“استقرار الأنظمة مرهون بنزاهة حكّـامها”
أثار بيان عاجل تقدّم به النائب سعد عبود، العضو عن حزب الكرامة (تحت التأسيس) عن الذمة المالية للرئيس المصري محمد حسني مبارك، جدلاً واسعًا في البرلمان وواكبته حملات صحفية تطالب بضرورة وجود إقرار بالذمة المالية لرئيس الجمهورية وللوزراء وكبار المسؤولين.
يأتي ذلك في وقت تشهد فيه عدّة دول عربية أخرى مناقشات حامية حول المخصصات المالية لحكامها.
في خطوة يُنْظَرُ إليها باهتمام شديد، تتّـجه الحكومةُ المصرية نحو تفعيل قانون محاسبة الوزراء الذي نُـوقش في وقت سابق في اجتماعات لجنة السياسات بالحزب الوطني (الحاكم)، من خلال تشكيل لجنة قضائية مُـكونة من 20 مستشارًا، لفحص إقرارات الذمة المالية لوزراء الحكومة وأعضاء مجلسي الشعب والشورى.
لا شفافية بدون رقابة ومُساءلة
وفي مقاله الأسبوعي، الذي يكتبه كل ثلاثاء بصحيفة الأهرام (الحكومية)، وتحت عنوان (درس في الشــفافية)، قال الكاتب الصحفي فهمي هويدي: “مسألة الذمة المالية لكبار الموظفين في الحكومة والمحليات، يكتنفها غموض شديد، وهو ما يفتح الباب للغط لا مفر من الاعتراف بأنه ينال من نزاهة الحكم واستقامته، وهو اللغط الذي لا يهدر فقط قيمة الشفافية التي لا نكُـف عن الحديث عنها والتمسح فيها، وإنما هو أيضا ينتقص من صدقية الممارسة الديمقراطية التي ندعيها. لماذا؟ لأن الرقابة الشعبية علي التصرفات المالية للسلطة كانت ومازالت من المقوّمات الأساسية للعملية الديمقراطية. ذلك أننا نُـخطئ حين نختزل الديمقراطية في المشاركة السياسية، ونغفل عنصري الرقابة والمساءلة”.
وبعدما ذكر هويدي بعض النماذج الجديرة بالاحترام لحكام ومسؤولين في أوروبا يتحلوّن بقدر عال من الشفافية، عقَّـب قائلا: “مثل هذه التقاليد الرائعة لم تستقر في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، التي تتحدث عن الشفافية بأكثر مما تُـمارسها، حتى غَـدت أزمة الشفافية من تجلّـيات أزمة الديمقراطية، من ثم، فإن الغموض الذي يكتنف صناعة القرار السياسي بَـسط جناحَـيه على الذمة المالية لكبار المسؤولين”.
نزاهة = استقرار
من جهته أوضح الدكتور مصطفى كامل السيد، مدير مركز دراسات الدول النامية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، أن “المشكلة تتلخّـص في أنه ليس هناك فصل حقيقي بين مخصَّـصات الدولة، كما أنها انعكاس لغياب أوضاع ديمقراطية كان يجب أن تسود”، معتبراً “استقرار أي نظام حكم يعتمد على إيمان المواطنين بنزاهة حكّـامه”.
وقال الدكتور مصطفى كامل، وهو أيضا المنسّـق العام للشبكة الجامعية العربية للتربية والبحث في حقوق الإنسان في تصريحات خاصة لسويس إنفو: “المسؤولون في مُـعظم الدول العربية يعتبرون أن أي حديث عن مخصصاتهم المالية، هو تشكيك في ذممهم وإدارتهم للدول”، مشيراً إلى أن “الأمر قد تفاقم في مصر، وكَـثر الحديث عنه مؤخرا، بعد دخول طبقة رجال الأعمال إلى حلبة السياسة”.
وأشار الدكتور مصطفى، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والجامعة الأمريكية بالقاهرة إلى أن “أحد الضوابط المعمول بها في الولايات المتحدة، أنه عندما يتولّـى شخص ما منصبا مهما في الدول، فإنه يقوم بفصل أمواله قبل تولّـيه السلطة ويضعها في حساب خاص، ويُـبلّـغ بها”.
وقال الدكتور مصطفي كامل السيد في حديثه مع سويس إنفو: “لقد أثار دخول عدد من رجال الأعمال في مصر العمل السياسي العام ووصولهم إلى المقعد البرلماني وتمتعهم بالحصانة البرلمانية، الكثير من الشكوك، خاصّـة إذا علمنا أن صاحب ومدير مستشفى خاص كبير، يتم تعيينه وزيراً للصحة، وصاحب ومدير شركات نقل يتم تعيينه وزيراً للنقل” معتبراً أن “ضوابط ومعايير الشفافية الدولية غير مأخوذ بها، بل وغير موضوعة في الحسبان”.
