الإخفاق الأمريكي في المخابرات أم في القيادة؟
نجحت أجهزة المخابرات الأمريكية المتنوعة نجاحا باهرا في جمع المعلومات الدقيقة وتحليلها بشكل فعال طيلة عشريات الحرب الباردة.
لكن “مجتمع الأجهزة” الذي تزيد ميزانيته السنوية على 33 ألف مليون دولار تعرض لهزتين عنيفتين في عهد الرئيس بوش. فمن المسؤول عن ذلك؟
رغم النجاح الباهر لأجهزة المخابرات الأمريكية في جمع المعلومات الدقيقة وتحليلها بشكل فعال طوال سنوات الحرب الباردة، إلا أن مجتمع الأجهزة الذي تزيد ميزانيته السنوية على 33 ألف مليون دولار تعرض لهزتين عنيفتين في عهد الرئيس بوش.
فقد أخفقت تلك الأجهزة في الحيلولة دون وقوع هجمات 11 سبتمبر الإرهابية التي شكّـلت تعرض الأمن القومي الأمريكي لأخطر هجوم يقع على الأرض الأمريكية منذ الهجوم الياباني على ميناء “بيرل هاربر”، ثم أخفقت في جمع معلومات دقيقة على أسلحة الدمار الشامل العراقية التي استخدمها الرئيس بوش لتبرير شن الحرب على العراق.
ومع أن تمكّـن مجموعة صغيرة من الإرهابيين من استخدام طائرات مدنية مختطفة كأسلحة دمار شامل ضد وزارة الدفاع الأمريكية، وضد برجي مركز التجارة العالمي يكشف عجز أجهزة المخابرات الأمريكية عن كشف النقاب عما كان يُـخطط له هؤلاء رغم المراقبة التي كان يخضع لها تنظيم القاعدة، فإن من أغرب الأمور أن تلك الهزة العنيفة التي عصفت بالأمن القومي الأمريكي لم تُـسفر عن استقالة المسؤولين عن الأمن الداخلي أو المسؤولين في المخابرات المكّـلفين بملاحقة التنظيمات الإرهابية في العالم. كما لم يتم الكشف عمّـا توصلت إليه التحقيقات في هجمات سبتمبر حتى بعد اعتقال العقل المدبر للهجمات.
ويعتقد الدكتور منذر سليمان، المحلل الاستراتيجي الذي تركّـزت رسالته للدكتوراه على الأمن القومي الأمريكي أنه مع التسليم بوجود خلل ما في أجهزة الاستخبارات الأمريكية أدّى إلى السماح بوقوع هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، فإن هذا لا يعفي القيادة السياسية من المسؤولية، وهو ما ينطبق بشكل أكبر على إخفاق المخابرات الأمريكية في العثور على أماكن أسلحة الدمار الشامل العراقية.
فالذي قام بتضخيم خطر تلك الأسلحة والمبالغة في قدرتها على تهديد الأمن الأمريكي هو القيادة السياسية، وليست أجهزة المخابرات. وقال الدكتور منذر سليمان لسويس إنفو: “يمر عمل أجهزة المخابرات بثلاث مراحل. أولها، جمع المعلومات ثم تحليلها وتقديمها لصناع القرار، والمرحلة الثالثة هي استخدام القيادة السياسية للمعلومات في اتخاذ القرار. ولذلك، فإن الخلل الحاسم وقع في المرحلة الثالثة عندما استغلّـت إدارة الرئيس بوش معلومات المخابرات بشكل مبالغ فيه لتبرير قرار شن الحرب على العراق”.
خطر تسييس المخابرات
ويتفق مدير المخابرات الأمريكية مع هذا المنطق في خطابه الأخير في جامعة جورجتاون حين قال: “إن التحليلات التي قدّمها لإدارة الرئيس بوش لم تذكر بأي حال أن الأسلحة العراقية تشكّـل خطرا وشيكا مُـحدقا بالأمن القومي الأمريكي”.
