احتفالات الـجـزائـر وتـسـاؤلاتـهـا..
احتفلت الجزائر بعيد ثورتها الخمسين بأسلوب تقليدي، شمل العروض الثقافية والندوات التاريخية وغيرها، مما هو معمول به في احتفالات من هذا النوع.
غير أن ما ميّـز هذا الحدث، هو ظهور بعض قادة الثورة في شكل الآباء المؤسسين للدولة الجزائرية، وتحوله إلى فرصة للقاء استثنائي بين بعض الزعماء التاريخيين.
لقد أمر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عشية الاحتفالات بإلغاء عرض عسكري ضخم، كان من المقرر إجراؤه في شارع جيش التحرير الوطني، قُـبالة الساحل الشرقي لمدينة الجزائر تماما كما جرت عليه العادة كلما أرادت الرئاسة تنظيم عرض كهذا، يُبرز قوة المؤسسة العسكرية الجزائرية، وما لديها من أسلحة “تردع العدو ومن تسول له نفسه”.
وبرر بوتفليقة إلغاء العرض برغبته في تجنب سوء فهم المغرب أن السلاح الجديد للجزائر يستهدفها بشكل خاص، حفاظا على روح الأخوة، وتجنيبا لمنطقة المغرب العربي لكل ما من شأنه إشعال نار الفتنة والحرب.
خطوة اعتبرها الكثيرون بادرة خير، لأن ستر العيب أفضل من البوح به، على اعتبار أن من أبجديات الجيشين المغربي والجزائري هو اقتناء السلاح الذي يعطل الطرف الآخر، ولا حاجة للتأكيد على أكثر من هذا.
في المقابل، أمر بوتفليقة بكل شيء يُذكّـر الجزائريين بثورتهم وحبهم للاستقلال، وبكل ما أنجزوه خلال سنوات الاستقلال وفي كل ولايات الوطن الثمانية والأربعين.
“الزعيم الفرد”؟
لا بد من القول ) إحقاق للحق ) أن الدولة صرفت من الأموال ما يليق بمناسبة كهذه، واحتفت بالجانب التاريخي بشكل خاص، لأن الشباب الجزائري، وخاصة ممن هم دون الخامسة والعشرين، يفتقدون إلى الكثير من التأصيل السياسي بسبب ضعف مناهج التعليم، واختفاء الاستقطاب الإسلامي واليساري والوطني من الجامعات، وما يتبع ذلك من وعي سياسي تحتاج إليه البلاد.
فبحِـس سياسي ذكي، عمل بوتفليقة على تنشيط هذا الاتجاه في فترة امتدت شهرا قبل موعد الاحتفال، وهو الموافق للفاتح من نوفمبر، موعد انطلاق الرصاصة الأولى ضد الاستعمار الفرنسي الذي استقلت عنه الجزائر عام 1962 من القرن الماضي.
ما يُحسب لبوتفليقة من خطوات إيجابية، جلب انتباه بعض المراقبين إلى الطريقة التي احتفل فيها هو نفسه بعيد الاستقلال، لأنها كانت مختلفة ومميزة.
لقد خشي البعض من أن الرئيس بدأت تبرز لديه سمات “الزعيم الفرد” لأسباب كثيرة، أبرزها أنه انفرد بحاشيته وأقرب المقربين إليه في القاعة الرياضية الواقعة بالمركب الأولمبي في أعالي العاصمة، وشمل الاحتفال الذي حضره بوتفليقة وحاشيته ومدعوين اختيروا بعناية، عرضا فنيا فخما للبناني عبد الحليم كركلا، وغناء مميزا لوردة الجزائرية، ونظم الحفل فنيا وماديا، لبنانيون وإيطاليون.
انتهى الاحتفال بتكريم كركلا ووردة الجزائرية، وبألعاب نارية حضرها “سيادة الرئيس”، ولم يمتنع مستشارو الظل من الظهور أمام كاميرات التلفزيون، وكان من أبرزهم العربي بلخير، ثم مفاجأة السهرة، الرئيس الأول للجزائر، أحمد بن بلة.
