“البدون” لا يستسلمون
بدأت مساء التاسع من سبتمبر -أيلول في العاصمة برن مجموعة من عشرين شخصا من المقيمين بشكل غير قانوني و المتعاطفين معهم في اعتصام داخل إحدى الكنائس، في محاولة لاعادة لفت أنظار الرأي العام إلى مشكلتهم، والسعى إلى الوصول إلى حل شامل لجميع " البدون" في سويسرا.
هذا التحرك الأخير في برن، يعتبر امتدادا لما شهدته مدينة فريبورغ قبل شهور قليلة، من اعتصام مشابه ولكن في اكبر كاتدرائياتها في محاول للضغط على الرأي العام ومن ثم الشرطة لتعديل أوضاع إقاماتهم في سويسرا ، إلا أن المسؤولين وخاصة على صعيد الشرطة الفدرالية أعلنوا موقفا واضحا تمثل في معالجة كل حالة على حدة، مؤكدين على عدم ترقب حل جماعي لجميع “البدون” مثلما حدث في إيطاليا و بعض الدول الأوربية الأخرى، حيث تعتبر السلطات أي حل جماعي يمنحهم إقامات شرعية هو مكافئة لمن ارتكب مخالفة قانوينة عقوبتها الوحيدة الإبعاد، ولو قصرا.
ويبدو أن هذا الحل الذي ثار حوله الجدل ولم يكن مرضيا للجميع، حث المجموعة الجديدة من “البدون” إلى التحرك في العاصمة الفدرالية ومنها ربما إلى بقية المناطق المتحدثة بالألمانية في سويسرا لاتخاذ خطوات مشابهة، عسى أن يكون لها تأثير على قرار السلطات الرسمية.
البدون في سويسرا مجموعة غير متجانسة من مختلف الجنسيات والأعراق، لا يربط بينهم سوى أنهم مقيمون بشكل غير قانوني، فمن بينهم من انتهت إقامته الرسمية، ولكنه لا يعرف غير سويسرا مستقرا له مثل العمال الموسميين وأغلبهم من أبناء البلقان و بعض دول أوروبا الشرقية، وآخرون رفضت السلطات تقنين إقامتهم من خلال قانون اللجوء، فاختفوا بعد صدور القرار النهائي بترحيلهم، وهاتان الفئتان هما المسجلة لدى الشرطة، إضافة إلى قلة تسللت إلى سويسرا بصورة أو بأخرى ولا تعرف السلطات عن وجودهم شيئا.
محاور متعددة و الضحية واحدة
ملف “البدون” يدور حول أكثر من محور، فيطلقون عليه أحيانا “العمل الأسود” وأحيانا أخرى “الإقامة في الظل”، لكن المشكلة تبقى قائمة مهما تعددت المسميات.
فمن الناحية الاقتصادية وأسواق العمل لا يمكن إنكار أن العمالة الغير قانونية تؤثر على فرص عثور العاطلين، سويسريين كانوا أم أجانب، على عمل. ولكن هناك من يرى عكس ذلك، فغالبية العاملين بدون شكل قانوني يشتغلون في مهن لا يقبل بها أحد سواهم إما لسوء ظروف العمل أو لضعف الأجر، وينتشرون في المطاعم والفنادق، أو في الأعمال المنزلية أو في الحقول، ويجد أرباب العمل في “البدون” مخرجا من هذا المأزق.
فإذا كان القطاع الفلاحي في سويسرا لا يمنح العاملين فيه أية مميزات، فمن أين يمكن لصاحب العمل أن يمنح الأجير الراتب المفترض؟ وكيف يمكنه الحفاظ على زراعته دون الاستعانة بـ”البدون”، الذين يعتبرون العمل في المجال الفلاحي أكثرها أمنا؟ فغالبية المزارع توفر لهم أماكن المبيت، وتساهم في نفقات الطعام، وهو ما ينظر إليه الكثيرون من الـ”بدون” على أنه تعويض عن الأجور المتدنية ولا يعتبرون أنفسهم مستغلين.
أما قطاع المطاعم والفندقة فهي من المجالات التي تكثر فيها حالات الاستغلال، فالرواتب المتدنية إلى ما هو تحت الحدود المسموح بها قانونيا، تعود في واقع الأمر إلى أرباب العمل الذين يرغبون في التوفير من خلال هذا الباب، ولا يجدون من يقبل بهذه الشروط المجحفة سوى “البدون”، على الرغم من تعرضهم إلى مخاطرة مواجهة مباشرة مع السلطات حيث تقوم بجولات تفتيشية من حين إلى آخر وبشكل غير دوري في أماكن عملهم.
أكثر القطاعات استغلالا للـ”بدون” هي أعمال النظافة والشؤون المنزلية والعمل في النوادي الليلية، وضحاياه من النساء، وتنقل الصحف من حين إلى آخر وقائع مؤسفة عن سوء استغلال وضعهن الغير قانوني وتقليص أجورهن فيصل أحيانا إلى أنهن يعشن على الكفاف، مكتفيات بأقل من القليل، عسى أن يجدن يوما ما مخرجا.
مأساة البدون ليست فقط في خوفهم من الشرطة ثم ترحيلهم، وإنما أيضا في القلق النفسي والمعاناة التي يتكبدونها لاضطرارهم البقاء دائما في الظل، فلا يتمكنون من الالتحاق بأي نوع من التأمين الصحي، ولا يمكنهم التحرك بحرية مطلقة خوفا من سؤال عفوي لشرطي فينكشف المستور، وتزداد المأساة إذا كان الـ”بدون” ليس فردا بل أسرة، فلا يمكن للأطفال الذهاب إلى المدارس أو ممارسة حياتهم بشكل طبيعي كغيرهم.
توقع إغلاق ملف “البدون” في سويسرا بشكل نهائي أمر غير وارد، ومما لاشك فيه أن علاجه ليس بالسهل، فالتعامل معه يتطلب التوفيق بين عين الرحمة وعين القانون، وهي المشكلة الحقيقية التي تواجه السلطات.
تامر أبوالعينين
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.