إضراب جوع مُـعـارضـيْـن بين اهتمام الخارج وتجاهل السلطة
يتواصل الإضراب عن الطعام، الذي يقوم به منذ يوم 20 سبتمبر، كل من رئيسة الحزب الديمقراطي التقدمي الآنسة مية الجريبي ومدير صحيفة "الموقف" السيد نجيب الشابي، وذلك دون أفق واضح.
وقد دخل الإضراب مُـنعرجا جديدا بعد أن أصدرت محكمة الناحية بتونس العاصمة حُـكما يقضي بفسخ عقد الإيجار وإلزام الحزب بالخروج من مقرّه المركزي وتسليمه إلى صاحبه، وبذلك يكون المضربان قد خسرا نهائيا المعركة القضائية، وهو أمر كان ينتظرانه منذ بداية المواجهة.
بقي الرأي العام المسيس ينتظر حاليا ما الذي ستُـسفر عنه المعركة السياسية الدائرة بين هذا الحزب المتمسك بحقّـه في النشاط وبين السلطة التي يبدو أنها مُـصرة من جهتها على تحجيم هذا الخصْـم المُـشاكس، الذي يريد أن يقود المعارضة الاحتجاجية ويفرض بوسائله السلمية مبدأ التداول الديمقراطي على الحكم. فإلى أين تسير الأحداث؟
قرّر الحزب الديمقراطي التقدمي عدم اللجوء إلى استئناف الحكم، وذلك لاعتقاد قيادته بأنه ذو طابع سياسي، كما أعلن المضربان في مؤتمرهما الصحفي الأخير (يوم 2 أكتوبر) عن عزمهما الاستمرار في إضرابها المفتوح، وقد بدا واضحا أنهما سيبذُلان جُـهدا استثنائيا – سيكون قاسيا بلا شك – لبلوغ موعِـد الذكرى العشرين لاستلام الرئيس بن علي السلطة يوم 7 نوفمبر المقبل.
وإذا ما تمكّـنا فعلا من الصّـمود شهرا آخر، فسيتسبَّـبان مُـؤكّـدا في إفساد أجواء الاحتفالات بهذه المناسبة الرمزية، وبالتالي، خلق مشكلة سياسية ليست في صالح النظام الذي يتهيّـأ منذ أشهر لمثل هذا الحدث الاستثنائي، خاصة وأن هذه الذكرى قد ارتبطت بانتظارات وتسريبات تُـوحي بأن قرارات ستُـتخذ من أجل “دعم التعددية”.
وبالتالي، فإن استمرار هذا التحرّك الاحتجاجي، من شأنه أن يُـربِـك السلطة ويفسد عليها عُـرسها ويقلل من أهمية ما قد يقع الإعلان عنه، والذي سيفسَّـر بأنه جاء “تنازلا” تحت الضغط، وليس “هدية” من النظام.
عوامل ورهانات
هذا التزامن بين الحدثين هو الذي يفسِّـر الحملة الإعلامية الموجّـهة ضد الجريبي والشابي، والتي انخرطت فيها بحماس بعض الأحزاب السياسية التي تربطها علاقات جيِّـدة مع الحكم. فـ “حزب الخضر للتقدم”، الذي حصل على تأشيرة الاعتراف بدلا عن حزب الخضراء، اعتبر أن “الدخول في تحرّكات احتجاجية في مثل هذا التوقيت لا ينم عن روح مسؤولة تُـجاه مكاسب البلاد”.
أما حزب الوحدة الشعبية، فقد أدرج الإضراب ضِـمن سياق دولي وإقليمي، حيث عبَّـر عن إدانته لما وصفه بالدور المشبوه الذي تقوم به سِـفارات بعض الدول “التي تُـعادي الحقوق العربية المشروعة وتدعم العدو الصهيوني” (في إشارة للزيارة التي قام بها السفير الأمريكي إلى المضربين)، وبناء عليه، فإنه يُـعلن عن تصدّيه “لكل مَـن ينْـساق في خِـدمة مشاريع الفوضى البنّـاءة، التي تنتهك سيادة الدول”، والمقصود به طبعا، المضربان والحزب الديمقراطي التقدمي.
في هذا السياق، من الطبيعي أن يتساءل المُـراقب عن العوامل أو الرِّهانات التي يستمد منها المُـضربان حماسهما لمواصلة الإضراب عن الطعام وتعريض نفسيهما للخطر.