تساؤلات تاريخية
لقد كرر التلفزيون الحكومي مشاهد حضور بوتفليقة للألعاب النارية وإظهار ابتهاجه بها بطريقة لم تعجب الكثيرين لأن شيئا آخر كان يحدث بموازاة ذلك في قاعة رياضية أخرى غرب العاصمة.
ففي القاعة الرياضية لمدينة عين البنيان، خمسة عشر كيلومترا غرب العاصمة، تجمع آلاف المواطنين، لحضور تجمع سياسي نظمته جبهة القوى الاشتراكية التي يتزعمها حسين آيت أحمد، ودعا إليها عبد الحميد مهري، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، ومولود حمروش، رئيس الحكومة الأسبق.
وبالفعل، احتفل آيت أحمد ومن دعاهم بعيد الثورة، غير أنهم خالفوا بوتفليقة الذي كان يُشاهد عرض كركلا و يستمع لغناء وردة الجزائرية في مكان غير بعيد. لقد قال مولود حمروش بالحرف الواحد: “إن الحرية تجمعنا إذا غابت، وتُـفرقنا إذا حضرت، وبما أننا مجتمعون اليوم مع شخصين عظيمين مثل آيت أحمد وعبد الحميد مهري، فإن هذا يعني أن الحرية مفقودة في بلادنا”.
هاج الجمهور بالتصفيق عند سماع هذه الجملة من رئيس حكومة طالما انتظر رضا الجيش كي يدخل سباق الرئاسة وللتاريخ، فإنه كان من بين الأوائل الذين حذروا علي بن فليس، مرشح الرئاسة الذي نافس بوتفليقة في انتخابات الرئاسة شهر أبريل الماضي، من أنه مغرر به وعليه أن لا يُصدق من يكذب عليه قائلا: “بأن الجيش يدعمه”.
نشطت اللقاء السيدة سليمة غزال، بغيضة مصالح الأمن الجزائرية في أواسط التسعينات والمناضلة في مجال حقوق الإنسان، التي حصلت على جائزة “ساخاروف الدولية” في مجال الدفاع عن الحقوق الفردية والجماعية.
صحيح أن اللقاء لم يكن انطلاقة لبناء جديد تحتاجه المعارضة الجزائرية التي انتكست بعد نتائج الانتخابات الرئاسية الماضية التي فاز بها بوتفليقة بنسبة 85%. غير أن تأكيد شخصية تاريخية مثل عبد الحميد مهري على أن الدولة “يجب أن تتجدد كي تحترم حقوق أفرادها”، يطرح أكثر من تساؤل على الوضع الغريب الذي عاشه زعماء الثورة ليلة الاحتفال بعيدها الخمسين، لأن اتهام آيت أحمد للدولة بالتلاعب بالحقوق السياسية للمواطنين، ليس سوى اتهام موجه لبوتفليقة.
ولكن من هو آيت أحمد؟ ومن هو بوتفليقة؟ ومن هو بن بلة؟ ومن هو عبد الحميد مهري؟ كلهم من زعماء الثورة البارزين، غير أن المستمع “الغاضب” لأقوالهم، قد يتهمهم بأنهم مجموعة من المحتالين يتقنون الضحك على ذقون الشعب الجزائري، إذ كيف يُعقل أن يحتفل بن بلة مع بوتفليقة، ويُشاهدان الألعاب النارية معا، وبوتفليقة هو الذي أطاح ببن بلة في انقلاب عام 1965 رفقة مجموعة من المتمردين، شملت الرئيس الراحل هواري بومدين.
ثم لماذا لا يتعامل بوتفليقة مع آيت أحمد مثل تعامله مع بن بلة؟ هل لأن بن بلة من تلمسان وولد في المغرب مثل الرئيس؟ أم لأن آيت أحمد قبائلي “عميل” يريد أن يدخل فرنسا إلى الجزائر من النافذة بعدما خرجت من النافذة مثلما يزعم البعض.
لقد كان كل من بن بلة وحسين آيت أحمد في نفس الطائرة التي اختطفت عام 1956 وهي متجهة من المغرب إلى تونس، وحولها سلاح الجو الفرنسي كي يعتقل ستة من كبار قادة الثورة.