أما الدكتور أنتوني كوردسمان، أستاذ كرسي الاستراتيجية بمركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن فيرى أن الخلل الذي وقع يشكّـل تحذيرا للقيادة السياسية في الولايات المتحدة بأن ما توفره أجهزة المخابرات الأمريكية حاليا ليس كافيا لمساندة استراتيجية كبرى تنطوي على القيام بعمليات تكتيكية ضد الدول التي تنشر أسلحة الدمار الشامل، وليس كافيا للتوصل إلى تقييمات دقيقة فيما يتعلق بقرار شن الحروب الاستباقية.
وأشار الدكتور كوردسمان كذلك إلى الضغوط التي بذلها مكتب نائب الرئيس ديك تشيني، ومكتب وزير الدفاع دونالد رامسفلد على محللي المخابرات الأمريكية للحصول منهم على تحليلات تخدم غرض تبرير شن الحرب على العراق.
ويرى الدكتور منذر سليمان أنه طالما استمرت محاولات تسييس عمل وتحليلات معلومات أجهزة الاستخبارات الأمريكية سيكون هناك دائما ما يُـمكن وصفه بالخلل في أدائها لمهامها، حيث أن القرارات المصيرية التي تتعلّـق بقرارات الحرب والسلم المُـستندة إلى معلومات المخابرات يجب ألا تخضع للمنافسة بين الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة، ولا يجوز أن يختلف تحليل نفس المعلومات بحسب اختلاف الرئيس الذي يصل إلى البيت الأبيض.
ويقول الدكتور سليمان: “مع أن أجهزة المخابرات الأمريكية بطبيعتها أجهزة تنفيذية، فإن بوسعها أن تلعب دورا في توجيه السياسة الخارجية الأمريكية بالتأثير على الرئيس ومجلس الأمن القومي من خلال التقييم الاستراتيجي، والإيجاز اليومي الذي تقدمه للرئيس ومن خلال المعلومات الدورية، وكذلك التقارير العاجلة التي ترفعها إلى البيت الأبيض والكونغرس، ومن ثم قد يُـمكن استخدامها في الدفع باتجاهات سياسات معينة، ومن هنا تقع المسؤولية النهائية في صياغة القرار على عاتق الرئيس الأمريكي وكبار مساعديه في مجلس الأمن القومي”.
ويعتقد الدكتور منذر سليمان أن على أجهزة الاستخبارات الأمريكية كذلك ألا تُـفرط في الاعتماد فقط على الإمكانيات التكنولوجية الهائلة وأقمار التجسس، والتنصت، والاستطلاع الجوي، ومعلومات المخابرات المقدمة من الدول الحليفة والدول الأخرى التي تخطب ود الولايات المتحدة، إذ يلزم كذلك وجود عناصر استخبارات بشرية على الأرض لجمع معلومات دقيقة من مصادرها الأساسية.
ويبدو أن وكالة المخابرات الأمريكية أدركت ذلك القصور، حيث أصدرت إعلانا حديثا خصّـصت فيه مكافآت مالية سخية لكل من يقدم معلومات دقيقة تُـسهم في العثور على أي من أسلحة الدمار الشامل العراقية التي عجز فريق المفتشين الأمريكيين الضخم برئاسة ديفيد كاي عن العثور على أي منها.
الأشقاء الألداء.. وتحالف الفرقاء
ومع أن مصطلح مجتمع المخابرات الذي يجمع كل أجهزة الاستخبارات الأمريكية والعاملين فيها قد ينطوي على شعور بالانسجام والعمل معا بروح الفريق، فإن الواقع الميداني لتلك الأجهزة يظهر، كما يقول الدكتور منذر سليمان، أنها تتصرف بمنطق يمكن التعبير عنه بعبارة “الأشقاء الألداء”، رغم السعي المحموم لإيجاد صيغة للتنسيق بين تلك الأجهزة، بل إن مدير المخابرات المركزية الأمريكية لا يشكّـل، رغم وضعه كمستشار أول للرئيس الأمريكي فيما يتعلق بشؤون المخابرات، القائد الذي تنضوي تحت لوائه كل أجهزة الاستخبارات والتي تشمل طائفة عديدة من المؤسسات والوكالات:
• وكالة الاستخبارات المركزية
• وكالة الأمن القومي
• وكالة الاستخبارات الدفاعية، ومخابرات البحرية، ومخابرات الجيش، ومخابرات سلاح الطيران، ومخابرات مشاة البحرية الأمريكية.
