إمكانيات ضئيلة لمشروع طموح!
بعد طول انتظار، كشف وزير الخارجية الأمريكي عن "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط" لدفع عجلة التنمية الاقتصادية والديمقراطية في العالم العربي.
وقال كولن باول، إن هذه المبادرة “ستضع الولايات المتحدة في موقف ثابت لمساندة إحداث تغيير وإصلاح ومستقبل عصري للشرق الأوسط”.
أوضح كولن باول في الخطاب الذي ألقاه أمام مؤسسة Heritage Foundation يوم 12 ديسمبر 2002، وبحضور سفراء مصر ولبنان وتونس والجزائر وممثل منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، أن مبادرة الشراكة الأمريكية مع الشرق الأوسط تتطلع إلى تشجيع المشاركة الشعبية في العملية السياسية، ومساعدة المؤسسات التعليمية في الشرق الأوسط على تحسين مستوى التعليم ومكافحة الأمية، ومؤازرة حقوق المرأة، ودعم القطاعين العام والخاص في العالم العربي لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية وتعزيز فرص الاستثمار، بالإضافة إلى دفع عجلة التفاهم بين الشعب الأمريكي والشعوب العربية.
وأعلن باول أن حكومة الولايات المتحدة رصدت مبلغ 29 مليون دولار لتمويل عدة مشروعات اختيارية إصلاحية في دول الشرق الأوسط في المجالات المذكورة، بالإضافة إلى الاعتمادات المخصصة لمساعدة الدول العربية في إطار برنامج المساعدات الخارجية الأمريكية، والتي تزيد على مليار دولار.
ولعل من المفيد قبل التأمل في ضحالة الإمكانيات المالية المخصصة لأهداف المبادرة الأمريكية الطموحة، التعرف أولا على عناصر مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط.
تتطلع هذه المبادرة إلى إقامة شراكة مع حكومات وشعوب العالم العربي لإدخال إصلاحات في ثلاثة مجالات تعتبرها واشنطن رئيسية:
التعليم
·تخصيص برامج تركز على تحسين حياة الفتيات والنساء في المجتمعات العربية، من خلال التدريب على القراءة والكتابة وتقديم منح دراسية للمحافظة على استمرار المرأة العربية في الدراسة.
·تحسين مستوى التعليم، ليتناسب مع متطلبات العصر عبر التعلم الإلكتروني، وإتقان اللغة الإنجليزية، وربط مزيد من المدارس والطلاب بشبكة الإنترنت.
·تنفيذ برامج لتدريب المعلمين في المدارس الابتدائية والثانوية، وزيادة التعاون بين الجامعات العربية والأمريكية لتحسين التعليم العالي، وتقديم منح دراسية في جامعات أمريكية مع التركيز على مجالات الدراسة في الاقتصاد والتعليم وإدارة الأعمال والعلوم وتكنولوجيا المعلومات.
الإصلاح الاقتصادي وتنمية القطاع الخاص
·تقديم المساعدة في مجال زيادة الشفافية و مكافحة الفساد، والمساعدة في إصلاح القطاع المالي في الدول العربية.
·توفير منح دراسية أمريكية للتدريب في مجال الأعمال الخاصة بالتعاون مع وزارة التجارة وعدد من الشركات الأمريكية، مع التركيز على تطوير فرص التدريب لسيدات الأعمال العربيات.
·إقامة برامج لمشروعات الأعمال الصغيرة، وتخصيص اعتمادات لتوفير رأس المال والمساعدات الفنية لرجال الأعمال العرب الواعدين.
·مساعدة الدول العربية الأعضاء في منظمة التجارة العالمية لتمكينها من تنفيذ التزاماتها، ومساعدة الدول العربية غير الأعضاء للوصول إلى المستويات المطلوبة للانضمام إلى المنظمة.
تعزيز مؤسسات المجتمع المدني
·تدريب النشطين السياسيين العرب على كيفية الإعداد لترشيح أنفسهم للمناصب السياسية وعضوية البرلمانات العربية، والمناصب الأخرى عن طريق الانتخاب.
