إلى أين تسير الصحافة المغربية؟
ما نشرته اسبوعية مغربية من حكاية عن فضيحة اخلاقية لوزير مغربي كبير، طرح للنقاش وضعية الصحافة المغربية والانحدار الذي وصلت اليه.
ويتساءل كثيرون عن علاقة ذلك بالوضع السياسي في البلاد التي فقدت، تحت شعار الحريات والتغيير، الكثير من القيم التي كانت تعتز بها…
قالت اسبوعية من صحف الرصيف إن وزير المالية المغربي، الدكتور فتح الله ولعلو، الذي يعتبر من اهم المفكرين الاقتصاديين في الوطن العربي، أومأت اليه بالصفات الواضحة دون أن تسميه، ضُـبط في حالة شذوذ مع رجلين في مصيف يقع شمال البلاد.
ونظرا لأن الاسبوعية محدودة التوزيع، قامت جهات مجهولة بنسخ عشرات الالاف مما نُـشر ووزعته على المؤسسات والجامعات والمدارس، وهو ما دفع النقابة الوطنية للصحافة المغربية إلى القول بأن ذلك “لا يمكن إلا أن يكون فعلا منظما رصدت له الامكانات البشرية والمادية اللازمة”.
واذا كان من السهل القول ان كل دول العالم التي تعرف “هامشا واسعا” في حرية التعبير والصحافة تمر في مثل هذه المسائل، أو القول إن جهات ما تريد تصفية حسابات مع المسؤول المغربي، فإن ما نُـشر يكشف عن مدى الانحدار الذي تعرفه الصحافة المغربية في ظل غياب كامل لمؤسسات مهنية أو نقابية من خارج الدولة، تضبط العمل الصحفي وتحول دون نزوعه نحو الاسفاف أو الخروج عن القيم والنواميس المتفق عليها والتي لا تتناقض مع الحريات، إذ أن الحريات وفي كل المجتمعات، والاوروبية منها خاصة (التي تحاول دول العالم الثالث التمسك بأهداب شعاراتها وتقدم نفسها على اعتبار أنها من هذه المنظومة، أي الدول المحسوبة على هذه الديمقراطية)، مضبوطة بالقانون ومراقبة من جانب قضاء عادل ومستقل، ومحمية من طرف سلطة تنفيذية عادلة.
ومع أن حرية الصحافة، والحريات بشكل عام، قد باتت جزءا من السلوك اليومي لمواطني هذه المجتمعات، إلا أنها ظلت في الغالب الأعم حرية ممزوجة بأقدار معتبرة من المسؤولية، وهذا ما تفتقده، تحديدا، الحياة الصحافية المغربية.
الصحف المستقلة .. وصحف الرصيف
يجدر التذكير هنا، أن الصحف الحزبية هيمنت على الحياة الصحفية المغربية منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، واستطاعت هذه الصحافة خلال العقود الاربع التي تلت الإستقلال أن تخلق تقاليد صحافية حافظت على قيم المجتمع الأساسية.
فالاحزاب، وان كانت لم تستطع ان تطور صحافتها (والصحافة المغربية بالتالي)، لتصبح مرجعيتها مهنية اكثر مما هي مرجعية حزبية، الا ان طبيعة علاقة الاحزاب مع انصارها ومؤيديها من جهة وطبيعتها التناحرية مع السلطة، فرضت على صحفها “الاتزان وعدم الانزلاق نحو الرصيفية”.
وخلال هذه العقود، ظهرت صحف “مستقلة” غير حزبية لم يتسن الا للقليل منها الصمود في هذا الميدان، لكنها حرصت على الالتزام بضوابط المهنة واخلاقياتها، رغم شراسة المواجهات السياسية بين السلطة ومعارضيها أو “الحروب” التي وقعت بين الاحزاب، فكانت الحياة الشخصية وأعراض الناس، العاديين او الشخصيات العامة، محمية ومصانة بالعرف ومحترمة ولا يُـقترب منها.
ومنذ منتصف التسعينيات، عرف المغرب ظاهرة “الصحف المستقلة” التي كانت بدايتها غير مفهومة، وفي ذلك الحين كان من الطبيعي ان تتناول هذه الصحف من الملفات ما لا تستطيع الصحف الحزبية الاقتراب منه.
