استعداد لتجاوز “برشلونة” ولكن في إطار “ثـنـائـي”
أظهرت الدورة الأخيرة من الاجتماعات السنوية التي يعقدها الإتحاد الأوروبي مع شركائه المتوسطيين جملة من الحقائق المهمة.
أهمها أن الإتحاد بات يمنح الأولوية لاستيعاب الأعضاء الجدد في شرق أوروبا ووسطها، على إدارة العلاقات المعقدة مع شركائه الجنوبيين “المتنافسين والمتنابذين”.
كان واضحا من خطاب الافتتاح، الذي ألقته مفوضة العلاقات الخارجية بنيتا فريرو فالدنر في المشاركين (الذين بلغ عددهم ثلاث مائة شخص يقدمون من سبعة وثلاثين بلدا) يوم الثلاثاء 6 يونيو الجاري، أن الإتحاد وضع سياسة الجوار الجديدة على السكة، وجعل منها حجر الزاوية في التعاطي مع الشركاء المتوسطيين.
والحوافز، هي أساس تلك السياسة التي تكافئ “التلاميذ النجباء” بمنحهم مزيدا من القروض والمساعدات في إطار خطط مستوحاة من أهداف إعلان برشلونة (1995)، فيما تحجبها عن “المتقاعسين” والمتلكئين في تنفيذ الإصلاحات، إن كانت اقتصادية أم سياسية.
وربما، كانت كلمة “الجزرة” هي أكثر عبارة جرى ترديدها في الجلسات التي استمرت يومين كاملين، فيما غابت أو كادت كلمة “العصا”، على نحو اختزل السياسة الأوروبية الجديدة في التعامل مع الشركاء الجنوبيين.
وقفة تفكير
وجاءت جلسات التقويم التي تعقد سنويا في بروكسل بشكل دوري منذ عشر سنوات، في مثابة وقفة للتفكير في مسارات الشراكة بمساهمة ثلاثة أطراف أساسية، هي القطاع الخاص والمجتمع المدني والحكومات، لكن الأخيرة استأثرت بحصة الأسد، إذ كان حضور كبار المخططين في وزارات الخارجية والاقتصاد والمال في البلدان المتوسطية طاغيا بشكل لافت.
وبقدر ما ركّـزت الوفود المتوسطية (من دون تنسيق مسبق بينها) على حث أوروبا على مزيد من الاهتمام بدعم العلاقات مع جنوب المتوسط، “لأنه مجالها الطبيعي وشريكها التاريخي”، كما قال كثير من المتحدثين، أظهر الأوروبيون تصميما على عدم تغيير فاصلة واحدة من الخيارات التي ضبطوها للشراكة المتوسطية.
وأكد أكثر من مسؤول في الإتحاد في ردودهم على مناشدات ممثلي بلدان متوسطية، طالبوا خلال الدورة برفع الموازنات المخصصة لمشاريع التعاون، أن الإتحاد لا يستطيع رصد اعتمادات إضافية للشراكة، لأنه مشغول بـ “هضم” الأعضاء الجدد والسيطرة على المشاكل المترتبة على استكمال توحيد العملة وتحقيق الاندماج في ميدان الخدمات وتوسيع فضاء شنغن.
في المقابل، كان خطاب البلدان المتوسطية، عدا إسرائيل التي ركزت على طلب تطوير التعاون في مجالي التكنولوجيا والعلوم فقط، ينضح إحباطا ويشي بمرارة عميقة من مآل الشراكة مع أوروبا.
مخاوف أوروبا
وفي هذا المناخ الشاحب، حيث حجبت النوافذ السميكة شمس بروكسل، التي خرج سكان العاصمة البلجيكية لاستقبالها بنصف ملابس، لوّح أعضاء في الوفد الجزائري بالتوجه شرقا وغربا وتقليص الاعتماد على الشمال في إشارة إلى خيبة الأمل من الجيران الأوروبيين.
وقال خبير جزائري، إن الشراكة مع الولايات المتحدة والتعاون الاستثماري والتجاري مع آسيا، يعطياننا أكثر مما تعطي أوروبا وبشروط أفضل. وأوضح أن 55% من مبادلات الجزائر تتم مع أوروبا، لكن الأخيرة لا تؤمن سوى 10% فقط من الاستثمارات الخارجية في بلده، بينما يأتي الباقي من الصين والخليج العربي وكوريا الجنوبية وتركيا، “أي من البلدان الصاعدة”، كما لاحظ، واعتبر أن الأوروبيين يتكلّـمون كثيرا عن المبادلات وقليلا جدا عن الاستثمارات.
واضطر بعض المتحدثين من أهل المتوسط إلى تذكير الطرف الأوروبي بالوعد الذي كان قطعه الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية رومانو برودي، الذي منَى الشركاء بالحصول “على كل الإمتيازات التي حصل عليها أعضاء الإتحاد عدا العضوية”.
لكن الجواب كان موجودا سلفا في كلام بنيتا فالدنر، التي عبرت عن الاستعداد للذهاب أبعد من إعلان برشلونة، وتجاوز سقف الشراكات الحالية “وصولا إلى مستوى متقدم جدا من الاندماج المفتوح على جميع الإحتمالات (open ended) لكن في الإطار الثنائي، وليس المتعدد، وبناء على نهج براغماتي يركّـز على خطط ملموسة” حسب قولها.
وبكلام أوضح، ليس الأوروبيون مستعدين لأي شراكة متقدمة مع من أبرم شراكة مماثلة مع الآسيويين أو الأمريكيين، ولم يُـخف الأوروبيون في هذا المجال مخاوفهم من أن يُـصبح الإتحاد في حالة من يركض للّـحاق بالصين أو الهند، ولذلك، فهو غير مستعد لإضاعة الوقت مع الشركاء المتقاعسين، لأنه يحتاج إلى إصلاحات سريعة وتخطّـي عيوبه ومعوقاته.
