الخارطة الجديدة للانتشار العسكري الأمريكي
تتواصل على قدم وساق أوسع عملية لإعادة انتشار القوات الأمريكية المتواجدة بالخارج منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وتشير المعطيات المتوفرة والتوجهات المعلنة إلى أن منطقة الشرق الأوسط ستحتل قريبا الموقع الذي احتله غرب أوروبا أو شرق آسيا خلال حقبة الحرب الباردة.
تتمتّـع القوات الأمريكية في الوقت الحالي بشبكة واسعة من التسهيلات العسكرية التي تتيح لها التواجد أو التحرك “بشكل ما” في أراضى وأجواء ومياه معظم دول الشرق الأوسط فى ظل متغيرات تؤكد أن هذا الوضع سوف يستمر لفترة طويلة قادمة.
فالتوجهات الأمريكية المتعلقة بما يوصف بأنه “أوسع عملية إعادة انتشار لقواتها المتواجدة بالخارج منذ نهاية الحرب العالمية الثانية”، تُـشير إلى أن منطقة الشرق الأوسط سوف تحتل الموقع الذي احتله سابقا غرب القارة الأوروبية أو شرق آسيا خلال حقبة الحرب الباردة.
ووفقا للبيانات المُـعلنة، تتضمّـن خريطة تمركز أو تحرك الوحدات العسكرية التابعة “للقيادة المركزية” ما يزيد عن 79 موقعا عسكريا في 18 دولة من دول ما يسمى أمريكيا الشرق الأدنى في منطقتي الخليج و”المركز”، والقرن الإفريقي.
تضاف إليها التسهيلات الممنوحة لتلك القوات على مسرح شمال إفريقيا، وكذلك التواجد المكثف لوحدات كبيرة منها في وسط وجنوب آسيا حول وداخل أفغانستان. فمجال عمل تلك القيادة يشمل 25 دولة تقع على المساحة الممتدة بين باكستان شرقا إلى المغرب غربا، وهي منطقة وصفها مسؤول أمريكي بارز يوما ما بهلال الأزمات.
الشبكة الأمريكية
لكن على الرغم من أن الولايات المتحدة كانت دائما إحدى أقوى الدول ذات النفوذ العسكري في المنطقة، فإن أوضاع انتشار قواتها حاليا يعد نتيجة لتطورات محددة. فقد كانت “التسهيلات العسكرية” المؤقتة أو المحدودة هي التي تمثل الشكل الرئيسي للوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط حتى عام 1990، إذ لم تكن هناك “قواعد عسكرية رئيسية” على غرار القواعد الأمريكية في ألمانيا وإيطاليا واليابان، أو ما كان قائما بالمنطقة ذاتها خلال حقبة الاستعمار (الحبانية في العراق، وعدن في اليمن، وهويلس في ليبيا).
وقد أدّت تداعيات حرب الخليج الثانية (1991) إلى تحول كبير في شكل الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، ومنطقة الخليج تحديدا، في اتجاهين:
الأول، اتساع نطاق التسهيلات العسكرية المقدمة للقوات الأمريكية في قواعد، ومحطات، وموانئ، ومطارات، ومعسكرات، ومراكز الغالبية العظمى من دول المنطقة ذات العلاقة بالولايات المتحدة، وبعض الدول التي لا يبدو أنه تربطها علاقات سياسية قوية بها. وتتضمن تلك التسهيلات، حق استخدام المجال الجوى، وزيارة المواني، واستخدام المطارات العسكرية، وعمليات النقل الجوي والانتشار المتقدم، وخدمات الوقود والصيانة، وتخزين الأسلحة، إضافة إلى المناورات العسكرية المشتركة.
الثاني، تزايد عدد القواعد العسكرية الرئيسية ليصل إلى خمس قواعد عسكرية في دول الخليج. وتأتي أهمية تلك القواعد أنها تشكل مراكز عمليات رئيسية شبه متكاملة، تتمتّـع باستقلالية نسبية، وقدرة عامة على دعم عمليات قتال جوية أو برية أو بحرية، سواء من خلال تمركز عناصر من تلك القوات فعليا فيها، أو تجهيز القاعدة لانتشارها وقت الحاجة.
ويُـمكّّـن ذلك القوات الأمريكية من إدارة عمليات عسكرية رئيسية بشكل سريع في اتجاهات مختلفة، دون حاجة لخطط حشد كبرى، كما حدث عام 1990 في عملية “درع الصحراء”، أو إتمام ذلك الحشد بشكل سريع كما تم قبل حرب العراق الاخيرة.
لكن ما حدث بفعل حرب الخليج الثالثة (2003)، كان أكثر إثارة. فقد قامت القوات الأمريكية باحتلال إحدى دول المنطقة، وهي العراق، التي تتمركز بها اليوم قوة أمريكية ضخمة.