·استخدام آليات متطورة لدفع عملية الإصلاح السياسي في الدول العربية من خلال المنظمات غير الحكومية.
·دعم إنشاء المزيد من المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام المستقلة، ومنظمات استطلاع الرأي العام كأساس لمجتمعات ديمقراطية عربية.
بين باول ومارشال؟
إن المتأمل لهذه الأهداف الطموحة، التي تسعى إلى تحقيقها مبادرة باول للشراكة الأمريكية مع شعوب وحكومات الشرق الأوسط، سيدرك على الفور أنها جاءت لتعالج مشكلة الانتهازية السياسية الأمريكية في الماضي، التي اعتمدت على تجنب العمل على تعزيز الديمقراطية في العالم العربي، مقابل ضمان تدفق مستمر للبترول العربي، أو الحصول على تسهيلات إقامة قواعد عسكرية أمريكية في دول الخليج، أو مساعدة الأنظمة العربية للولايات المتحدة في احتواء التوسع السوفيتي، أو خطر تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية، أو الترويح لاتفاقيات سلام منفردة مع إسرائيل.
ولم تقدم الولايات المتحدة مبادرتها الجديدة إلا بعد أن فقدت الآلاف من أبنائها في هجمات سبتمبر الإرهابية التي أدركت واشنطن بعدها أن الركود الاقتصادي وبطالة الشباب العربي وانغلاق معظم الأنظمة السياسية العربية، كانت كلها مرتعا خصباً للمتطرفين والإرهابيين الذين يستهدفون أمريكا انتقاماً من دعمها للأنظمة العربية البالية والمتكلسة التي يعيشون في ظلها ويعانون تحتها من الفقر والجهل والإحباط السياسي والتهميش الاقتصادي والاجتماعي.
ولئن كانت تلك الظروف تَحول دون توفير الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في منطقة الشرق الأوسط، وتؤثر بالتالي على المصالح القومية الأمريكية، بل وعلى الأمن القومي الأمريكي، فإن ذلك يذكر على الفور بظروف خارجية مشابهة في تأثيرها على الولايات المتحدة من خلال ما ساد أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حينما أدرك وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، جورج مارشال في خطابه الشهير عام 1948 أنه بدون إعادة إعمار أوروبا، التي خربتها الحرب، وبدون توفير الاستقرار الاقتصادي للقارة الأوروبية، لن يمكن للولايات المتحدة أن تؤمن مستقبل التعاون الغربي لتحقيق مصالحها القومية والإستراتيجية.
ولكن حقائق التاريخ توضح فارقاً لا يمكن التغاضي عنه بين وضوح الرؤية عند جورج مارشال، والتوافق بين الأهداف والسبل والوسائل المخصصة لتحقيقها، وبين التنافر العجيب بين الأهداف الطموحة لمبادرة باول والإمكانيات المتواضعة التي خصصتها الحكومة الأمريكية لإنجازها.
فعلى سبيل المثال، خصص جورج مارشال اعتمادات وصلت إلى 13.3 ألف مليون دولار لإعادة إعمار أوروبا، وهو رقم قد يصل اليوم، إذا أخذنا في الاعتبار معدل التضخم المالي ما بين عامي 1948 و2002، إلى حوالي 240 ألف مليون دولار، وليس 29 مليون! تضاف إلى ألف مليون دولار كمخصصات للدول العربية في برنامج المساعدات الخارجية الأمريكية.
وبطبيعة الحال، أمكن للاستثمار الأمريكي الضخم في مستقبل أوروبا تحقيق نتائج باهرة في غضون أربعة أعوام، حيث ارتفع إجمالي الناتج القومي الأوروبي فيما بين عامي 1947 و1951 بنسبة 32%.
كما أن جورج مارشال أوضح أن خطته لا تستهدف أي نظام حكم في أوروبا، ولكنها استهدفت القضاء على الفقر والجوع والإحباط واليأس والانهيار والفوضى التي خلفتها الحروب، وأن خطته لا تستهدف فرض أي تغيير أمريكي، وإنما مساعدة أوروبا. وحرص مخطط مارشال على أن تكون المبادرة نحو الإعمار والتنمية نابعة من شعوب وحكومات أوروبا.
