الثوابت والمتغيرات اليمنية
تؤشر الأحداث المتواترة التي تشهدها الساحة اليمنية على تغير الكثير من المعطيات السياسية التي كان يُنظر لها كثوابت.
هذه الثوابت ظلت تحكم المشهد السياسي اليمني طيلة العقد الأخير على أكثر من مستوى.
هناك مؤشرات أولية على أن مسألة التطرف الديني، كما بدت من خلال أحداث العنف المنسوبة للعناصر الدينية، قد كشفت عن تراكم طويل لثقافة سياسية تقوم على إقصاء الآخر وتكفيره، وأن هذه الثقافة لم تكن إلا محصلة طبيعية لما يتلقفه طلاب المؤسسات التعليمية الدينية، التي انتشرت بشكل كبير خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وبدأت الكثير من الأصوات تتعالى في وضع حد لتنامي تلك المؤسسات، التي ترى أنها وراء إنتاج ثقافة التطرف والعنف، خاصة بعد نشر الصحافة اليمنية لمحاضر استجواب منفذي العمليتين الأخيرتين ضد الأمين العام للحزب الاشتراكي جار الله عمر والأطباء الأمريكيين في مستشفى السلام بجبلة، إذ كشفت أقوالهما أنهما ينطلقان من مرجعية ثقافية تعبوية لا مجال فيها للتسامح أو الندم على ما اقترفاه .
وفي سياق متصل، يبدو أن خروج الحكومة اليمنية عن صمتها لأول مرة حيال ملف الإرهاب، وعرضها تقريرا أورد فيه رئيس الحكومة عبدا لقادر باجمال أمام مجلس النواب، وبالتفصيل، عددا من المؤشرات الدالة على أن العنف بات عنفا منظما يهدد استقرار المجتمع والدولة، وأن السلطات اليمنية ماضية في تجفيف منابعه ومحاصرته بالتعاون مع كل من يمد يد العون لاستئصال هذه الآفة التي ألحقت أضرارا جسيمة باليمن وأصبحت تهدد استقراره الاقتصادي والسياسي والاجتماعي .
اللعب بالنار؟
وهذا يعني بطبيعة الحال في نظر المتابعين للشؤون اليمنية، فتح الباب على الكثير من الاحتمالات التي تستوجبها مكافحة هذه الظاهرة، وهو ما تؤكده وسائل الإعلام والصحافة الرسمية والحزبية، خاصة صحافة المؤتمر الشعبي العام “الحاكم” التي كانت أكثر وضوحا في إشارتها إلى مكامن المعضلة، عندما ذهبت إلى تسمية أطراف بعينها في التجمع اليمني للإصلاح بأنها وراء شيوع ظاهرة التطرف والتعصب الديني في المجتمع اليمني، داعية إلى إعادة النظر في الكثير من البنى التحتية والمؤسسية التي تعتبرها المفرز الفعلي لثقافة الإقصاء والتكفير.
ويعني هذا بروز إرهاصات واضحة لمواجهة محتملة بين السلطة وحزب التجمع اليمني للإصلاح قد تسفر عن خلخلة أهم الثوابت التي ميزت علاقة النظام بالحركة الإسلامية في اليمن خلال العقود الثلاثة الأخيرة في اليمن، وأيضا بين هذا الحزب والأحزاب السياسية المعارضة الأخرى التي حملت صحفها بشدة على الغلو والتطرف الديني، وربما قد يمتد هذا التوتر إلى داخل مكونات الحزب ذاته .
ومن بين الثوابت التي قد تتغير على ضوء هذه المعطيات، أن اليمن ظل يُنظر إليه على الدوام كالدولة العربية النموذج في التعامل مع الحركة الإسلامية، كونها كانت الدولة العربية السباقة إلى فسح المجال للحركة الإسلامية في النشاط السياسي، فيما اتجهت العديد من البلدان العربية إلى حظر نشاط الحركات الإسلامية، بل إن علاقة السلطات اليمنية بهذا التيار تميزت خلال فترات عديدة بالتعايش والتوافق الذي وصل إلى أعلى مراحله بالتحالف بين الطرفين، خاصة في السنوات التي تلت الوحدة وخلال حرب صيف 1994، وحتى الانتخابات النيابية عام 1997.