فمن بين ما يقدر بحوالي 350 ألف جندي أمريكي ينتشرون في حوالي 130 دولة حول العالم، يعمل أكثر من 100 ألف جندي أمريكي، انطلاقا من أكثر من 150 موقع عسكري داخل العراق، بحيث أصبح سائدا أن الولايات المتحدة أصبحت إحدى دول الشرق الأوسط، خاصة بالنسبة لدول كإيران وسوريا.
القواعد العسكرية في الخليج
إن التفاصيل هنا توضّـح عمليا ما تعنيه “الملامح العامة” التي يشار إليها بالنسبة للدول العربية.
فالقوات الأمريكية تتمتّـع بوجود عسكري قوي في البحرين، يرتبط بتسهيلات مختلفة في ميناء سلمان، ومطار المحرق، وقاعدة الشيخ عيسى الجوية، لكن قاعدة الجفير العسكرية القريبة من المنامة، تمثل واحدة من أهم القواعد العسكرية في الخليج، حيث تضم مركز قيادة الأسطول الخامس الأمريكي، ومركز قيادة القوات الخاصة.
كما تتمركز عناصر مختلفة من القوات الأمريكية في معظم المواقع العسكرية الكويتية الرئيسية تقريبا، في قاعدة أحمد الجابر الجوية، ومعسكر الدوحة، وجزيرة فيلكا، ومطار الكويت الجوي، وميناء الأحمدي، لكن أهم المواقع العسكرية الأمريكية توجد في قاعدة علي السالم، ومعسكر أريفجان، حيث تتمركز قوة جوية وبرية رئيسية، وعناصر تابعة لقيادة الجيش الأمريكي.
وقد أصبح الوجود العسكري الأمريكي في قطر يتسم بالقوة في الفترة الأخيرة. فقد كانت التسهيلات العسكرية الأمريكية تتركز في وجود مخازن أسلحة ومعدات لتشكيل عسكري بحجم لواء، وتسهيلات مختلفة في معسكر السيلية ومطار الدوحة الدولي ومنطقة أم سعيد. لكن قاعدة العديد العسكرية تحوّلت إلى واحدة من أهم القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج، خاصة بعد نقل مقر القيادة المركزية من فلوريدا إليها عشية بدء الحرب على العراق.
ولقد كانت التسهيلات العسكرية السعودية تُـمثل أقوى مواقع تواجد للقوات الأمريكية في الخليج منذ عام 1990، قبل أن تشهد علاقات الطرفين تحوّلات هامة قبل حرب العراق، خاصة قاعدة الأمير سلطان الجوية جنوب الرياض، التي كانت تضم قيادة القوات الجوية الأمريكية في الخليج، ولا تزال هناك، على ما يبدو، تسهيلات عسكرية مختلفة لعناصر متعددة من القوات الأمريكية في الدمام، والهفوف، والخبر، وتبوك، وينبع، والظهران.
كما أصبحت سلطنة عُـمان من أكثر مواقع الوجود العسكري فعالية في المنطقة، خاصة بعد مشاركة القوات الأمريكية والبريطانية المتواجدة بها في حرب أفغانستان. وتتركّـز التسهيلات العسكرية الممنوحة للولايات المتحدة في ميناء قابوس، وميناء صلالة، ومطار السيب الدولي.
وهناك عناصر رئيسية تابعة للقوات الجوية في قاعدة المثنى الجوية، وقاعدة تيمور الجوية، وتمثل قاعدة مصيرة العسكرية واحدة من أقوى مواقع التمركز الأمريكي – البريطاني في الخليج.
وتتمتع القوات الأمريكية أيضا بعناصر مختلفة من التسهيلات العسكرية في عدد من المواقع الإماراتية، كقاعدة الظافرة الجوية بأبو ظبي، ومطار الفجيرة الدولي، وعدد من الموانئ البحرية، كميناء زايد، ومينائي رشيد وجبل على بدبي، وميناء الفجيرة. وتتواجد في الإمارات وحدة عسكرية أمريكية، وبعض طائرات الاستطلاع.
تسهيلات عسكرية متنوعة
خارج نطاق الخليج، لا تزال التسهيلات العسكرية تُـمثل الشكل الرئيسي لتواجد القوات الأمريكية. فإضافة إلى قاعدة “إنجيرليك” في تركيا، ومخازن الطوارئ في إسرائيل، تتمتّـع الوحدات العسكرية الأمريكية بتسهيلات مختلفة في اليمن، اتسع نطاقها في إطار الحملة على الإرهاب، لتشمل عناصر مختلفة للدعم والتدريب، خاصة بالساحة اليمنية ذاتها.
وتتركّـز التسهيلات العسكرية التقليدية في اليمن عادة في ميناء عدن، ذي الموقع الإستراتيجي، والذي يُـعتبر محطة رئيسية لخدمات الوقود والصيانة الخاصة بالوحدات البحرية، والذي شهد واقعة استهداف المدمرة “يو إس إس كول” في أكتوبر 2000.
ومع أن جيبوتى التي كانت تقع دائما ضمن “دائرة فرنسا” (حيث تتمركز بقاعدة جيبوتي العسكرية قوة فرنسية كبيرة العدد يصل عددها إلى 3900 جندي)، إلا أن القوات البحرية والجوية الأمريكية تتمتّـع حاليا بتسهيلات في الموانئ والمطارات بجيبوتى.
