافي عربي. هذا التجاهل والتأجيل لأبرز نقاط التطوير والإصلاح يعكس خلافات أكّـدها وزير خارجية الجزائر.
فالدول التي لها علاقات أمنية واتفاقات دفاعية مع القوى الكبرى في منطقة الخليج، لاسيما مع الولايات المتحدة، لا تحبّـذ أن يكون هناك مرجعية عربية للأمن قد تُـعطل أو تُـلقى ظلالا معينة على تعاونها الأمني مع الولايات المتحدة.
والبعض يصل إلى نقطة أن ما يجمع الدول العربية في مجال الأمن الجماعي أقل كثيرا مما يمكن أن يشكّـل أساسا لقيام مثل هذا المجلس الأمني العربى المفترض، حتى ولو من قبيل التشاور وتبادل الآراء وتوضيح بعض النقاط، كما يحدث مثلا في منتدى الأمن الإقليمي في جنوب آسيا.
فالغالبية من العرب تُـركّـز على أن لكل بلد رؤيته الأمنية الخاصة، ولكل منطقة عربية فرعية ظروفها الخاصة، من حيث تحديد مصدر التهديد الأساسي والفرعي والاستراتيجية الأمثل للمواجهة، وهو تركيز يعكس أن الدول العربية غير مؤهّـلة بعدُ لان تتشارك في الهم الأمني، وليست راغبة في تقييد خياراتها الخارجية غير العربية.
لا .. للتنمية العربية؟!
ما قد يقنع في رفض قيام مجلس أمن عربي، يبدو عسير الفهم في رفض إنشاء مصرف عربي للتنمية، إذ أن رفض هذا المقترح، يعني في الواقع رفض أن يقوم العرب بما عليهم من مسؤولية في تنمية أنفسهم، وفي مواجهة التخلف الاقتصادي الذي يدفعون ثمنه جميعا في صورة حركات تطرف ونزاعات عنف، والاعتماد على الغير في تلبية أساسيات الحياة اليومية للمواطنين العرب، بغض النظر عن الجنسية التي يحملونها.
وحين يغيب العرب عن مجال تنمية النفس، يظل الأمر مرهونا بما يقدمه الغير، والجميع يعرف أن المقترح الأمريكي لما يُـسمى “الشرق الأوسط الكبير” يتضمّـن مؤسسة مالية دولية باسم مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير، وإنشاء بنك لتنمية الشرق الأوسط الكبير، على أن يمولهما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ويكون لهما القول الفصل في تمويل خطط معينة للتنمية في البلدان العربية والإسلامية وفق شروط سياسية واضحة.
فهل من رفض إنشاء مصرف عربي للتنمية كان يخلى السبيل أمام مصرف التنمية الأمريكي الأوروبي المقترح؟ عمليا نعم.
لا.. للعدل العربى؟!
أما رفض مقترح محكمة عدل عربية وإنشاء مجلس ثقافي عربي، فيثيران في النفس الكثير من الشجون. بعض المعلن عربيا بشأن إنشاء المحكمة العتيدة، أن هناك قضايا حدودية كثيرة لم تُحل بعد، بعضها بين دول عربية في الخليج، وأخرى بين دول عربية في الوسط، وثالثة بين بلدان مغاربية، الأمر الذي سيعقّـد دور المحكمة إذا قامت وسعت إلى القيام بدورها.
ومثل هذا التفسير فيه من السذاجة الكثير. فالمحاكم الإقليمية أو الدولية تعقد لحل المشكلات بين الدول بالطرق القانونية والسلمية، ومن بينها مشكلات الحدود. والمنطق يقول، إن وجود مشكلات معلّـقة، يقتضي سرعة إنشاء المحكمة لا العكس.
أما عربيا، ووفقا للرؤية الرسمية، فالجميع يريد محكمة لا تعمل، ويريد أن يبقى مشاكله ونزاعاته الحدودية لغرض ما في نفس يعقوب.
كما أن قرار إحالة مقترح إنشاء هذه المحكمة لمزيد من الدراسة، يتجاهل كل الدراسات القانونية التي تـمّت خلال العشرين عاما الماضية حول الموضوع ذاته، ويتجاهل المقترح القيم الموجود بالفعل في أروقة الأمانة العامة للجامعة منذ اكثر من عقد كامل حول المحكمة المنتظرة وميثاقها ووظائفها وتشكيلها.
ترفع على العروبة؟
لكن أن يرفض تشكيل مجلس ثقافي عربي، فذلك لا تفسير له، إلا أن البعض من العرب بات يترفّـع على عروبته، ويرى أن التمسك بها الآن قد يجلب المشكلات اكثر مما يوفر المصالح. وربما باتت دول عربية كثيرة، شرقا وغربا، ترى في أقلياتها الموجودة بين ثناياها التي تنادى بهويات ولغات غير عربية مبررا للابتعاد عن مجلس لن يقدم ولن يؤخر.
ومن بين ما تم رفضه أيضا استحداث عضوية المراقبين، حيث تمنح للدول المجاورة غير العربية، باعتبار أن هذه الخطوة تعنى انفتاح النظام الإقليمي على جواره الجغرافي الأكبر، وتجسيد الروابط والمصالح المشتركة. وكان مفهوما أن هذه العضوية مشروطة بحسن الجوار، وهو ما لا ينطبق على إسرائيل تحديدا.
غير أن الرفض جاء من دولتي الإمارات والسودان. الأولى، بسبب ما تراه أولوية قضية الجزر على تطوير العلاقات العربية الإيرانية. والثانية، بسبب مشكلاتها المزمنة مع إرتيريا.
وبينما الانفتاح هو سمة العصر بكل أشكاله، فضّـل بعض العرب أن يظل نظامهم الإقليمي منغلقا على نفسه مع إعطاء الأولوية للصراعات الصغيرة على ما عداها من مصالح عربية جماعية كبرى.
يبقى القول أن مفهوم الإصلاح له مستويات عدة، وما اتُّـفق عليه يندرج تحت مقولة الحد الأدنى، فى الجزئيات والهوامش، أما الجوهر، فما زال بعيدا جدا جدا.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.