أول هذه العوامل، اعتقادهما بأنه كلَّـما تشنّـج النظام في ردود أفعاله ولجأ إلى مزيد من الضغوط والوسائل الاستثنائية، إلا واعتبرا ذلك دليلا على أن معركتهما ليست مع صاحب مقر، وإنما هي مع الحُـكم مباشرة، وبذلك، يتم إضفاء الطابع السياسي على ما يجري من تطورات، وهما ينتظران حاليا تدخّـل قوات الأمن لتنفيذ الحُـكم القضائي الصادر ضِـد الحزب بإخلاء المقر وإعادته لمالكه، ليجعلا من ذلك لحظة تحدّي ورفع معنويات المناضلين والظهور بمظهر الضحية والمضطهد.
أما العامل الثاني، الذي يستند عليه المضربان لتبرير إصرارهما على الاستمرار، هو المساندة الواسعة لهما ولحزبهما من قِـبل أوساط الحركة الديمقراطية والمجتمع المدني، فرغم الخلافات القائمة والتحفّـظات التي يستبطنها هذا الطرف أو ذاك، فإن أغلب الأوساط الديمقراطية من أحزاب وجمعيات وجدت نفسها مدعوّة للتَّـعبير عن تضامنها وتقديم الدّعم السياسي للمضربين.
انزعاج السلطة
هذه الأوساط، التي لم تكتف برفض الرواية الرسمية وما قدّمته من مُـبررات، وإنما أكّـد العديد منها عن اعتقاده بأن ما يجري هو صِـراع بين إرادات سياسية وأن ما تعرّض له الحزب الديمقراطي التقدمي ليس شأنا خاصا به، وإنما يشكِّـل تهديدا للحركة الديمقراطية برمّـتها.
هذه المساندة والحركية التي أحدثها الإضراب، جعلت الجريبي والشابي يعتقدان بأنهما قد ربحا المعركة السياسية، وإن خسرا المعركة القانونية، وهذا يعني أن الحكم فشل في عزل الحدث وتهميشه أو حتى التقليل من أهميته.
أخيرا، راهن المضربان ولا يزالان على دور العامل الخارجي، وهو عامل كان دائما حاضرا في كل التحركات الاحتجاجية التي قام بها المعارضون التونسيون بمختلف تياراتهم، والذي تُـسميه الأقلام المدافعة عن السلطة بـ “الاستئساد” بالخارج.
ولا شك في أن السلطة قد انزعجت كثيرا ولا تزال، من الاهتمام المتزايد لسفارات الدول الغربية بإضراب الجوع، خاصة الزيارة المفاجئة التي قام بها سفير الولايات المتحدة لمقر الحزب الديمقراطي وقضى حوالي ساعة في حوار مُـطوّل مع المضربين، حيث أكّـد لهما “اهتمام حكومة بلاده بمسألة الحريات والإصلاح السياسي في تونس”.
وقد شكّـل هذا الاهتمام الخارجي المُـتزايد عُـنصر ضغط واضح على السلطة، لأنه يتضمّـن رسالة صريحة من قِـبل حكومات هذه السفارات، مضمونها أن الدّعم الغربي القوي لنظام الحكم في تونس واستقرارها، لا يعني التغاضي عن الانتهاكات التي قد يتعرّض لها المعارضون لسياستها، خاصة إذا كان هؤلاء ليسوا إسلاميين أو متطرفين دينيين، وإنما جزء من الوسط الليبرالي الديمقراطي. فالأستاذ أحمد نجيب الشابي معروف لدى الأوساط الغربية، التي تعتبره معارضا يحظى بالاحترام، وهكذا يتبيّـن أن السلطة تجِـد صعوبة واضحة في تحسين صورتها وفي إقناع أصدقائها بسلامة اختياراتها في مجال الحريات السياسية.
المضار أكثر من المنافع
وفي ردّ على سؤال وجّـهته لها سويس أنفو حول اتِّـهام السلطة لها ولزميلها بتحريض الخارج على تونس وما اعتبره أحد الكتَّـاب بـ “الخطأ الاستراتيجي”، في إشارة إلى اللقاء الذي جمعهما بالسفير الأمريكي، قالت رئيسة الحزب مية الجريبي إنه “من المؤسف أن تهتَـم الأوساط الدبلوماسية الغربية بالإضراب، في حين تُـبدي الحكومة التونسية تجاهُـلها لذلك”، وأكدت بأن للحزب مواقف معروفة من القضايا العربية مثل “فلسطين والعراق” وأن الحزب “لا يقبل دروسا في الوطنية من أيٍّ كان، خاصة من السّـلطة التي وجّهت دعوة إلى شارون، والتي تربطها علاقات خفِـية ومُـعلنة بالكيان الصهيوني”، وأضافت الأمينة العامة للحزب بأن العلاقات الخارجية “ليست حِـكرا على الحكومة، وأن الاتهامات الموجهة إلينا هي جزء من محاولة للالتفاف على الدّعم الداخلي والخارجي الذي لا زلنا نتلقّـاه”.