“تعليمة بولكنشتاين”
ومن هذه الزاوية، حُددت فترة 2010 – 2012 سقفا لاستكمال مشاريع الاندماج مع بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط، بعد مناقشات ملموسة لمفاصل التطور المستقبلي، سواء في مجال تفكيك القطاع العام أو تحديث المنظومة التربوية أو إصلاح الأنظمة المالية أو تطوير المؤسسات السياسية والقضائية والإعلامية. غير أن فالدنر أطلقت جملة حبلى بالدلالات في صيغة استدراك، حين قالت “لكن حكوماتكم غير متحمّـسة دائما للتقدم في طريق الإصلاحات”، وسـمّـَت في هذا الإطار بعض الدول المعروفة.
وانتقل النقد إلى العرب فيما بينهم خلال الجلسات اللاحقة، إذ تساءل خبراء مغاربة “إلى متى سنظل أسرى للذين يسيرون الهوينا، بينما يبذل غيرهم جهودا مضنية لتسريع نسق الاندماج في أوروبا”؟
أما الفلسطينيون والأردنيون فشكَـوا من الضغوط الإسرائيلية والإجراءات التعسُّـفية التي تمنعهم من تصدير منتوجاتهم الزراعية إلى أوروبا أو تعطيلها في الحواجز، مما يؤدي إلى إتلافها وتكبيدهم خسائر فادحة. بيد أن الأوروبيين لم يجيبوا على تلك الملاحظات، عدا الخبير فيليب مايير الذي أقر بأن الأردن ومصر ممنوعان من تصدير البطاطس إلى الأسواق الأوروبية، لكنه عزا ذلك الإجراء إلى اكتشاف أمراض فيها، على حد قوله، مؤكّـدا أن الطرفين وجدا حلولا للمشكل، ومعتبرا أن هناك وسائل عدة للحصول على تراخيص التصدير لأوروبا.
وبدا من المناقشات، أن العرب قليلو التركيز على قطاع الخدمات الذي يمثل حاليا 70% من الدخل القومي الأوروبي، ومشغولون أساسا بالصناعة والزراعة. مع ذلك، فُتحت أمامهم آفاق جديدة مع وصول الأوروبيين في يناير 2004 إلى الاتفاق المعروف بـ “تعليمة بولكنشتاين”، والذي يحمل اسم المفوض الأوروبي لقطاع الخدمات الذي كان مهندس الإتفاق.
غير أن حجم المبادلات الأوروبية مع الشركاء المتوسطيين في هذا القطاع، لا يتجاوز 3.5% وهي مقتصرة على النقل والاتصالات، بينما هناك آفاق كبيرة لتطوير التبادل في المجال المالي والتجاري والمصرفي والتكنولوجي والمعلوماتي، بما في ذلك إنشاء شركات مشتركة.
عملاق أمام الأقزام
وتمت الإشارة في هذا الصدد إلى أن سبعة بلدان متوسطية فقط وقعت على اتفاقات التبادل الحر الخاصة بإقامة شركات الخدمات، مع أن هذا القطاع غدا القلب النابض للإقتصادات الأوروبية.
كما عاتب الأوروبيون شركاءهم، لأن اتفاق أغادير الخاص بتحرير التجارة تمت الموافقة عليه منذ سنتين “لكن لم تُتخذ إجراءات التصديق عليه رسميا حتى الآن، على رغم الوعود، بما فيها الوعد الذي قطعه (رئيس الحكومة المغربية) إدريس جطو نفسه في مراكش ولم ينفذه”.
قصارى القول، أن أوروبا، على رغم نقاط ضعفها، تبدو مثل عملاق أمام “الأقزام” المتوسطيين. ويكفي أن ندرك أنها توصلت إلى ألفي تعليمة موحدة أسوة بتعليمة بولكنشتاين، آنفة الذكر بغية تكريس الاندماج بين اقتصاداتها في جميع القطاعات تقريبا، وأنها قطعت شوطا حاسما في التوحيد المؤسساتي، مثلما ذكّـر بذلك الخبير الفرنسي جان لوي ريفارز، لندرك أننا بإزاء “مركز وأطراف تدور في فلكه”، طبقا للصورة المجازية التي استخدمها الجامعي الجزائري عبد الحق العميري.
وبدا الأوروبيون في هذا الإجتماع مُـصرّين على أن تبقى الأطراف في مكانها ولا تدمج في القلب، على عكس ما حصل لإسبانيا والبرتغال واليونان، وخاصة حين كشف أندرياس هردينا، المسؤول في الإتحاد الأوروبي النقاب عن كون السؤال الذي شغل الأوروبيين بعد استكمال التوسعة إلى الأعضاء العشرة الجدد هو: هل العضو المقبل هو أوكرانيا أم المغرب؟
طبعا، جميع الاعتبارات الجغرافية والاقتصادية والتاريخية ترشّـح المغرب الواقف عند الخصر الجنوبي للقارة الأوروبية، والأقرب إلى قلبها من أوكرانيا المتحفزة الحواس، كما الغزال المرتعش على حدود حديقة الدب الروسي. لكن طريق العضوية مقطوعة على أي بلد عربي (وهو الجواب الرسمي الذي أعطي للملك الحسن الثاني في الثمانينات)، فيما هي سالكة أمام المرشحين المنتمين إلى “النادي المسيحي”، طبقا لعبارة برلوسكوني الشهيرة، حتى لو كانوا… في القطب الجنوبي.
رشيد خشانة – بروكسل
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.