ما الذي يمنع اجتماع بن بلة بآيت أحمد عشية الاحتفال بعيد الثورة؟ ولماذا يتناقض الرجلان في تحليل الوضع الجزائري بين فرح بما أنجز، وهو بن بلة، وقائل بأن ما أنجز غير كاف، وهو حسين آيت أحمد؟
تشكيل قطب سياسي جديد
يمكن النظر إلى الصورة بطريقة مختلفة، حسب رغبة كل من يريد ذلك. فمن قائل بأن الانقسام السياسي ظاهرة صحية، ومن قائل بأن انقسام الآباء المؤسسين، سببه شيء آخر، وهو الرغبة في التسلط من قبل من استولى على السلطة بغير وجه حق، وهذه هي على الأقل وجهة نظر حسين آيت أحمد ومن تجمع معه في قاعة مدينة عين البنيان.
وسط هذا الوضع الكاريكاتوري، لم يكن هناك حديث كثير عن المستقبل، ربما لأن الوضع الاحتفالي لا يستدعي ذلك، وربما هذا هو ما يُفسر اجتماع آيت أحمد بقواعده في مقر حزبه وسط العاصمة من أجل ترتيب البيت الداخلي، ومن أجل شيء آخر…
يريد آيت أحمد رفقة مجموعة أخرى من كبار قادة المعارضة، تشكيل قطب سياسي، ليس لمواجهة بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية أو مواجهة أنصاره في الانتخابات البرلمانية أو البلدية، بل لإعادة بناء الوعي السياسي للجزائريين في المدن والقرى الداخلية البعيدة، تماما مثلما حدث سنين قليلة قبل ثورة الفاتح من نوفمبر عام 1954.
لقد قال آيت أحمد خلال تجمع عين البنيان: “لقد رأينا المستوطنين الفرنسيين وكيفية تشكلهم في أحزاب سياسية منظمة تمثل انعكاسا للحركة السياسية في فرنسا، وتعلمنا منهم خلال فترة الاستعمار كيف نشكل حزبا سياسيا وكيف نناضل من أجل حقوقنا السياسية”.
قد تُصبح محاولة آيت أحمد تجربة سياسية فريدة من نوعها لأن جيل الشباب الجزائري الحالي بحاجة إلى نشاط سياسي يكسر طوق الروتين الذي تتخصص الإدارة في فرضه، يساعدها في ذلك أحزاب ومنظمات مؤيدة لعبد العزيز بوتفليقة.
هناك من يعتبر هذا أمرا شرعيا على اعتبار أن السياسة “أحيانا” هي فرض للواقع بطريقة أو بأخرى، لكن يبقى للمعارضين الحق في كسر هذا الطوق من أجل أهدافهم ومصالحهم.
الحقيقة أن الرئيس الجزائري لم يمنع تجمعا كهذا، كما أنه لم يمنع آيت أحمد من التجمع بأنصاره، وبإعلانه بداية التململ السياسي الذي قد لا يرتاح له بوتفليقة.
ومما ينتبه له من كلام عبد الحميد مهري، الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني، هو إعلانه وبشكل مثير للدهشة، أن “الثورة الجزائرية، قلدت أساليب الاستعمار الفرنسي، فبنت المحتشدات للمعارضين..، وقتلت وعذبت من يُخالفها، وعلى الجزائريين أن يعرفوا كل هذا الآن وأن يعالجوا هذا الأمر حتى لا يتكرر في المستقبل”.
هل ستصبح رغبة من اجتمعوا في عين البنيان، حبيسة تقلبات الرئيس، الذي لن يقبل بدخول المعارضة إلى الأقاليم الداخلية وانتهاج أساليب مختلفة تقنع المواطنين بأن الخير موجود في أناس آخرين غير عبد العزيز بوتفليقة؟
ليس هناك مؤشر على ما سيحدث في الأيام المقبلة، غير أن المنازلة بين الأجداد والشيوخ جديرة بالانتباه، لأنها ستكون “على الأرجح” الأخيرة فيما بينهم، أما آثارها على مستقبل البلاد، فهي وبكل صدق، من علم الغيب لا تنكشف إلا حين تقع.
هيثم رباني – الجزائر
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.