بالرغم من أهمية هذه العوامل والرِّهانات، غير أن ذلك لا ينفي أنه في ظل تصلّب الحكم والتظاهر بعدم اهتمامه بما يجري، قد يجد المُضربان نفسيهما إلى جانب حزبهما في مأزق سياسي، يسيران نحو نهاية مجهولة.
من جهتها، تراهن السلطة على عدد من العوامل التي قد تساعدها على تطويق هذا التحرك الاحتجاجي. فهي أولا تتوقّـع أن يؤدّي إغلاق المقر المركزي للحزب الديمقراطي وعدد من مقرّاته في الجهات، إلى الحد من حيويته، كما يُـفقد ذلك في الآن نفسه أوساط الحركة الديمقراطية الاحتجاجية فضاءً هاما، كانت تستغله للتنسيق والتجمع في مرحلة يصعب فيها على المعارضين الحصول على أماكن عمومية لتنظيم التظاهرات السياسية، التي لا ترضى عنها السلطة، لكن بعض أصدقاء السلطة أو أعضاء الحزب الحاكم يتساءلون همسا عن الجدوى السياسية من هذه المعركة، التي تدور حول مقر حزب صغير؟ أليست مضارّها أكثر من نفعها، رغم ما تستند عليه من وجاهة قانونية؟
كما تتوقع أوساط السلطة بأنه سيكون من الصّعب أن يستمِـر الإضراب شهرا آخر، وبالتالي، فإن هناك احتمال أن يؤدي تدهور صحّـة المضربين إلى وضع نهاية لهذا التصعيد، وهو احتمال وارد، لكنه لن يُـقلل كثيرا من التداعِـيات السياسية على الأجواء العامة، فالتقارير الطبية والتجارب السابقة تُـدلل على أن المعنيين بالأمر، بإمكانهما الاستمرار لفترة أخرى.
الرهان الثالث، الذي قد تنتظره السلطة بشكل من الأشكال، هو احتمال حصول أزمة بين قيادة الحزب الديمقراطي وبقية مكوِّنات حركة 18 أكتوبر أو حتى اندلاع خلاف داخل صفوف الحزب نفسه.
خطأ تكتيكي
فالأوساط القريبة من السلطة تُـروِّج إلى أن الإضراب جاء نتيجة “مزايدات بين طرفين مختلفين داخل الحزب حول كيفية التعامل مع الحكم”، كما تشير نفس الأوساط إلى أن بعض مكوِّنات 18 أكتوبر فوجِـئت بقرار الإضراب، وهو ما جعلها تشعُـر بأنها قد أصبحت رهينة اختيار لم تُـستشر فيه، خاصة إذا كان لذلك صلة بالاستحقاق الرئاسي القادم.
مع أهمية هذه الإيحاءات أو الاحتمالات، إلا أن هذه الأوساط قد لا تدرك أنه كلّـما كان هناك طرف مستهدَف من قبل السلطة، إلا وكان ذلك عامِـلا قويا مساعدا على تجاوُز الخلافات وإعطاء الأولوية لدعم الحليف الموضوعي، ولو بصفة ظرفية، وبالتالي، فإن الحل لا يكمُـن في انتظار انفِـجار التَّـحالفات القائمة، بل في كيفية معالجة المِـلف السياسي برمَّـته.
فالنظام يتمتّـع حاليا بكل قِـواه ولا توجد مخاطِـر حقيقية يُـمكن أن تبرر الاستمرار في سياسة القبضة الحديدية الممارسة ضد الأحزاب المعارضة والمنظمات المستقلة، ولهذا، يعتقد المراقبون، (وحتى بعض الأصوات الخافتة التي تهمس في أذن هذا الطرف أو ذاك)، بأن السلطة ارتكبت خطأ تكتيكيا بإثارتها لهذا الملف وفي هذا التوقيت بالذات.