المبادرة بين الأيادي البيضاء والعين الحمراء …
وبينما تحاول الإدارة الأمريكية تصوير مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط على أنها مشروع مارشال جديد، يستهدف هذه المرة إصلاحات جذرية في العالم العربي نحو مستقبل أفضل، فإن المدقق في أهداف المبادرة والموارد المالية المحدودة التي رصدتها إدارة الرئيس بوش لتنفيذها، سرعان ما يصل إلى قناعة مفادها أنها خطة للتدخل المباشر في الشؤون الداخلية العربية تحت غطاء المساعدات، ومراجعة برامج المعونة الأمريكية لاستخدامها في الضغط لتحقيق أهداف مبادرة الشراكة، دون أن تترك للحكومات العربية المتلقية لتلك المساعدات نفس الهامش من حرية التصرف الذي اعتادته.
فهذه المبادرة تتوجه بالمساعدات رأساً وبشكل مباشر إلى منظمات المجتمع المدني، وتستهدف إصلاح برامج التعليم مع التركيز على أن تكون المبادرة حامية حمى المرأة العربية، مما يجعل من العسير إضفاء صفة “الأيادي البيضاء” التي تختفي وراءها بالتلويح “بالعين الحمراء”، إذا لم تستجب الحكومات العربية للإصلاحات التي تتضمنها، دون أن توفر الإدارة الأمريكية الاعتمادات الكافية للمضي قدما في تنفيذها.
ومن هنا، يرى كثير من المحللين العرب أن مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط هي محاولة لتحويل فكرة “حوار الحضارات” إلى نموذج جديد في العلاقات الدولية يعتمد على فرض “الحضارة الأمريكية” على الشعوب العربية من خلال الضغط لتغيير القيم لتتناسب مع مقومات الثقافة الغربية، خاصة الأمريكية منها تحت تأثير اليمين المحافظ في الولايات المتحدة الذي ينظر باستعلاء واستعداء إلى العرب والمسلمين ويعتبرهم خطرا جديدا على الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
وبدا من خلال الردود العربية الرسمية القليلة على مبادرة باول، أن الدول العربية، وإن رحّبت بما قاله باول، لا تبدي حماسا كبيرا في التعامل مع جوهر المبادرة، أي النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي العربي.
وقال وزير الخارجية المصري أحمد ماهر “على الرغم من نقاط إيجابية معينة في المبادرة، فإننا نلاحظ أنها لم تتعامل مع المشكلة الرئيسية التي تعد السبب الرئيسي في كل المشاكل الأخرى في العالم العربي، وهي المشكلة الفلسطينية”. بينما رحبت قطر والبحرين والأردن بمبادرة باول، ووصفها العاهل الأردني الملك عبد الله بأنها مبادرة هامة تعكس الصداقة الوثيقة التي تربط الولايات المتحدة بالعالم العربي.
غير أن المحللين السياسيين في العالم العربي أجمعوا على أن معالجة مشاكل التنمية الاقتصادية والديمقراطية في العالم العربي تحتاج إلى نهج خاص لا يعتمد على الإملاء من واشنطن أو تصدير الأفكار من جانب واحد، وإلا وقعت المبادرة في فخ الحساسيات التاريخية، ووقع العرب في مصيدة العناد المستند إلى العزة القومية، وأنه لو قادت واشنطن المسيرة بتسوية مبكرة للصراع العربي الإسرائيلي ستفتح أبواب الأمل نحو عالم عربي متحرر من اليأس والإحباط والتطرف.
ولا بأس عندئذ، من أن تمد الولايات المتحدة يد العون الحقيقي إلى شعوب وحكومات المنطقة، وبتخصيص موارد ترقى إلى مستوى الأهداف المنشودة لإحداث انفتاح ديمقراطي تدريجي والمساعدة في توسيع نطاق الفرص الاقتصادية أمام الشباب العربي الذين قدر تقرير التنمية الاقتصادية العربية لعام 2002 عدد العاطلين منهم بأربعة عشر مليونا.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.