قلة “بدون ذمة” .. وكثرة “بدون مالية” !!
وتطالب المعارضة المصرية بكافة ألوانها السياسية، بتفعيل قانون “من أين لك هذا؟ وسَـن تشريعات واضحة وصريحة بشأن مُـحاسبة الوزراء وكبار المسؤولين، فضلاً عن إلزامهم بتقديم إقرارات الذمة المالية وبيان الممتلكات الشخصية، قبل تقلّـدهم مناصبهم، وأيضاً الكشف عن ثرواتهم عقب خروجهم من مناصبهم مباشرة.
فيطالب السيد جورج إسحاق، المنسّـق العام للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) بخروج قانون “من أين لك هذا” إلى النور، بعدما ووري الثرى. ويُـشير مجدي أحمد حسين، أمين حزب العمل (المجمد) إلى ضرورة أن يعرف الشعب مدى صحة ما يُـنشر في وسائل الإعلام الأجنبية حول حجم ثروات السيد جمال مبارك، النجل الأصغر للرئيس، والتي تُـثار حولها الكثير من التكهّـنات.
ويضم الدكتور عزيز صدقي، رئيس وزراء مصر الأسبق، ورئيس التجمع الوطني من أجل الديمقراطية صوته إلى صوت المطالبين بإعلان حجم ثروات عائلة الرئيس مبارك، معتبراً أن “غض الطرف من قبل أفراد العائلة حول ذلك المطلب لا يفيد الأسرة في شيء، بل يساهم في زيادة اشتعال النار في الهشيم”، وخاصة وأن “إعلان الذمة المالية أمر معمول به في مختلف دول العالم، بما فيها دول القارة الأفريقية”.
ويعلّـق النائب أبو العز الحريري على الموضوع قائلاً: “قانون الذمة المالية مجرّد حبر علي ورق، والدخول في هذا الموضوع يُـدخلنا مَـتاهة الذمة المالية لكبار المسؤولين، ويُـخرجنا منها دون نتيجة، اللّـهُـم إلا أن شعبنا ينقسم إلى قسمين: قلة “بدون ذمة” وكثرة “بدون مالية”!
من جانبه يرى المستشار عادل عيد أن “الحكومة تقوم بتفصيل القوانين على مقاس مرشحها”، مطالبا بضرورة “تطبيق إقرار الذمة المالية على جميع المسؤولين وليس على رئيس الجمهورية فقط، وذلك تطبيقا للقوانين التي تنُـص على وجوب تقديم أي موظف كبير أو صغير إقراراً للذمة المالية تحقيقا لمبدأ الشفافية”.
الرئيس غير مسؤول!!
في المقابل، أوضح الدكتور أحمد فتحي سرور، رئيس مجلس الشعب المصري، أنه لا يجوز توجيه بيان عاجل لرئيس الجمهورية، لأن ذلك مخالف للدستور، الذي ينُـص على أن الرئيس غير مسؤول أمام مجلس الشعب.
وبخصوص الذمة المالية للرئيس، واستناداً إلى ما نُـشر في بعض الصحف حول تبرّع الرئيس مبارك لبعض المستشفيات، أوضح سرور أن الرئيس مبارك يوجّـه ولا يتبرّع من ماله الخاص، وقد ألقى توجيهاته بتدبير أجهزة أشعة مقطعية لأربعة مستشفيات، مؤكّـدا أن هناك مُـبالغة حدثت من وسائل الإعلام.
فيما رد النائب عبود قائلاً: “أردت تحقيق الشفافية، ولأسجل سابقة برلمانية، يحمد عليها رئيس الجمهورية”، مشيراً إلى أنه “تمّـت مناقشة الذمة المالية للرئيس جمال عبد الناصر في هذا المجلس، وتمت تبرئة ذمته المالية”.
وكان مجلس الشعب المصري (أحد غرفتي البرلمان)، قد سبق أن تجاهل طلبا من الدكتور أيمن نور، زعيم حزب الغد – الذي يقضي منذ عام عقوبة بالسجن بـ 5 سنوات بتُـهمة التزوير- عندما كان مرشحاً للرئاسة، بالتحقيق في مزاعم نشرتها صحيفة أمريكية حول امتلاك نجل الرئيس نصيبا مُـهما في شركة تبلُـغ قيمتها سبعمائة مليون دولار!