فماذا كان سيضيرها، لو استمر الحزب الديمقراطي التقدمي في مقره وقامت السلطة بفتح قنوات حوار معه ومع غيره من الأحزاب والجمعيات المغضوب عليها؟ بل إن البعض قد يذهب إلى أكثر من ذلك بالتساؤل: هل فكّـر أصحاب القرار في حساب الرّبح والخسارة لو أفضت الانتخابات التشريعية القادمة إلى توسيع الحضور تحت قبّـة مجلس النواب، لتشمل ممثلين عن مُـعظم مكوِّنات حركة 18 أكتوبر؟
للإجابة عن هذا السؤال، في إمكان الناصحين أن يُـلفتوا الأنظار إلى الحالة الجزائرية أو حتى المصرية على سبيل المثال، لكن هل أضحت مطالبة السلطة باستشراف مختلف للمرحلة القادمة طلبا مستحيلا أم أنها لم تعُـد قادرة على تجاوز السيناريو الذي وضعته عام 1994، عندما قررت تخصيص نسبة 20% من مقاعد البرلمان للأطراف السياسية التي تعتبرها الأكثر قُـربا منها، في الوقت الذي يتّـفق فيه جميع المراقبين على أن ذلك السيناريو قد استنفد أغراضه وأن مضارّه أصبحت تفوق منافعه بكثير.
صلاح الدين الجورشي – تونس
تونس (رويترز) – هاجم اثنان من زعماء حزب تونسي معارض يضربان عن الطعام منذ 13 يوما سلطات بلادهما بشدة، بعد قرار قضائي بإخراج الحزب من مقره بالعاصمة، وأعلنا الاستمرار في إضرابهما رغم حرج حالتهما الصحية.
وقالت مية الجريبي، الأمين العام للحزب الديمقراطي التقدمي في مؤتمر صحفي بالعاصمة يوم الثلاثاء 2 أكتوبر “الحكم بإخراجنا من المقر ليس مفاجئا ولا معزولا.. ولن نلجأ للاستئناف، لأن القرار مجرّد مسرحية تنفِّـذها الحكومة لضرب الحِـزب وعرقلة أنشطته”.
وكانت محكمة تونسية قد قضت يوم الاثنين 1 أكتوبر بإخراج الحزب من مقره المركزي بالعاصمة، بعد أن تحول قصد استعماله من مقر لصحيفة الحزب إلى مركز للاجتماعات السياسية.
وتخوض الجريبي ونجيب الشابي، مدير صحيفة الموقف والأمين العام السابق للحزب منذ 13 يوما إضرابا مفتوحا عن الطعام للتصدّي لما سمِّـياه “عرقلة السلطة لحزبهما… باستهداف مقراته”.
ويتهم الحزب الديمقراطي التقدمي، أبرز أحزاب المعارضة، السلطات بالسعي منذ فترة لطرده من مقره بالعاصمة من خلال الضغط على مالك المقر، لكن السلطات نفت هذه الاتهامات وأصرت على أن هذا النزاع المتعلق بمقر صحيفة الحزب، هو نزاع مدني عقاري.
وقال مصدر حكومي إن “محاولات توظيف هذا النزاع توظيفا سياسيا، هي تصرفات غير مسؤولة”.
وقال الشابي في المؤتمر الصحفي، الذي حضره دبلوماسيون غربيون وممثلو أحزاب سياسية تونسية “بإمكان الدولة أن تنتصر علينا بإخراجنا من المقر، لكن بِـئس الانتصار، فنحن بصدد كسب المعركة سياسيا من خلال تشكيل قوة ديمقراطية مُـلتفة حول مطلب الحرية الذي ندعو إليه”، وأضاف “رغم أن صحتنا تدهورت بشكل واضح، كما أشارت التقارير الطبية، فإننا مصِـرون على مواصلة الإضراب حتى تتحقق مطالبنا”.
وواجه الإضراب الذي يخوضه الشابي والجريبي انتقادات واسعة في الصحافة المحلية وبعض الأحزاب السياسية. واتهمت صحف محلية الحزب الديمقراطي التقدمي بإتاحة الفرصة للتدخّـل الخارجي في الشؤون الوطنية، بعد استقبال السفير الأمريكي في تونس بمقر الإضراب الأسبوع الماضي.
لكن الشابي رفض هذه الاتهامات وقال “زيارة بعثات غربية لنا هي دعم للإصلاح الديمقراطي وليس تدخلا أجنبيا، لأنهم لا يتدخلون في أجنداتنا وحضورهم عنوان اهتمام بالديمقراطية”.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 2 أكتوبر 2007)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.