• مكتب الاستخبارات بوزارة الخارجية الأمريكية
• مكاتب استخبارات فرعية في وزارة الطاقة لضمان عدم انتشار التكنولوجيا النووية.
• مكاتب استخبارات فرعية في وزارة الخزانة التي تُـشرف على الأمن السري للرئيس ولكبار الزوار القادمين إلى الولايات المتحدة.
• فرع استخبارات ضمن إدارة المباحث الفدرالية، له صلاحيات القيام بأعمال استخبارات داخل وخارج الولايات المتحدة في إطار مكافحة الإرهاب.
• فرع استخبارات لمكافحة تهريب المخدرات ومقاومة الجريمة المنظمة.
تجاوزات بالجملة
وضرب الدكتور منذر سليمان مثالا واضحا على استخدام وزير الدفاع سلطته لتجاوز مدير المخابرات الأمريكية باعتباره المستشار الأول للرئيس في شؤون المخابرات، فقال: “عندما أدرك وزير الدفاع دونالد رامسفلد أن محللي وكالة المخابرات الأمريكية لم يقدموا التقارير والتحليلات التي تُـرضي رغبة البنتاغون في تبرير شن الحرب الاستباقية على العراق، أسّـس مكتبا خاصا للاستخبارات تحت اسم مكتب التخطيط أو”التضليل الاستراتيجي” في شكل لجنة خاصة خارجة عن نطاق كل من وكالة الاستخبارات الدفاعية ووكالة الاستخبارات المركزية”.
وقد كشفت صحيفة واشنطن بوست النقاب عن جانب آخر لتجاوز تقارير المخابرات عندما لا تعجب البيت الأبيض. فقد مثل عدد من المسؤولين الحاليين والسابقين في البيت الأبيض أمام لجنة محلفين كبرى لأخذ أقوالهم في إطار التحقيق في مخالفة جنائية لقانون حماية عملاء وموظفي وكالة الاستخبارات الأمريكية، تمثل في تسريب أحد المسؤولين في البيت الأبيض لخبر يكشف هوية فاليري بالم، زوجة السفير الأمريكي السابق جوزيف ويلسن (والتي عملت في خدمة المخابرات في الخارج تحت غطاء يجب عدم الكشف عنه) انتقاما من زوجها الذي انتقد علنا ادعاءات البيت الأبيض بقيام العراق بشراء مواد مشعة من النيجر لاستخدامها في تطوير البرنامج النووي العراقي، وكشفه النقاب عن تكليفه شخصيا بمهمة لتقصّـي الحقائق حول تلك الصفقة المزعومة، خلص منها إلى أن العراق لم يحصل على تلك المواد من النيجر. ومن بين الشخصيات التي تم استجوابها المتحدث باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان، وماري ماتالين، المساعدة السابقة لنائب الرئيس ديك تشيني.
وعلى الجانب الآخر، فإن السفير جوزيف ويلسن تبرّع بأن يكون مستشارا سياسيا للمرشح الديمقراطي، السناتور جون كيري الذي يواصل انتصاراته في الانتخابات الأولية، والذي يتوقّـع المحللون السياسيون أن يكون المرشح الأقدر على هزيمة الرئيس بوش في انتخابات الرئاسة القادمة.
وقد اتهم السناتور كيري الرئيس بوش بأنه ضلّـل الشعب الأمريكي حينما بالغ في معلومات المخابرات لتبرير شن الحرب على العراق، واتهم كلا من الرئيس ونائبه ووزير دفاعه باستغلال مسألة الأمن القومي الأمريكي لتحقيق أهداف سياسية.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.