ضرورة يُـحتّـمها القانون
يُـوضح أحد المسؤولين – سابقاً – بالجهاز المركزي للمحاسبات، أن كثيراً من الوزراء وكبار المسؤولين، كانوا لا يملكون سوى مرتّـباتهم قبل تولّـيهم مناصبهم، ثم أصبحوا من كبار الملاك، ولم يسألهم أحد: من أين لك هذا”؟ مشيراً إلى أنه “لا يوجد قانون يمنع نشر إقرار الذمة المالية على الرأي العام، بل من حق الجمهور رفع قضايا ضد أي مسؤول لمعرفة حجم ثروته وبيانات إقرار الذمة المالية له”.
ويقول الدكتور شوقي السيد، أستاذ القانون الدستوري بجامعة القاهرة: “تقديم الذمة المالية للرئيس ضرورة يحدّدها القانون، فالإقرار يجب أن يقدمه الرئيس وكل مسؤول أو موظف عام في الدولة إلى جهة العمل قبل الترشح للوظيفة ويُـجدد كل 5 سنوات، مشيراً إلى أن “القانون لا يُـحتّـم العلنية، وفي حالة الشك، يُـحال الأمر إلى المدّعي العام الاشتراكي للتحقيق فيه من خلال قضايا الكسب غير المشروع”.
كما يشير الدكتور صلاح الدين فهمي، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر إلى أن “القانون الذي يُـوجب تقديم إقرار الذمّـة المالية موجود بالفعل، لكن دون تطبيق، وينفَّـذ فقط على الموظفين البسطاء”، مطالباً بتفعيله من خلال “الجهاز المركزي للمحاسبات والجهات الرقابية الأخرى، وخاصة مجلس الشعب المَـنوط به، محاسبة هؤلاء المسؤولين عن مصادر أموالهم”.
ويربط الدكتور فرج عبد الفتاح، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة بين عدم التزام الوزراء وكبار المسؤولين بتقديم إقرارات الذمة المالية، وبين ترتيب مصر في ذيل قائمة الدول التي تطبّـق معايير الشفافية الدولية، حيث لا تتعدى نسبة الشفافية في مصر 3,0% وفق مقاييس المنظمة.
القاهرة – همام سرحان
كانت تقارير صحفية كشفت عن أن النيابة الإدارية تلقت 40 ألفا و889 شكوى خلال العام الماضي، شملت مخالفة القواعد المالية المنصوص عليها في القوانين واللوائح، ومخالفة إحكام ضبط الرقابة على الميزانية وأحكام المناقصات ومخالفات إدارية عدة. كما كشف أحدث التقارير الصادرة عن الجهاز المركزي للمحاسبات عن وجود 78 ألفا و593 قضية فساد حدثت في العام الماضي.
هناك عشرات من أجهزة الرقابة غير المفعلة في مصر؛ أهمها جهاز الكسب غير المشروع الذي بدأ عمله منذ عام 1951 من خلال القانون 193م، والمكلف ببحث مخالفات المسئولين وفحص إقرارات الذمة المالية تحت إشراف محكمة النقض في مستهل كل عام قضائي.
قالت مصادر بالجهاز المركزي للمحاسبات إن مصر لديها 24 جهازًا رقابيًا مهمتها فحص إقرارات الذمة المالية للحكومة، إلا أن جميع قراراتها لا تعدو أن تكون حبرًا على ورق، مما أدى إلى تراكم 550 ألف قضية فساد حكومي في جهاز الكسب غير المشروع بدون حسم حتى الآن، مشيرة إلى أن القانون المذكور يعطي الفرصة للفاسدين للإفلات من قبضة العدالة إذا لم يتم ضبطهم خلال 3 سنوات .
على الرغم من أن مصر شهدت أول حكومة فى التاريخ البشرى المكتوب، إلا أنه لا يوجد بها قانون لمحاسبة الوزراء وكبار المسؤولين فى الدولة.. والغريب أن وزراء بالحكومة ومسؤولين صغار يملكون أسطولاً من السيارات وجيشا من الخدم والسكرتارية، ويسيرون فى مواكب يحلم بها رئيس وزراء بريطانيا نفسه.
تنص المادة (80) من الدستور المصري على أنه “يحدد القانون مرتب رئيس الجمهورية، ولا يسري تعديل المرتب أثناء مدة الرئاسة التي تقرر فيها التعديل، ولا يجوز لرئيس الجمهورية ان يتقاضى أي مرتب او مكافأة أخرى”.
كما تنص المادة (81) أيضاً على أنه “لا يجوز لرئيس الجمهورية أثناء مدة رئاسته ان يزاول مهنة حرة او عملا تجاريا او ماليا او صناعيا او ان يشتري او يستأجر شيئا من أموال الدولة او ان يؤجرها او يبيعها شيئا من أمواله او ان يقايضها عليه”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.