كما تتمركز عناصر من قوة عمليات القرن الإفريقي في معسكر المنير التابع لفرنسا، أضيفت إليها محطة عسكرية تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، تتبعها طائرات بدون طيار (بريداتور) تقوم بمهام استطلاعية وعنيفة.
من جهة أخرى، توجد علاقات عسكرية مفتوحة بين الأردن والولايات المتحدة، تُـتيح تواجدا عسكريا أمريكيا قويا وقت الضرورة. لكن في الوقت الحالي، توجد تسهيلات عسكرية أمريكية في قاعدة الشهيد موفق الجوية بالزرقاء، ويتواجد فيها عسكريون تابعون للقوات الجوية الأمريكية، وميناء العقبة الذي تُـقدّم فيه خدمات مختلفة للقوات البحرية الأمريكية. وتجرى بانتظام تدريبات عسكرية مشتركة بين الجانبين، تتواجد القوات الأمريكية في إطارها لفترات طويلة في الأردن.
وترتبط مصر أيضا بعلاقات عسكرية قوية متعددة المستويات مع الولايات المتحدة، تتخذ شكل تعاون تسليحي، ومساعدات عسكرية وتدريبات مشتركة. وتشمل التسهيلات العسكرية المقدمة إلى الولايات المتحدة في مصر، تسهيلات للقوات البحرية في الموانئ مثل بورسعيد والسويس والغردقة، التي تكتسب أهميتها في ظل المرور المكثف بقناة السويس، وتسهيلات خاصة بعمليات تدريب النجم الساطع المشتركة التي أوقفت. لكن أهم التسهيلات المقدمة للقوات الجوية الأمريكية في مصر توجد في قاعدة غرب القاهرة الجوية.
حلفاء جدد ومحطة وصول
وفي الآونة الأخيرة، برزت دلائل قوية على احتمال امتداد شبكة التواجد العسكري الأمريكي في اتجاه شمال إفريقيا. فدول المغرب العربي ترتبط بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة، إلا أن حجم التهديدات القائمة في تلك المنطقة لم يكن يتطلب وجود تسهيلات عسكرية ذات أهمية تتجاوز تسهيلات العبور، لكن يبدو أن هذا الوضع قد يشهد تغيرا بدرجة ما في المرحلة القادمة.
فهناك تقارير حول نقاش يدور داخل “القيادة الأوروبية” التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، حول إمكانية نشر وحدات أمريكية في المغرب وتونس على الأقل، في إطار تصوراتها الخاصة بإعادة تنظيم هيكل قيادتها ليشمل شمال إفريقيا التابعة عملياتيا إلى القيادة المركزية.
ومع أن مجال عمل قيادة أوروبا، فيما يتصل بالقارة الإفريقية، هو جنوب الصحراء الكبرى، إلا أن قيادتها الحالية تتصور أن نشر قوات تابعة لها في شمال إفريقيا، يمكن أن يوفر حلا أفضل للتعامل السريع مع مشكلات القارة التي يتصاعد الاهتمام الأمريكي بها.
وبصرف النظر عما إذا كان ذلك سيتم أم لا، يوجد اهتمام فعلي من جانب الولايات المتحدة بتدعيم العلاقات العسكرية مع المغرب التي أصبح يُـنظر إليها كشريك مهم في الحملة ضد الإرهاب، على نحو ما يوضح القرار الأمريكي بمضاعفة المساعدات العسكرية المقدمة لها. كما أن تونس تُـعتبر قاسما مشتركا في كل المشروعات الخاصة بالتواجد العسكري “الغربي” في شمال إفريقيا.
وهكذا، فإنه على الرغم مما يُـثار من أن الإدارة الأمريكية لم تتخذ بعد، في إطار خطط إعادة نشر قواتها حول العالم، قرارات محددة بشأن حجم القوات التي ستتحرك، والمناطق التي سيتم سحبها منها أو تمركزها فيها، فإن التوجهات العامة للعملية أصبحت واضحة، بل أنها قد بدأت تنفذ عمليا.
إن أسس تلك الخطط هي أن الولايات المتحدة أصبحت في حاجة إلى هيكل جديد لإعادة تمركز القوات، يتلاءم مع طبيعة تهديدات القرن الحادي والعشرين التي يصعب التنبؤ بها، والتي بدأت تتصاعد خلال مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة، كالإرهاب الدولي، والدول المارقة (أو دول محور الشر)، وأسلحة الدمار الشامل.
ويبدو بوضوح أن الشرق الأوسط، ومنطقة وسط آسيا الملحقة به، يمثل “محطة الوصول” النهائية للقوات الأمريكية، كما يبدو أيضا أنها سوف تستقر في الإقليم طويلا، إذ لا يوجد فيما وراء الأفق ما يُـشير إلى وجود نهاية قريبة لمشكلات الشرق الأوسط المتعددة.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.