هل هي القطيعة؟
لكن التوترات بدأت تهيمن على هذه العلاقة، ثم جاءت الأحداث الأخيرة بما رافقها من اتهام إلى التجمع اليمني للإصلاح، تحديدا إلى بعض من قياداته ومؤسساته بتغذية التطرف الديني بداية لمرحلة جديدة، لاسيما أنه بعد أعمال العنف الأخيرة، تزايدت الدعوات المنادية بإعادة النظر في تعيين خطباء المساجد، ومن بينهم أعداد كبيرة ينتمون إلى التجمع اليمني للإصلاح، وإخضاعهم للإشراف المباشر لوزارة الأوقاف. وهذا الإجراء إذا ما تم فعلا، سيكون بمثابة المسمار الأخير في نعش تلك العلاقة التوافقية بين السلطة والتيار الإسلامي في اليمن.
المتغير الآخر الذي قد يطرأ على المشهد السياسي اليمني يهم علاقة حزب الإصلاح بالمعارضة، حيث تتفق المعارضة اليوم على تجفيف منابع التطرف والقضاء على بؤر الكراهية داخل المجتمع، خاصة بعد أن ورد في محاضر اعترافات منفذي الاعتداءين الأخيرين أسماء لبعض قياديي المعارضة اليمنية مرشحة للتصفية، على اعتبار أنهم علمانيون، وهذا بحد ذاته سبب كاف لحمل أحزاب المعارضة اليمنية على اتخاذ موقف حازم من أجل القضاء على كل مصادر التحريض والتعبئة لثقافة التطرف والعنف والكراهية في البلاد، بما فيه ما يصدر عن خطباء المساجد من استهداف لمن يسمونهم بالعلمانيين.
وهذا الموقف الداعي إلى مكافحة التطرف على كل المستويات، إلى جانب المطالبة بالكشف عن ملابسات اغتيال الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي جار الله عمر خلال المؤتمر العام الثالث لحزب التجمع اليمني للإصلاح، قد ينعكس على مستقبل العلاقة بين أحزاب المعارضة والإصلاح.
المتغير الأخير في المشهد السياسي اليمني، أن حزب الإصلاح بات مطالبا بإعادة النظر في تكويناته المختلفة وفك الارتباط بينه وبين بعض الأطر المحسوبة عليه، والتي تميل في مواقفها إلى التشدد في نظرتها وتعاملها مع قواعد اللعبة السياسية الديموقراطية.
وبالتالي، يتعين عليه طرح خطاب أكثر اعتدالا وقبولا بالآخر، وذلك ما بدأ يتشكل في الآونة الأخيرة، حيث بادر عدد من قياديي تجمع الإصلاح إلى التشديد على حقوق الإنسان والحريات العامة والديموقراطية.
ويرى المراقبون أنه إذا كان التجمع اليمني للإصلاح قد بادر إلى إدانة مثل تلك الأعمال الإرهابية وأعتبرها أعمالا بعيدة عن قناعته وتوجهاته، إلا أن ذلك لا محالة، سيطرح عليه إعادة النظر في مكونات الحزب ومؤسساته، بما قد يفضي إلى تبلور حركة دينية ديموقراطية على غرار الحركات الإسلامية السياسية التي برزت في العديد من البلدان الإسلامية على النقيض مع الحركات الميالة إلى المغالاة والتشدد.
إجمالا، يمكن القول إنه في خضم تفاعلات وتداعيات الأحداث الأخيرة التي تعيشها اليمن، لابد أن تتشكل معطيات جديدة تخلق ظروفا سياسية مغايرة لكثير من جوانب الثوابت التي ظلت تطبع المشهد السياسي اليمني خلال العقد المنصرم وستنعكس على المستقبل السياسي للبلاد، لاسيما أن الانتخابات التشريعية المقبلة في 27 أبريل القادم على الأبواب، ولا يمكن لها أن تجرى بمعزل عن تأثير تلك الأحداث.
عبد الكريم سلام – صنعاء
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.