وحين أصبحت الاحزاب المغربية الرئيسية (منذ تشكيل حكومة التناوب عام 1998 برئاسة عبد الرحمان اليوسفي) فاعلا حكوميا، وابتعاد صحفها عن التعاطي مع الشأن العام من موقع الناقد او المعارض، اتضح ان مهمة الصحف المستقلة كان لعب دور المعارضة لهذه الحكومة واحزابها نظرا للمعرفة المسبقة بضعف الاحزاب التي انتقلت لتجلس على مقاعد المعارضة في البرلمان.
على هامش الصحف المستقلة وفي ظل انعدام المقاييس للحريات، ظهرت صحف الرصيف التي وإن لم تقترب من المقدسات السياسية للبلاد، أي الملكية والدين وقضية الصحراء الغربية، إلا أنها لم تترك مقدسا للمجتمع والحياة السياسية والحزبية والثقافية ومؤسساتها الا ومسته، ليس بالنقد والتحليل فحسب، انما بالتسخيف والتمييع والتحقير والاعتداء على الاعراض، دون متابعة او ملاحقة من أي طرف كان.
حـريـات مـهـددة؟
كانت التحليلات لهذه الظاهرة والتعاطي الرسمي معها يوصل الى وجود رغبات ورؤى تتبلور لتقليص دور الاحزاب المغربية في الحياة العامة، وترى أن ذلك يبدأ بتقليص دور صحفها وتأثيرها في الرأي العام، ثم الوصول الى المس بها وكشف “أوراقها” او أوراق قياداتها التي تنتمي جميعها لجيل الاستقلال، ومن هو من جيل احدث لا تأثير وفاعلية له وسط هذه الاحزاب، ولان هذه القيادات تعاطت مع الشأن العام خلال العقود الماضية وفق رؤى وقيم لا تتناسب مع مغرب القرن الحادي والعشرين.
وبغض النظر عن التحليلات والنتائج، فإن حالة الصحافة المغربية توجت بما نشر عن الدكتور فتح الله ولعلو، ليجد المعنيون الذين كانوا يشجعون هذا الانتاج الصحفي او يغضون النظر عنه ان استمراره، في ظل حماية دولية لهذا الانتاج او للحريات العامة، سيزيل من امامه كل الحواجز حول كل المقدسات، وهو ما جرى خلال السنتين الماضيتين تجربته، ووُوجه بتحرك سريع للسلطة رغم ما تلقته من نقد محلي او دولي.
الاحزاب الديمقراطية والصحف المغربية لم تشعر بالحرج بإثارة ما نشر بحق الدكتور فتح الله ولعلو من قدح واساءة وتشويه واثارة نقاش حول هذا الانتاج الصحفي الذي بات مثيرا للاستياء بعد ان كان مثيرا للتساؤل.
ولم يخل النقاش من اتهامات لجهات مجهولة “استعملت فيها صحافة الرصيف والصحافة اليمينية الضحلة وروجت لها الابواق المأجورة” كما ورد في بيان للمكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي الذي ينتمي اليه الدكتور ولعلو، وهو ما يشجع على الاعتقاد بأن المسألة اكبر من ممتهن للصحافة يريد رفع ارباحه دون اعطاء الكيفية التي يحصل بها على ذلك اهتماما، ان كان ذلك يمس بكرامة الناس واعراضهم.
لكن ذلك يطرح سؤالا ممزوجا بالحيرة والقلق ويبقى دون اجابة، اذا كانت شخصية بمستوى الدكتور فتح الله ولعلو الذي يعتبر، اضافة لمسؤولياته الرسمية والحزبية وعلاقاته الوثيقة مع القصر، أحد أبرز المفكرين الإقتصاديين العرب، تتعرض لما تعرضت له من جهات لا يستطيع احد كشفها ويكتفى بالايماء اليها دون توضيح، فإن ذلك يعني ان في البلاد قوة اقوى من كل ما هو منظور..
وفي هذا تهديد واضح لكل الحريات التي تحت خيمتها يمكن ان تمارس كل انواع الانتهاكات الجماعية والفردية.
محمود معروف – الرباط
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.